مجلة الرسالة/العدد 929/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 929/رسالة الفن
حول النحت الفرنسي المعاصر
للأستاذ أحمد محمد حسنين
منذ أسابيع قليلة أتيح لنا أن نشاهد معرضا للنحت في قاعة (الليسيه فرانسيه) تضمن مجموعة غير قليلة من أعمال النحاتين الفرنسيين المحدثين وبعض أعمال طائفة من النحاتين المصريين. والأمر الذي يثير الدهشة حقا هو عدم احتفال معظم نقادنا وكتابنا بالكلام - مجرد الكلام - عن النحت الفرنسي بالرغم من أن فرصة مناسبة قد سنحت للمقارنة بينه وبين النحت المصري. ونود قبل أن نجري حديثا عابرا عن النحت الفرنسي المعاصر أن نوجه الشكر إلى معالي الدكتور طه حسين باشا صاحب الفضل الأول في تهيئة هذا المعرض النادر. ولعلنا في غير حاجة إلى التكلم عن عراقة فن النحت والتطور الذي أصابه على مر العصور نتيجة للتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي عرفته شعوب العالم. ومن المعروف أن المذهب (الكلاسيكي) قد ظل سائد خلال القرن الثامن عشر، وأن الثورة الفرنسية قد أثرت في النحت تأثيرا كبيرا على نحو ما أثرت في سائر الفنون والآداب. وإن المثال الفرنسي (ريد) ليجئ في مقدمة المثالين الذين استجابوا للأثر العميق الذي أحدثته الثورة في النفوس. وإنا لنلحظ ذلك - بصفة خاصة - في تمثاله المعروف (سفر المتطوعين) الذي يجسد بعض شخصيات عصره ويحملها بالرمز لكي يؤكد فكرة مستوحاة من الثورة الفرنسية. ولقد كان القرن التاسع عشر أحفل عصور التاريخ بالنشاط الفني المتعدد المذاهب والاتجاهات. ولئن كانت التماثيل ذات الموضوعات التاريخية قد سيطرت في ذلك الحين - بدلا من التماثيل ذات المضمون الأسطوري - فليس من شك في أن حركات التجديد قد ولدت خلال هذه الفترة أيضا. ولقد بذل الكثيرون من النحاتين أمثال (دالو و (رودان أعظم مجهود في سبيل ربط النحت بالحياة ومشاعرها العميقة بدلا من التاريخ وأحداثه العامة، وإن روح هذا المتجه قد أثرت في كثير من المثالين وفي مقدمتهم (فريمييه و (بورديل وأخذ عنصر (الحركة) يظهر في المنحوتات حيث وصل إلى أقصى غاياته في تماثيل وتصاوير المصور المثال (إدجار ديجا وبالرغم من وجود أنصار للمدرسة الفرنسية التقليدية التي تنشد مثالياتها في الفن الإغريقي بجماله ورقته واتصاله الشديد بالطبيعة، أو الفن الروماني بمظهره القوي المترف، فقد ظلت حركة التجديد مستمرة قوية شديدة الطموح لا تقف عند حد. ومن الصعب أن نحصي أسماء المجددين ونوضح مقومات فنهم، ولذلك نكتفي الآن بمجرد إشارات سريعة إلى بعض هؤلاء الفنانين.
فهناك النحات الرسام فرانسوا إتيان كابتيه (وقد مات حوالي سنة 1902) الذي أنتج عدة تماثيل معبرة عن مختلف الأفكار والعواطف والحالات النفسية ونذكر من بينها تماثيل (آدم وحواء، والطوفان الأخير، واليأس). وهناك المثال (جوست بيكيت) (وقد مات حوالي سنة 1907) الذي نبه ذكره منذ عرض بعض تماثيله في معرض (الصالون الفرنسي) حوالي سنة 1857، والذي حاول في عدة تماثيل أن سيتلهم الفن الفرعوني ويزاوج بينه وبين الفن الحديث وذلك بإدخال عنصر الحركة. وأما المثال الشهير (أوجست رودان) فمن الأسماء التي أكدت وجودها في عالم النحت. فمنذ عرض تمثاله (الأنف المكسور) حوالي سنة 1870 أثار عاصفة من الجدل لم تلبث أن اشتدت حين عرض تمثالي (القبلة) و (يد الله). ولقد وجهت إليه أعنف سهام السخرية وأقسى أحكام النقد ولكنه لم يعبأ بشيء ومضى في عناد يحقق وجهة نظره في النحت. كان (رودان) مشغوفا بالتعبير لا بالجمال فحسب ولذلك فقد كان يجسم - وقد يبالغ - عواطف البشر ومشاعرهم وأفكارهم العميقة. وهو بعمله ذاك يصنع (الشخصية) في النحت. وهي شخصية بطولية إن لم تقم بطولتها على العضلات المفتولة والجسد المتين البناء (على نحو ما نجد في تماثيل ميكل إنجلو) فقد قامت على تعبير نفسي أو فكري يرهق الكائن البشري.
وأما المثال (أنطوان بورديل) فقد بدأ حياته الفنية متأثرا بنفوذ أستاذه (فالجيير) ثم لم يلبث أن خرج عليه وثار على الفن (الأكاديمي). وأخذ يعمل مع المثال (رودان) منذ عام 1896 ثم مضى في النهاية يحقق أسلوبه الشخصي الذي يميل إلى البناء وفي نفس الوقت يعطي صورة هندسية لما يحتفظ به المثال من ظلال رومانسية. وهو لم يتخل عن عنصر الحركة وعن كل ما هو (درامي) ولكنه يحقق التوازن فيما يختار من العناصر والقيم الفنية.
أما (أرستيدل مايول أستاذ النحت المعاصر الحقيقي - فهو يركز كل مواهبه في (البناء) على نحو يؤكد الإحساس بعناصر الحياة الأصلية في الكون، وفضلا عن ذلك فهو يثبت قيم النحت الأساسية التي أدركها الفراعنة والإغريق. لقد استطاع في براعة أن يضع الحسد الفاصل بين القديم والجديد، وأن يمهد السبيل الحقيقي للنحت الحديث وساعده على ذلك ميله الشديد (للفورم) النسوي. وإنه ليخضع كما يقول الأستاذ. أ. هربلان) بتواضع لاحترام قوانين عالم النحت.
ونستطيع أن ندرك قيمة التجديد الذي أعلنه القرن العشرون حين نتأمل مجموعة تماثيل الفنانين المعاصرين أمثال جوزيف برنار و (بومبو والأول قد مارس التشكيل المباشر على نحو جديد شديد التأثر بالاتجاه العصري. والثاني أكثر جرأة وأقل احتفالا بالقيم الكلاسيكية، وهو قد ذهب بعيدا منذ أرجع (السلويت) الحيواني إلى أوضاعه المبسطة فساعده ذلك على الانتقام من التجسيم الأولى إلى التجسيد الهندسي وإلى المناظر التخطيطية. والحق أنه قد أختار الموضوعات المناسبة تماما لأسلوبه القائم على التبسيط. . . . أختار بعض الطيور كالدجاجة والوزة في أكثر وضعاتها ألفة وأقلها (دراماتيكية).
ولئن كان هؤلاء الذين أشرنا إليهم قد وضعوا أسس التجديد فإن أمثال (زادكين وليبشيتز ولورا وجارجالو قد حاولوا الوصول إلى أبعد آماد التجديد. فهم قد نفروا من كل ما هو محسوس وأعرضوا تماما عن الحياة الحسية وآثروا مجال الإطلاق (لفن عقلي بحت). ويرى (هربلان) أن استعمالهم مختلف الخامات (كالحديد والصلب المضروب والخيوط المعدنية) قد سهل عليهم إنتاج ما سماه (بالتركيبات المجانية) أي التي لا هدف لها). وإنه ليرى - أيضاً - أن تأثيرات التكعيبية والفن الرنجي معا قد جعلت بعض الفنانين يميلون إلى اعتبار النحت من مسائل (التشكيل البحت).
ومهما يكن الأمر فإن استعمال هذه الخامات الجديدة (في النحت) قد أظهر هذا النوع من النحت الذي لا يشغل مسافة ثابتة في الفضاء وإنما يترك الفضاء لينساب من بينه. ويقول هربلان (إن النحت الشفاف الذي نراه عند (ليبشيتز) والأشكال المفرغة عند (زادكين) لا تستبعد الغنائية ولا الروحية، بل إن تمثال (النبي) القفصي الصنع (لجارجالو) يعتبر من الروائع. ويضيف (ويبدو أن بيكاسو - وهو الرسام العجيب - قد اختار أن ينسى عبقريته ليقتصر على استثارة ما هو واقعي وممكن الحدوث، وذلك في تركيباته اللغزية وبواسطة تفصيل واحد موحي كعين أو خد أو أنف ممسوح أو ساق تخرج على المعقول في نسبها. . .
ويبقى العقل حائرا أمام هذه البحوث التي لا تجد فيها الحواس حقها المشروع. . . وحتى العقل لا يتقبل النتائج إلا في شكل إحصائي وباعتبارها نتائج مرحلية لا آثارا فضلا عن أن تكون آثارا رائعة) وعلى الجملة فإن النحت الفرنسي قد قفز فيما بين 1900 - 1950 قفزة غير عادية لعل الأذهان (العامة) لم تتهيأ بعد لفهمها. . . لقد انتهى عهد النحت النظري والمطابق للطبيعة وكذلك النحت التشكيلي البحت، وجاء عهد النحت الذي يطلقون عليه اسم النحت (الموسيقي المتحرك. .؟). ومهما يكن الرأي في هذا النحت الجديد فهو قد أعطى للفكر فرصة لم تتح له من قبل. ونرجو أن نعود في فرصة أخرى إلى تفصيل موضح.
أحمد محمد حسنين