مجلة الرسالة/العدد 927/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 927/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 927
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1951



للأستاذ عباس خضر

قطع العلاقات الأدبية:

أصدرت الحكومة قرارا يقضى بخطر تصدير الورق المطبوع وغير المطبوع، علاجا لأزمة الورق الحاضرة، حتى يتوافر في داخل القطر ما يرد منه. ويتضمن ذلك منع إصدار الكتب التي تطبع في مصر إلى سائر البلاد العربية. . وهذا قرار بالغ الخطورة! أهون منه حل جامعة الدول العربية وكل ما ينشأ بين الحكومات العربية من خلاف وسوء تفاهم. . . فالكتاب هو السفير بين البلاد، وهو سفير يعمل على توطيد المودة وتعزيز القرابة بين أهلها، وهو سفير صامت يعمل في غير تظاهر ومآدب وحفلات، لا يخطب بكلام يرن بين الأركان ثم يذهب في الفضاء، وإنما يتحدث إلى العقول والقلوب فتستكين إليه ويستكين بها، فأن ذهب تسرب إلى قرار النفوس وبواطن المشاعر.

فالكتاب بين البلاد العربية أساس وحدتها وقد سبق (البرتوكولات) بل مهد لها وقامت عليها. فليت شعري كيف ينزع الأساس ويظل البناء قائما!

والعجيب أن ذلك القرار يشمل منع الكتب عن جنوب الوادي: السودان! وهنا معنى سياسي لست أدرى كيف خفي على من أعدوا القرار. . . وهناك أيضا نواح عملية لست أدري أيضا كيف خفيت عليهم، فلنا في السودان مدارس تصرف لها الكتب من مصر. . ولدار الكتب المصرية فرع في الخرطوم من الطبيعي أن تمده بما يجد من الكتب، وكذلك هناك مكتبة النادي المصري بالخرطوم. وإخواننا السودانيين على العموم يحفلون بالمؤلفات المصرية ويستقبلونها من لدنا كما نستقبل من لديهم ماء النيل.

والعجب يبلغ أشده كلما أنعمنا النظر في ذلك القرار. . والظاهر أن الموظفين الذين فكروا فيه وأعدوه إنما نظروا إلى الناحية المادية والتجارية المحضة، نظروا إلى الكتب على أنها بضاعة كالأرز والبصل يمنع إصدارها لتكثر في الأسواق المحلية ولم يخطر ببالهم أن قطع الكتب إنما هو قطع العلاقات الأدبية وصد للتيار الفكري بين البلاد العربية، بل أقول إن النظرية المادية التجارية نفسها غير سليمة، فمستهلكو الكتاب المصري في مصر قليل، وهو يعتمد على قراء البلاد العربية الأخرى، فمنعه من التصدير معناه الكساد وما في هذ الكساد من القضاء على الحركة الفكرية في مصر. ولندع الحركة الفكرية ونستمر في المناقشة الاقتصادية إن المواد يمنع من التصدير لتقوم بالحاجة المحلية، فماذا نصنع بالورق الذي يستعمل في طبع الكتب، والكتب قد حكم عليها بالكساد. .؟

وهناك - من الناحية الاقتصادية والاجتماعية أيضا دور النشر والطباعة وعمالها. . أليس في الحسبان ما يصيبهم من أضرار وتعطل؟ هل من النظر الاقتصادي السليم أن تحل أزمة بأزمة. . فيدير توافر الأوراق بتوافر البطالة في البلاد.

أن ذلك القرار من أين أتيته وجدت فيه الخطر والعجب والمخلص الوحيد منه أن يتداركه أولوالأمر، وفيهم من لا تخفى عليه دقائقه.

فلم (ليلة غرام):

كنت قد أخذت نفسي - في فترة مضت - بتتبع ما يعرض في الأفلام المصرية، والكتابة عنها، قاصدا بذلك أن أسلك طريقا أو أساهم في طريق يؤدى إلى حسن استخدام صناعة السينما في نفع المجتمع وخير الناس من حيث معالجة المسائل القومية والاجتماعية، وتهيئة أسباب المتعة الفنية البعيدة عن التبذل والإسفاف وقد رأيت - إذ ذاك إزاء خطر هذا الفن باعتباره أكثر الوسائل اتصالا بالجمهور - أنه ينبغي أن نصبر على ما في البضاعة من تفاهة وغثاثة، وأن نولي هذه الناحية اهتماما لا بالنظر إلى المعروض، بل نظرا إلى المثال المرجو منها وأيدني في ذلك بعض القراء وخالفني آخرون قائلين: ما هذا الذي تكتبه عن شكوكو وكاريوكا وإسماعيل يس؟ اعدل بنا يا رجل عن هذه الأشياء إلى الأمور ذات البال. .

وحين وصل إلى سمعي ذلك القول كان صبري قد نفذ وضقت ذرعا بتلك الأفلام، فعدلت عنها واكتفيت بتتبع الروايات التمثيلية ذات القيمة الأدبية التي تمثل على المسرح الراقي

وأخيرا علمت أن هناك فلما أخرج من قصة (لقيطة) التي ظفر كاتبها الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله عنها، بجائزة مجمع فؤاد الأول للغة العربية منذ سنوات، وقد سمى الفلم (ليلة غرام) على اعتبار أن اللقيطة كانت ثمرة لتلك التي التقى فيها أبوها حرام. شاهدت الفلم لمكانة قصته وصاحبها من الادب، ولنلق أولا نظرة على مجمل القصة قبل الكلام عليها: يعرض الفلم حياة إنسان من حقه أن يكون له بذاته اعتبار في المجتمع ولكن المجتمع يضطهده ويأبى عليه هذا الحق لذنب جناه غيره، ذلك الإنسان هو (اللقيطة) التي قذفت بها الأقدار عقب ولادتها إلى ملجأ اللقطاء حيث نشأت لا تعرف لها أبا ولا أما، ثم خرجت منه بعد أن شبت إلى ميدان الحياة وكانت في الملجأ تعانى شعورها بحرمان الأبوين، فلما أتيح لها شيء من الاستقرار والنجاح في معترك الحياة جعلت تصارع لؤم الناس وسوء نظرهم أليها لأنها لقيطة فقاست ألوانا من الألم والبؤس صبرت عليها في إيمان ثابت يغذيه ويقويه في نفسها (السيد الأمير) وهو رجل من علماء الإسلام مستنير العقل واسع الأفق، كان مبدأ صلتها في المستشفى الذي كانت تعمل ممرضة فيه وكان هو يعالج هناك، ولما يئست هي وخاطبها الطبيب الشاب الذي أحبها وأحبته، من موافقة أبيه الثرى على زواجهما، لجأ إلى السيد الأمير الذي استطاع بقوة وشخصيته الدينية أن يقنع الوالد بأن البنت لا ذنب لها جناه أبواها المجهولان، وكان الحل الأخير أن يتبنى السيد الأمير الفتاة، ويتم الزواج ليس الموضوع - وهو الدفاع عن اللقيط البريء ضد المجتمع الذي يظلمه - ليس هذا الموضوع جديدا، وليس حتما أن يكون الموضوع جديدا، فالعبرة بالمعالجة وطريقة التناول وقد عالجه المؤلف علاجا حسنا، وتناوله من نواح واقعية، وصوره في صورة حية، وربما بينها بخيال محبوك الأطراف وبذلك خرج هذا الفلم عن المدارات المتشابهة التي تدور عليها الأفلام المصرية، وجانب المبالغة التي تعرضها قصدا إلى الإثارة، وليس بهذا الفلم فراغ كالذي يسد في الأفلام الأخرى بمناظر التهتك وعرض المتباذل، ففيه موضوع يشغله عن ذلك وقد أخرج الفلم أحمد بدرخان فأحسن إخراجه، بتنسيق المناظر وتوجيه التمثيل، والمحافظة على ما في القصة من معان أدبية جميلة، بل بترجمة هذه المعاني إلى لغة السينما ووسائلها فجمع مثلا بين مناظر الشروق والغروب وبين خواطر البطلين في الأمل واليأس، وكانت شخصية السيد الأمير موحية بكثير من المعاني الروحية القوية، وكانت وسيلة لمعالجة المشكلة من وجهة النظر الإسلامية

وفى القصة كثير من المصادفات التي استعين بها على تسلسل الحوادث وحبكها، وهي مقبولة لأنها لا تخرج كثيرا عن الواقع، وأرى لهذه الكثيرة أن إظهار الأم مريضة في المستشفى للتعارف هي وأبنتها اللقيطة، وكان صدفة مفتعلة زائدة علي ما أشبعت به القصة من مصادفات، وكان يمكن الاستغناء عن هذا المنظر دون أن يخل ذلك بمجرى الحوادث.

التصوير الفني في القرآن

أشرت في الأسبوع الماضي إلى المحاضرة التي كان مقررا أن يلقيها الأستاذ أحمد الشرباصي في الجامعة الشعبية، عن كتاب (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد قطب. وحالت بعض الظروف دون إلقائها. وأذكر الآن أن الأستاذ ألقى هذه المحاضرة في جمعية الشبان المسلمين يوم الثلاثاء الماضي. أستهل المحاضرة بمقدمة عن سوء التفاهم بين الرجال الفن ورجال الدين، ولتمسك الأولين بالتحرر والانطلاق والتزام الآخرين التزمت والتقيد، وقال إن كلا منهما يغالي في طرفه، ولو أن الفريقين تركا هذا التغالي لالتقيا عند هدفهما الواحد وهو طلب الجمال الروحي وعد المحاضر كتاب (التصوير الفني) أول عمل صريح في سبيل ذلك الهدف، وقال إن المؤلف هو أول من كشف عن القاعدة التي بني عليها كتابه، وهى أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن فهو يعبر بالصورة المحسسة المتخيلة عن المعني الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية ثم يرتقى الصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة ثم أتى المحاضر بأمثلة من الكتاب تطبيقا لهذه القاعدة ومما قاله أن بعض الناس أدعى انه سبق المؤلف إلى هذا الموضوع وهى دعوى مردودة لأن الأستاذ سيد قطب كتب مقالا - قبل إخراج الكتاب - في مجلة المقتطف بعنوان (التصوير الفني في القرآن) سنة 1938 أي في الوقت لم يكن أحد فيه قد كتب شيئا متصلا بهذا الموضوع

ثم أبدى المحاضر بضع ملاحظات تتلخص فيما يلي:

1 - تمنى لو أن المؤلف كتب فصلا عن معنى كلمة (التصوير) وكلمة (الفني) بالنسبة للقرآن لأن الاصطلاح جديد.

2 - قال إن المؤلف كان يعيب على الرافعي أسلوبه لأنه يعبر بالصورة الحسية عن المعاني الذهنية، على حين أنه يثني على هذه الطريقة في تعبير القرآن.

3 - ذكر أن المؤلف أستعمل تعبير (سحر القرآن) وتمنى لو أنه أستخدم بدلا منه (جاذبية القرآن) أو (روعة القرآن) لأن السحر في الأغلب بدل على المعنى الخداع والتغرير، وهو الذي كان يقصده الكفار حين وصفوا به القرآن الكريم.

4 - لاحظ على فصل (المنطق الوجداني) في القرآن أن المؤلف يقول: أن العقيدة تقوم على وجدان، وقال: إن الوجدان يجئ سابقا حقيقة ولكن العقل ولكن العقل يتدخل بعد ذلك ليبرهن على ما تأثر به الوجدان.

5 - أعترض على عبارة في الكتاب جاء فيها (أدركنا سر الأعجاز في تعبير القرآن) قائلا بأن سر الأعجاز في القرآن لا يدركه فرد ولا يدركه جيل.

وختم الأستاذ الشرباصي محاضرته بالإشادة بقيمة الكتاب ومكانة موضوعه الجديد من الدراسات الإسلامية، مقترحا أن يدرس هذا الموضوع في كليات الأزهر وكليات الجامعة التي تدرس اللغة العربية

وقد تحدثت بعد ذلك مع الأستاذ سيد قطب وسألته عن رأيه في الملاحظات فشكر جهد الأستاذ الشرباصي في المحاضرة وعبر عن أثرها الطيب في نفسه، ثم رد الملاحظات واحدة واحدة، وقال عن الأولى: أحسب أنني شرحت عبارة (التصوير الفني) ولكن في غير صورة التعريف والتبويب فالكتاب كله إنما هو شرح وتمثيل وتطبيق، وفى مقدمة فصل (التصوير الفني) ما يغني، وقد تتابعت فصول الكتاب كلها لتشرح هذه القاعدة الكلية وتمثل لها وتوضحها.

وقال عن الملاحظة الثانية: لا أذكر أن هذا كان مأخذي على أسلوب الرافعي، بل أذكر أنه كان العكس، فقد كنت آخذ عليه الألاعيب الذهنية في التعبير، والجمل التي ينبع ذيلها من رأسها، والعكس، والتي يحسبها القارئ ماشية (تتقصع!) وتضع يديها في خصرها على الطرس! وليس شيء من هذا كله بسبيل من ذلك الأسلوب القرآني الذي أبنت عنه في الكتاب وقال عن الثالثة: رأى أنه مادام المعنى اللغوي يحتمل هذا ويحتمل المعنى الآخر وهو لطف المدخل والجاذبية فإن العرف الأدبي إذن هو الذي يحدد، وعرفنا الأدبي الحاضر لا يعتبر سحر البيان معناه الخداع والتغرير، بل وصف استحسان وقال عن الرابعة: أحسب أنني كنت معنى خاصا حينما قلت (المنطق الوجداني) فأنا لم أعن مجرد التأثر الوجداني بل (المنطق الوجداني) فقد أردت أن أفرق بين هذا المنطق وبين (المنطق الذهني) والمنطق الوجداني هو الذي يقوم على الانطباعات الوجدانية والمقدمات الوجدانية والتأثرات الوجدانية ولكنه (منطق) وليس مجرد تأثر، أي أنه حكم تسبقه مقدمات من نوع معين، وأما المنطق الذهني فهو الذي يقوم على الأقيسة المجردة الخالية من الانطباعات والتأثرات. ثم جعلت للذهن وظيفته المحدودة في بناء العقيدة، ولم أنفه من مجالها بتاتا

وقال عن الملاحظة الخامسة: أحسب أن معنى إدراك سر الأعجاز في التعبير القرآني لا يعني الكشف عن إعجاز القرآن، فأجاز القرآن فقط في تعبيره، بل خصائص أخرى كثيرة ترجع إلى صميم الأفكار والمبادئ التي تضمنها، وأما إعجاز التعبير فكل جيل يدرك سره كما يراه، ولا يمنع هذا أن يأتي جيل آخر فيدرك هذا السر من زاوية أخرى.

عباس خضر