مجلة الرسالة/العدد 931/الربيع في الشعر المصري
مجلة الرسالة/العدد 931/الربيع في الشعر المصري
اقترحت على الإذاعة أن أتحدث الليلة عن الربيع في الشعر المصري؛ وفي هذا الاقتراح وئام وانسجام مع (شم النسيم)؛ فأن الذين قضوا يومه البهيج المرح على بساط الربيع، يجتلون جمال الطبيعة المتبرجة في الزهر والنهر، ويستوعبون أسرار الحياة المنبثة في السماء والأرض، يسرهم أن يسمعوا تعبير الشعر عما شهدوه من جمال النيل، وأحسوه من فتنة واديه، ولم يستطيعوا الهتاف به ولا التعبير عنه. وما كان أحب إلى نفسي أن أهيئ لهم هذا السرور لو وجدت السبيل إليه؛ فإني قرأت ما نظم الشعراء المصريون قدماؤهم ومحدثوهم في الربيع المصري، فلم أجد فيه على قلته وتبعيته صدقا في الشعور ولا مطابقة للواقع. قرأت ما قال أبن وكيع التنيسي، وابن سناء الملك، وأبن الساعاتي، وأبن نباته، والشاب الظريف، وأبن مطروح، والبهاء زهير، من نوابغ المتقدمين؛ ثم قرأت ما قال شيوخ الشعر وشبابه من صفوة المتأخرين، فلم أجد إلا كلاما عاما يقال في كل ربيع، ووصفا مجملا يصدق على كل روضة! تعبيرات محفوظة من لغة الشعر، وتشبيهات منقولة من موروث البيان، صاغها كل شاعر على حسب طاقته وآلته، فجاءت وصفا لربيع مجهول لا حقيقة له في الخارج، ولا أثر له في الذهن. أما الشعور النفسي الذي يدرك الشاعر الأصيل في جو معين ومنظر محدود وزهرة خاصة، فيصل به بين النفس والطبيعة، وبين الفكر والصورة، وبين الفن والواقع فذلك ما لا أثر له فيه. ولعلك إذا استثنيت من أشعار العرب في الربيع، شعر أبن الرومي في العراق، وشعر البحتري في الشام، وشعر أبن خفاجة في الأندلس، وجدت سائرها من هذا النمط المصري الذي تجد فيه الألفاظ المبهمة، ولا تجد فيه المعاني الملهمة. فأشعارهم في الربيع أشبه بأشعارهم في الغزل، أقلها نفسي صادق يصدر عن القلب وينقل عن الوجدان؛ وأكثرها حسي كاذب يصدر عن الحافظة وينقل عن الكتاب. والمصريون أولى من غيرهم بالعذر إذا خلا شعرهم من وحي الربيع؛ لأن الربيع الذي يزور الأرض في أبريل ومايو، لا يزور مصر إلا في أكتوبر ونوفمبر. فالخريف في مصر هو الربيع الحق في نضرته وزينته وعطره. فأينما تدر بصرك في حقول الذرة وقصب السكر والبرسيم، لا تجد إلا رياضاً شجرا من شراب وحب، ومروجا فيحاء من زهور وكلأ. ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه كذوب التبر ينساب هادرا في الترع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافي الطرق، وحواشي الغيطان، سلاسل زبرجدية من الريحان والعشب. لذلك أمكن شعراء الريف في وصف الخريف وأبدعوا. وأما ذلك الربيع الجغرافي الذي يقبل على مصر مع الرياح الخمسينية والعواصف الرملية والتقلبات الجوية فإنه أرادا فصول العام. يطرد النسيم بالسموم، ويخنق العطر بالغبار، ويذبل الزهر باللهيب، ويرمي الطير بالبكم، وفسد المزاج بالوخومة. ثم يكون حلوله بعد رحيل شتاء هادئ جميل، في هوائه الدفء، وفي جوه الصحو، وفي سمائه الإشراق، وفي أيامه النشاط، وفي لياليه الأنس. فإذا رأيت الريف في الشتاء، رأيت الأرض على مدى البصر قد غطاها بساط من السندس الأخضر، تخف خضرته في حقول القمح فتكون كالزمرد، وتثقل في حقول البرسيم فتكون كالفيروز؛ فلا يجد الشاعر المصري وقد أنتقل من رقة هذا الشتاء إلى قسوة ذلك الربيع ما يجده الشاعر الأوربي من الحياة والمرح والبهجة والنشوة والطلاقة حين ينتقل من شتائه المكفن بالثلوج إلى ربيعه المكسو بالورود
للربع في الشعر الأوربي أرخم الأوتار وأعذب الألحان من موسيقى
الشاعر؛ لأن الشتاء في أوربا عناد طويل وهم ثقيل: ظلام متكاثف
يحجب السماء، ومطر واكف يغمر الأرض، وبرد قارص يهرأ
الأجساد، وغمام متراكم بسد الأفق فلا ترى شعاع شمس ولا خفقة
طائر؛ وثلج متراكب يطمر الثرى فلا تجد عشبة في مرج ولا زهرة
في حديقة. والناس هناك في حنين دائم إلى الربيع، لأنه في دنياهم
حياة بعد موت، وابتهاج بعد كآبة. ولشعرائهم فيما يبشرهم بمقدمة
رقائق من الشعر الشاعر، تقرأها في البشريات الأولى، كشيوع الدفء
في النسيم، ودبيب الحياة في الشجر، وعودة العصفور المهاجر إلى
عشه، وخرير الجدول الجامد بعد صمته. فإذا أقبل الربيع متعهم بما
حرموه طويلا من جلوت الطبيعة في الأفق المشرق، والروض البهيج، والجو المعطر، والطير الصادحة، والضواحي الأنيقة، والغابات
الوريفة، والمتنزهات اللاعبة. والربيع الأوربي على الجملة تغيير في
النفس وتجديد في الحياة. والتغير والتجدد يلهمان القرائح الخلاقة شعرا
يمتزج فيه الوجدان بالوجود، ويتصل به الخيال بالحقيقة.
أما شعراءنا المصريون فأي جديد يأتيهم به الربيع في آفاقهم وفي أنفسهم؟ إن الشمس والدفء والصحو والطير والزهر والزرع والماء من خصائص مصر الطبيعية، لا تنفك عنها طيلة العام، حتى ألفتها المشاعر والنفوس، فلا تشتاقها لأنها لا تغيب، ولا تحتاجها لأنها لا تنقطع. ومن هنا تشابهت الفصول الأربعة في حس الشاعر، فلا يكاد يرى اختلافا بينها إلا في حيوية الشتاء وشاعرية الخريف. ولذلك لم يجد الشعراء ما يقولونه في الربيع. فإذا قالوا مدفوعين بغريزة المحاكاة أو بشهوة المعارضة، قالوا كلاما قد يكون منضد الألفاظ، مجود التشابيه، ملون الصور؛ ولكن الفرق بينه وبين الشعر الصحيح يكون كالفرق بين الجماد والحي، أو بين الدمية والمرأة
ولقد نظرت في شعرنا القديم والجديد فلم أر شاعرا قبل شوقي ولا بعده خص الربيع بقصيدتين من محكم الشعر وجيده، إحداهما طويلة مستقلة، أهداها إلى الكاتب القصصي هول كين، والأخرى قصيدة تابعة جعلها صدرا لقصيدته التي نظمها في المهرجان الذي أقيم لتكريمه، يقول في الأولى:
آذار أقبل قم بنا يا صاح ... حي الربيع حديقة الأرواح
وأجمع ندامى الظرف تحت لوائه ... وأنشر بساحته بساط الراح
صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها ... فالصفو ليس على المدى بمتاح
واجلس بضاحكة الرياض مصفقا ... لتجاوب الأوتار والأقداح
إلى أن يقول:
ملك النبات فكل أرض داره ... تلقاء بالأعراس والأفراح
منشورة أعلامه من أحمر ... قان وأبيض في الربى لماح
لبست لمفدمه الخمائل وشيها ... ومرحن في كنف له وجناح الورد في سرر الغصون مفتح ... متقابل يثني على الفتاح
ضاحي المواكب في الرياض مميز ... دون الزهور بشوكة وسلاح
مر النسيم بصفحتيه مقبِّلا ... مر الشفاه على خدود ملاح
هنك الردى من حسنه وبهائه ... بالليل ما نسجت يد الأصباح
ينيبك مصرعه وكل زائل ... أن الحياة كغدوة ورواح
ويقائق النسرين في أغصانها ... كالدر ركب في صدور رماح
والياسمين لطيفة ونقيه ... كسريرة المتنزه المسماح
متألق خلل الغصون كأنه ... في بلجة الاصباح ضوء صباح
ثم يقول في الأخرى:
مرحباً بالربيع في ريعانه ... وبأنواره، وطيب زمانه
زفت الأرض في مواكب (آزا ... ر) وشب الزمان في مِهرجانه
نزل السهلَ ضاحك البشر؛ يمشي ... فيه مشي الأمير في بستانه
عاد حَلياً براحتيه ووشياً ... طول أنهاره، وعرض جنانه
لف في طيلسانه طور الأ ... ض فطاب الأديم من طيلسانه
ساحر، فتنة العيون، مبين ... فصَّل الماء في الربا بجمانه
عبقري الخيال، زاد على الطيف، وأربى عليه في ألوانه
صبغة الله، أين منها رفائيل، ومنقاشه وسحر بنانه؟
رَّنم الروض جدولا ونسيما ... وتلا طيرَ أيكه غصن بانه
وشدت في الربا الرياحين همساً ... كتغني الطروب في وجدانه
كل ريحانة بلحن؛ كعرس ... أُلفت للغناء شتى قيانه
نغم في السماء والأرض شتى ... من معاني الربيع، أو ألحانه
هذه وتلك أيها السادة أبيات من قصيدتي شوقي في الربيع؛ وهما كما علمتم مما سمعتم مثالان من الشعر العالي الطبقة الرفيع النسق إذا وازناهما بالمأثور من الشعر المصري في هذا الباب، وربما انقطع نظيرهما أو ندر في الشعر العربي كله! ولكننا إذا وازناهما بما قرأنا في موضوعهما من الشعر الأوربي شالت كفتهما في هذه الموازنة. فإن شوقي رحمه الله جرى على مذهب من سبقوه، فلم يصف فيهما ربيعا بعينه، في إقليم بعينه، يصح أن يخلط به نفسه، ويضيف إليه شعوره، ويعرض ما يرى فيه من شجر وطير وعطر وفتون، على ما يجد في نفسه من حب وذكرى ونشوة وصبابة، فيأتلف المنظر والناظر، ويتحد الشعور والشاعر؛ إنما وصف شوقي ربيعا عاما كما تخيله لا كما رآه، وكما تمثله لا كما أحسه، فجاء الوصف معجما مبهما قد يعجب ويطرب بألفاظه، ولكنه لا يؤثر ولا يعرب بمعانيه. والقصيدتان على أي اعتبار مشاركة جميلة من الشعر المصري للشعر العالمي في تمجيد ذلك السر الذي يبثه الله كل سنة في الربيع، فيعيد الحياة، ويرجع الشباب، ويجدد الأمل، وينشر الجمال، وينشأ عنه في الدنيا هذا البعث العجيب!
أحمد حسن الزيات