مجلة الرسالة/العدد 932/بريطانيا العظمى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 932/بريطانيا العظمى

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 05 - 1951



للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

سيدة البحار، وزعيمة الدول الديمقراطية وأولى الدول الصناعية، وأكبر الدول الاستعمارية، ودينامو السياسة الدولية. بهذه الكلمات وصفنا بريطانيا في مقالنا السابق.

ولعل القارئ الكريم يسألني كيف استطاعت بريطانيا أن تكون لنفسها هذه المكانة الممتازة وأنا أجيبه بأن ذلك يرجع أولا وقبل كل شيء إلى الخلق البريطاني.

الخلق البريطاني

يمتاز الشعب البريطاني بمتانة أخلاقه وبثباته واستقراره وبحب أفراده لوطنهم حباً لا مزيد عليه، ومسارعتهم للتضحية في سبيله؛ ولعل ذلك راجع إلى تأثير المناخ، فإن بريطانيا تمتاز بأن شتاءها بارد نوعاً، تكتنفه الغيوم ويغشاه السحاب، وقد دفع ذلك الشعب إلى النشاط لمكافحته والتغلب على متاعبه، وهذا بدوره قد عود الشعب على الكفاح والجلاد والجهاد.

ولا تبدو حقيقة الخلق البريطاني واضحة جلية إلا في أثناء الأزمات التي تتعرض لها بريطانيا، فإن الشعب يتكتل في أثناء تلك الأزمات، ويقف صفاً واحداً للدفاع عن الوطن وعن تراثه. وقد كانت أخطر الأزمات التي تعرضت لها بريطانيا كثيرة ولكن أهمها كانت أربعاً:

أما الأزمة الأولى فقد كانت تلك التي تعرضت لها أثناء صراعها مع أسبانيا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وقد كان صراعاً عنيفاً بين دولتين: إحداهما تتزعم الدول الكاثوليكية وهي إسبانيا، والثانية تتزعم الدول البروتستانتية وهي إنجلترا. ويقول أحد المؤرخين ما ترجمته: (ومن حسن الحظ أنه عند اقتراب الأزمة الكبيرة كان الخلق البريطاني يكتب أخص مميزاته وهي الصلابة وشدة المقاومة) وقد عرف البريطانيون قوتهم فرحبوا بالنزال المقبل، وفعلاً أرسل فيلب الثاني أسطوله المعروف بالأرمادا؛ والمؤلف من 132 سفينة (وفي وجه الخطر المقبل تنوسيت الخلافات القديمة وحل محلها نشاط قومي أدى إلى وحدة جميع الأحزاب) ووقف الشعب الإنجليزي برياسة ملكيته إليصابات في وجه الخطر الإسباني، وكون أسطولاً من 197 سفينة، واستطاع أن يح الأرمادا، وبذلك نجت بريطانيا من الخطر المحدق بها، وبدأت سيادتها البحرية.

وأما الأزمة الثانية فكانت تلك التي تعرضت لها بريطانيا في أثناء صراعها مع فرنسا في عصر الثورة ونابليون (1793 - 1814) وقد انتهى الأمر بانتصارها وسقوط نابليون.

وكانت الأزمة الثالثة التي انتابتها هي الحروب العالمية الأولى 1914 - 1918 ونضالها مع ألمانيا، وقد خرجت منها ظافرة.

وأما الأزمة الأخيرة فكانت الحرب العالمية 1939 - 1945 وقد انتصرت فيها على ألمانيا وحطمت هتلر طاغية القرن العشرين.

ولعلنا نذكر تشر شل رئيس وزرائها 1942 بعد سقوط فرنسا تحت أقدام الألمان، ولعلنا نذكر كلماته التي واجه بها الشعب في ذلك الوقت الحرج: (أني أقدم لكم الدم والدموع) فهو لم يخدع الشعب ولم ينافق، بل تكلم في صراحة وعرض الموقف على حقيقته، فهو يعلم أن خداع الشعب ليس من المصلحة في شيء، وأنه إذ يصارح الشعب بحقيقة الموقف فإنما يدفعه إلى الجلاد والكفاح، وهو وثق من أن الشعب سيقبل على التضحية في سبيل الوطن وقد كان إذ ثبتت بريطانيا وانتصرت.

وتروعك الأمثلة الكثيرة التي تقدم لك عن مدى تضحية الإنجليز في سبيل وطنهم، فالتجنيد هناك ليس إجبارياً ولكن القوم يسارعون إلى التطوع من تلقاء أنفسهم خدمة لوطنهم، وقد قرأت ذات مرة أن أربعة أخوة كانوا يقيمون معا أثناء الحرب العالمية الأولى، فلما قامت الحرب حاول كل منهم أن يقنع الآخرين بأن يتركوا له فرصة التطوع، وأن يبقوا هم آمنين في دارهم، وتظاهروا بالاقتناع، فلما كان الغد أقبل كل منهم يسعى إلى مكتب التطوع لتسجيل اسمه، وهناك التقي الأخوة الأربعة ورفض كال منهم أن ينزل عن شرف المساهمة في الدفاع عن الوطن وتطوعوا جميعاً!!

ويذكرني هذا بما كان من أمر الخنساء ومن أمر بينها الذين استشهدوا في فتح فارس، وجاء رسول الجيش إلى المدينة ليبلغ الخليفة عمر نبأ انتصار المسلمين؛ ولقيته الخنساء فسألته عن الأمر فأجابها: (لقد قتل بنوك). فقالت له (ما سألتك عن أبنائي ولكني أسألك عما كان من أمر الجيش) فأجابها: (لقد انتصرنا) فرفعت يديها إلى السماء قائلة (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم). لكني أوازن بين ما كان وبين ما هو كائن فأرى فرقاً شاسعاً فهل يعود إلينا الأيمان؟؟

وقد كنت على سفر سنة 1942 وكان معي أحد أطفالي وجلس معنا أحد أفراد القوات الحربية البريطانية؛ فوجدته يحاول إخفاء شعور قوي جارف يتملكه، ثم رأيته يداعب طفلي فبدأت أحدثه: (لست أدرى أيها الصديق ما سر شغفك بطفلي هذا) فجابني أجابني أأأجاأجابني (إن لي طفلاً في مثل سنه) فقلت له (وأين هو؟) قال: (في لندن) قلت (ومع من يقيم) قال مع والدته فقلت وأين تعمل قبل خدمتك بالجيش) قال (كنت موظفاً في لندن) قلت له (فمن الذي ينفق الآن على وزجك وطفلك) قال (إن زوجي قد شغلت مركزي وإن الحكومة تدفع لها نفس المرتب الذي كنت أتقاضاه) قلت له (وكيف تنفق أنت) قال (إن الحكومة تدفع لي مرتباً بوصفي أحد رجالها المحاربين) قلت له (فإذا قتلت؟) قال (تدفع الدولة معاشاً لعائلتي يكفل لها الحياة الكريمة). وأنا أسوق هذه القصة لأثبت بها مدى تعاون الشعب في خدمة الدولة، ومدى رعاية الدولة لأفراد الشعب.

ولعل مما يدل على حب الشعب البريطاني للاستقرار دراسة لأحزاب السياسية في إنجلترا، إذ أننا نجد في بريطانيا حزبين كبيرين هما حزب العمال، وحزب المحافظين، وحزباً ثالثاً لا خطر له هو حزب الأحرار. ولا تختلف الأحزاب السياسية في بريطانيا في سياستها الخارجية، فالسياسة الخارجية مرسومة موضوعة، ولكنهم مختلفون في السياسة الداخلية، فحزب العمال يؤمن بأن (العرض الحق من المجتمع هو أن يرفع ويحفظ كرامة ورفاهية الفرد) ويؤمن بأن من حق العمال على الدولة أن يعيشوا كراماً، وأما حزب المحافظين فهو يتكون من الرأسماليين وكبار الملاك، وهم حريصون أشد الحرص على تدعيم كيان الإمبراطورية البريطانية.

استقالة:

أن الشعب البريطاني يمتاز بتقديسه لحريته، وهو لا يقبل أن تقيد أبداً، وقد يختلف أفراده رأياً ولكنهم يجتمعون في النهاية على هدف واحد هو خدمة بريطانيا.

ولعل من أروع الأمثلة التي أستطيع أن أقدمها للقارئ الكريم مما يدل على مدى حب الإنجليزي لحرية رأيه وحرصه على تحقيق المبادئ التي يؤمن بها؛ ما كان من أمر استقالة مستر بيفان وزير العمل منذ أيام، فهذا الرجل كان وزيراً في وزارة العمال منذ سنة 1945 - قد كان في بدء حياته أحد عمال المناجم وكذلك كان أبوه - يمتع بجاه المنصب وسطوته ولكنا نراه يترك هذا المنصب الخطير من تلقاء نفسه حين يرى انه لا يستطيع تحقيق المبادئ التي يعتنقها، وهي العمل على أن تيسر الدولة للعمال الحياة الكريمة السعيدة. ويقول في كتاب استقالته ما ترجمته (إنه يستقيل لأنه لا يوافق على مشروع الميزانية الجديدة إذ أنه مشروع خاطئ إذ يرصد أموالاً طائلة لبرنامج التسلح مما يرهق الميزانية ولأنه يتخذ من رفع الأسعار وسيلة من وسائل الحد من الاستهلاك المحلي، ولأنه بدء لتحطيم الخدمات الاجتماعية التي كان يفخر بها حزب العمال إذ قررت زيادة الضرائب على الأسنان الصناعية والنظارات).

ويقول (إنه ليس مما يشرفني أن أقرن اسمي بتنفيذ سياسة لا يقرها ضميري ولا برضاها عقلي، وأني آسف إذ أشعر أني مضطر إلى اتخاذ هذه الخطوة بعد هذه السنين العديدة التي تعاونا فيها حكومة واحدة قامت بكثير من الخدمات لقضية العمال ولتقدم الجنس البشري).

ويقول (أن الوظائف العامة يجب أن يعهد بها إلى من يؤمنون بأنهم قادرون على النهوض بها) ويختتم استقالته متمنياً لرئيس الوزراء الصحة والعافية.

ويقبل رئيس الوزراء الاستقالة آسفاً وشاكراً له ما قدم من خدمات وتمنيات. ومع هذا فلم يفصل حزب العمال المستر بيفان من عضويته، وكذلك أعلن بيفان أنه لن يهاجم الحكومة لما يرجوه على يدها من خير للعمال. وهكذا تكون الشجاعة وحرية الرأي.

ويحرص أفراد الشعب البريطاني على أداء الواجب المطلوب منهم حرصاً تاماً، ويهتمون بالرياضة والألعاب الرياضية اهتماماً كبيراً. ومن كلمات ولنجتون المأثورة قوله (لقد كسبنا معركة واترلو فوق أرض ملاعبنا). ويمتاز البريطانيون بصبرهم وببر ودهم وسعة حيلتهم ودهائهم، ولعل موقف إنجلترا من روسيا في الحرب الأخيرة يظهر لنا ذلك واضحاً جلياً.

ففي سنة 1939 أرسلت إنجلترا وفرنسا بعثة لمفاوضة روسيا لعقد اتفاق لإتمام حركة تطويق ألمانيا، وبدأت المفاوضات ولكن ألمانيا أرسلت بعثة أيضاً لمفاوضة روسيا، فتوقفت مفاوضات روسيا مع مندوبي فرنسا وإنجلترا وبقوا بدون عمل، وانتهت المفاوضات بين روسيا وألمانيا بعقد ميثاق عدم اعتداء بين الدولتين وبعد ذلك طرد المندوبون الإنجليز والفرنسيون ولكن إنجلترا لم تغضب ولاذت بالصمت وتذرعت بالصبر. وقد كان من نتائج ميثاق عدم الاعتداء الألماني الروسي قيام الحرب الأخيرة؛ فإن ألمانيا وقد اطمأنت إلى سلامة حدودها الشرقية أشعلت نار الحرب.

وتقدم الألمان يفتحون البلاد غرباً وشمالاً وجنوباً حتى احتلوا شبه البلقان، وبدأت روسيا تسعى لتحقيق حلمها القديم وهو الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، فطالبت ألمانيا بأن تعطيها ميناء عليه، ولكن ألمانيا رفضت واضطرت إلى إعلان الحرب على روسيا. وسارعت إنجلترا إلى روسيا تمد يد المساعدة، وبواسطة الدم الروسي والعتاد الأمريكي كسبت بريطانيا الحرب العالمية الثانية.

أبو الفتوح عطيفة

مدرس أول العلوم الاجتماعية بسنمود الثانوية