مجلة الرسالة/العدد 928/ذكرى الشاعر الفنان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 928/ذكرى الشاعر الفنان

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 04 - 1951



الطبيعة في شعر الرصافي

للأستاذ أنيس الحوراني

الطبيعة العراقية لوحة فنية رائعة، رسمتها ريشة مفن أصيل، صورتها في أحسن تصوير، وكونتها في أبدع تكوين: زاخرة في مفاتنها ومباهجها؛ في أنهارها الجارية وجداولها السارية، في تخيلها السامق وحقولها الخضراء، في مروجها الفيح وحدائقها الغناء، في صحرائها المترامية وهضباتها الرابضة، في رمالها الحمراء وحصاها المتماوج. . حيثما تولي وجهك ترى الجمال فيها هنا وهناك يتراءى لك في ألوان شتى وأشكال مختلفة!

تحت هذه الظلال الوارفة، وعلى جنبات هذه الشواطئ المخضلة: ترعرع شاعرنا الرصافي وشب، فترعرع معه حبه للطبيعة وشب وإياه تعشقه لجمالها الساحر الفتان. . فراح يتملئ من مفاتنها ويستلهم سرها الدفين، فيستجلي الصور الرائعة الفريدة، ويرسلها شعرا رقيقا عذبا ينساب كالغدير الصافي فوق أفواف الزهر؛ ثم نراه يطفر هنا وهناك كالبلبل الغريد ينشد ويغرد بحرارة ونشاط!

فالرصافي إذن ابن الطبيعة البار، ابنها الوفي الأمين الذي اعتز بوعده لها، فخلدها في أسمى المعاني وأرق البيان، وكثيرا ما نراه يفزع إليها بعد إخفاق الأماني، ليسري عن نفسه، وينفس عن كربه، فتسعفه بأروع ما عندها من ذخائر ونفائس. . فنراه عند ذاك كالرسام البارع الأصيل الذي يكتفي بألوان قليلة لرسم الصورة التي تمر أمامه، فيخرجها للناس بإطارها الوضاء، حيث يسكب فيها شعوره الفياض ممزوجا بمعاني النور والظلال والتجاوب النفسي في تذوق الجمال الفني الذي تأتلف فيه الطبيعة ائتلافا دقيقا. .

هذه ناحية قيمة من شعر الرصافي تجاهلها النقاد فلم يعطوها حقها، وذلك لابتعادهم عن الاندماج في نفسية الشاعر وتذوق شعره؛ فهو قبل كل شيء معبر وجداني، وشعره مرآة نفسه المتجاوبة مع عناصر الحياة وتكوينها، وأن أدبه أدب القوة والإبداع والخلود!.

وهذه الطبيعة الراقصة في شعره، يمكننا أن نتلمسها في قصائده الكثيرة منذ صباه حتى شيخوخته، فنجدها ذات روح وثابة قوية، روائعها الفنية ناطقة في غير بيان. والذي جعل شاعرنا يبدع في ذلك هو غرامه الذي لا حد له في المحسنات اللفظية والجمال البديعي، مم يجعلنا نقرأ قصيدته ونستعيدها مرة إثر مرة حتى نقف على أبعد مراميها فندرك سر بيانها، وإن شعره في كثير من الأحيان يسيل رقة وعذوبة، ويتفجر عن ينابيع ثرة دافقة. .

استمع إليه في قصيدة (الغروب) يقول فيها:

نزلت تجر إلى الغيوب ذيولا ... صفراء تشبه عاشقاً متبولا

تهتز بين يد المغيب كأنها ... صب تململ في الفراش عليلا

ضحكت مشارقها بوجهك بكرة ... وبكت مغاربها الدماء أصيلا

يصف الرصافي الشمس في هذه القصيدة، وهي تجر مطارفها بخفر وحياء وقد أضربها السقم كالعاشق الواني الذي سئم رقدة الفراش؛ فنراه هنا وقد اكتفى بخطوط قليلة وألوان زاهية لإبداع لوحته الفنية، ثم صورها عند الشروق ضاحكة باسمة، وعند الأصيل مولولة جازعة تتشح بردائها الأحمر القاني الذي خضبته الدماء.

وفي قصيدته (وقفة في الروض) يقول:

ناح الحمام وغرد الشحرور ... هذا به شجن وذا مسرور

في روضة يشجي المشوق ترقرق ... للماء في جنباتها وخرير

ما قد انعكس الصفاء بوجهه ... وصفاه لاح كأنه بلور

ومنها:

وتسلسلت في الروض منها جداول ... بين الزهور كأنها سطور

حيث الغصون مع النسيم موائل ... فكأنها معاطف وخصور

تأملوا يا لله! في خيال الشاعر العبقري الواصف تجدوه كمن اطلع على أسرار الطبيعة وما تزخر به من حجب وتكهنات فراح يقتنص الشوارد بأدق المعاني وأرق الأحاسيس؛ فيشعر بمصاب الحمام وهو ينوح من شجن وعذاب، ويشارك الشحرور في تغريده لفرحته ومسرته! ثم يلتفت هنا وهناك وكأنه يستشف غور الأعماق، فينتقي سادرا في صفحة الماء الجلواء، حتى يتخيل إليه أنه يرى مدى بعدها لصفائها، وكأنها استطابت مكوثه في هذه الأرض فرقة له واستسلمت إليه، فكشفت له عن كنهها ومخابئ صدرها من جمال وروعة!.

ومن هذا الوصف المفتن ما جاء في قصيدة (ذكرى لبنان) إذ يقول فيها:

برزت تميس كخطرة النشوان ... هيفاء مخجلة غصون البان ومشت فخف بها الصبا فتمايلت ... مرحاً فاجهد خصرها الردفان

جال الوشاح على معاطفها التي ... قعدت وقام بصدرها النهدان

تستعبد الحر الأبي بمقلة ... دب الفتور بجفنها الوسنان

ومنها:

لم أنس في قلبي صعود غرامها ... إذ نحن نصعد في ربي لبنان

حيث الرياض يهز عطف غصونها ... شدو الطيور بأطرب الألحان

لبنان تفعل بالحياة جنانه ... فعل الزلازل بغلة الظمآن

نراه هنا نتمشى مع الطبيعة جنبا إلى جنب، فيعطيها نصيبها الوافر من الإبداع والتشبيه، مع خيال شعري سليم، وموسيقى شجية، ليس فيها أي تكلف مصطنع، بل جاءت فريدة من صميم نفسه الشاعرة المراهقة.

وقوله لاستغلال مادة الطبيعة في بساطة ساحرة:

البحر رهو والسما صافية ... والفخت في الليل شبيه السديم

والبدر في طلعته الزاهية ... قد ضاحك البحر بثغر بسيم

والصمت في الأنحاء قد حيما ... فالليل لم يسمع ولم ينطق

والبدر في مفرق هام السما ... تحسبه التاج على المفرق

أغرق في أنواره الأنجما ... وبعضها عام فلم يغرق

والبحر في جبهته الصافية ... قام طريق للسنا مستقيم

لم تحف في أثنائه خافية ... حتى ترى منه اهتزاز النسيم

تلك هي قصيدته (محاسن الطبيعة) التي أجاد في صياغتها وتوشيحها، فكانت طرفة خالدة من طرائفه الفنية النفسية!. يصف فيها سكون البحر وهدوئه، والليل وصمته، تظللهما سماء جلواء صاحية الأديم؛ وقد وثب القمر في طلعة مشرقة وضاءة، ليداعب البحر في فرحة ومسرة، وكأنه تاج من سنى الضياء، على مفرق السماء!

وقوله:

أنظر إلى تلك المعلقة التي ... سترت ظلام الليل بالأضواء

قطع من البلور محدقة بها ... يحكين شكل أصابع الحسناء فكأنها بدر تلألأ في الدجى ... وكأنهن كواكب الجوزاء

بل قد يمثلها الخيال كأنها ... قمر أحيط بهالة بيضاء

قال هذه الآبيات مرتجلا في (معلقة) وقد برع في وصفها مجنحا إلى آفاق رحبة من الخيال المطلق. والذي نتلمسه الآن في شعره هو أن الطابع الوصفي يغلب على شعره في الطبيعة والذي يصاحبه الجرس واللون والخيال المجنح؛ وقد يمتزج أحيانا بفلسفة الحياة والعاطفة والوجدان.

ونراه بعد حين يرتد طرفه عن مباهج الحياة وزخارفها، ليرى وطنه وقد لعبت به أيادي الحدثان، وارتفعت في أرجاءه سياط الطغيان، فأنشد يقول ودمعه لا يرقأ:

نظرت إلى عرض البلاد وطولها ... فما راقني عرض هناك ولا طول

ولم يبد لي فيها معاهد عزها ... ولكن رسوم رثة وطلول

أأمنع عيني أن تجود بدمعها ... على وطني إني إذن لبخيل

لنشاركه في هذه النظرة التي ألقاها على البلاد، حيث تتجلى فيها دفقة الحس وفيض الشعور، لنرى وإياه بعين المتأمل الخبير (فما راقني) يا للعجب!. تلك البلاد التي استهوته بجمالها؛ وأسرته بمفاتنها، يعود فيراها على صورة غير التي كان يعهدها منذ قبل. . (ولكن رسوم رثة وطلول)، وكأننا نحس ونشعر بما يرمي إليه الشاعر، فيغمرنا الألم ويحز في نفوسنا، فنشاركه دموع الحزن والأسى لما أصاب الوطن الجميل. . ثم ماذا؟! (إني إذن لبخيل)، وهنا تتم اللوحة التصويرية في أجل معانيها وأنبل غاياتها، فتدفع بالروح المتطلعة إلى أبعد حدود الذات، إلى الانطلاق الحر، إلى ثورة النفس الصاخبة التي يرمي إليها الشاعر في هذا الهمس البسيط يبغي من وراء ذلك تحطيم القيود وهدم السدود، ودك صروح الغزاة المعتدين!!

هذا هو الرصافي في شعر الطبيعة، ذلك الشعر الذي يتراءى لنا من خلال سطوره وقدة النفس في طموحها في سبيل الاعتزاز بهذه الأرض الطيبة الساحرة الجميلة!.

والرصافي الآن في مقدمة موكب الخالدين، وشعره هذا سيبقى سفرا قيما للتاريخ التصويري للطبيعة العراقية!

بغداد أنيس الحوراني