مجلة الرسالة/العدد 925/فن القيادة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 925/فن القيادة

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 03 - 1951



للكاتب الفرنسي أندريه موروا

بقلم الأستاذ محمد أديب العامري

(كتب أندريه موروا الكاتب الفرنسي المعروف كتابا أسماه (فن الحياة) أو بترجمة أدق (فن العيش) وقد ذاع الكتاب أيما ذيوع وترجم إلى عدة لغات منها الإنجليزية.

والفصل الذي نقدمه الآن هو واحد من فصول الكتاب. ويلاحظ من الفصل أن القيادة أو الزعامة أو الرئاسة عند أندريه موروا لا تعني قيادة الناس السياسية فقط وكما نميل نحن إلى تعريف، ولكنها تعني القيادة أجمالا في ميادين الحياة كلها. فالملك قائد، وزعيم الأمة، وقائد الجيش ورئيس الحكومة قادة. ومثل ذلك رئيس المصلحة أو الشركة أو المدرسة أو رئيس جماعة من البنائين مثلا. ولهذا نرى أن الأمثلة التي يضربها موروا مقتبسة من ميادين الحياة المختلفة، وأنها أمثلة تعتمد على حياة صناعية علمية لا نعهدها كثيرا في بلادنا. فلنصبر على هذه الأمثلة ولنتفهمها فإننا جديرون إذ نفعل أن ندرك أهمية الحياة الصناعية، في الحضارة الراهنة).

المترجم

لا يستطيع الناس أن يقوموا بعمل مشترك قياما مجديا إلا إذا اضطلع واحد منهم بتنظيم نشاطهم جميعا إلى غاية مشتركة، ويتضح هذا عندما يقوم الناس بأعمال تحتاج إلى شيء من النظام. فمن العبث مثلا أن تقوم جماعة من الناس بإنشاء خط حديدي، أو تسيير قارب إلا إذا قام عليهم رقيب يضبط حركاتهم. ولن يكون مصير أي عمل تقوم به جماعة دون قيادة إلا الاضطراب والفساد. ويعلم جميع الذين اشتركوا في حرب من الحروب ضرورة القيادة. وما يصح على الجيش يصح على عمال في ميناء أو صناع في مصنع، أو محررين في مكتب لجريدة، كما يصح على سكان بلد من البلدان. وخلاصة القول أنه حيثما يعمل رجال عملا مشتركا فلا بد لهم من قائد.

وفي اللحظة التي يظهر فيها القائد بقيادته، أو الزعيم بزعامته، وحيث تكون هذه القيادة قوية مضبوطة، يعقب الفوضى نظام واستقرار. وفي الحرب العالمية الأولى كانت الوحدات التي تقاد قيادة فاشلة تتقهقر وتقع في أزمات حتى قيض لها قائد جدير باللقب فتتحول الكتائب إلى قوة ذات رباطة ومقاومة. وقد يبدو على الأمة الواحدة مؤلفة من شعب واحد معروف، الاضطراب والفوضى، أو النظام والقوة، متوقفا ذلك على ما إذا كانت الحكومة تقوم بمهمة الحكم أو لا تقوم. وبغير هذه القيادة لا يمكن أن تقوم قائمة لعمليات حربية أو حياة وطنية أو نظام اجتماعي.

ولقد أخذت الجماعة البشرية طوال تاريخها بقاعدة اختيار قادة أعمالها على أساس يتلو بعضهم فيه بعضا بنظام هرمي. وقام هؤلاء القادة كل مرة بتأسيس نظام وطدوا فيه لشعوبهم مصائر بلادهم على هذه القاعدة.

لكنهم كانوا يستغلون هذا النظام لظلم الشعوب؛ فكانت هذه تثور في وجههم فيضطرب النظام الذي أقيم وتعقبه الفوضى فتعود الأمم إلى بناء هذا النظام من جديد. ولما انهار التركيب الهرمي العسكري الذي قامت عليه الدولة الرومانية فقدت هذه الدولة قوتها وقام على أنقاضها نظام هرمي إقطاعي لم يتم بناؤه إلا بعد فترة طويلة من الفوضى ولما ألغت روسيا النظام الرأسمالي قام على الأثر نظام من الفنيين ورجال الأعمال أدوا الواجبات الأولى نفسها. وذلك هو السبب الذي يحمل رجال الثورة على الرغم من وعودهم ورغباتهم إلى أن لا يحققوا العدالة التي كانوا ينادون بها. يجب أن يكون هنالك مساواة في الفرص، أو كما قال بونابرت تتاح الفرص دون أي مانع لجميع المواهب. ومن الضروري أن يرغب المرء في المساواة بين الجميع في نظر القانون، غير أنه لا يمكن أن تقوم هذه المساواة بين قائد ومقود، أو في جماعات ليس لها زعامة.

ولقد اكتشفت الإنسانية خلال تاريخها الطويل وسائل قليلة لاختيار الزعماء أو القادة. وكان أقدم هذه الوسائل، الوراثة. وكانت تستخدم دون ريب في القبائل الرحل في قديم الزمن حين كان يخلف الأب ابنه الأكبر. وبدون هذا النظام القائم على خلافة الابن الأكبر كانت تتعرض الجماعات البشرية إلى تصدع واضطراب. ونجد في التوراة مظاهر من هذا الاضطراب كما نجدها في تاريخ اليونان. وكانت السلطة في أنظمة الملك القديمة القوية، تنتقل في هدوء كما كان الزعيم الوراثي يتمتع باحترام وتقدير لا حد لهما.

ولقد كان المركز الممتاز الذي يحتله ملك إنجلترا قائما على هذا الأساس. وأدرك نابليون ذلك إدراكا تاما، فإنه كان يرمي إلى تأسيس ملك عضوض. لقد عرف أن الملك يظل ملكا حتى إذا انهزم أما الإمبراطور الذي ينصب نفسه فيحتاج إلى انتصارات متوالية ليظل عرشه قائما.

وهذا صحيح أيضاً في الأعمال والدويلات التي حكمتها عائلات خلال أجيال عديدة. وإنك لتجد المديرين والمراقبين والزراع الذين يثورون عادة على السلطان يخضعون لسلطة رئيس العائلة. ولا يعود هذا الخضوع إلى العادة وحدها، ولكنه يعود كذلك إلى شعور طبيعي وتفكير معقول بعض الشيء. فالأب يستطيع أن يورث ابنه تقاليد الزعامة وأعرافها كما يورثه التفاني في خدمة العائلة. والقائد الوراثي كالملك الوراثي يحس برابطة تربطه بعائلته أو ببلاده_رابطة من الشرف تتطلب التضحيات. ولقد رأينا من ذلك أمثلة رائعة في فرنسا خلال الأزمة الاقتصادية التي مررنا بها منذ عهد قريب.

أما خطر القوة الوراثية فهو أن يكون الابن الأكبر للعائلة الحاكمة غير ذي شخصية، أو حتى غير ذي عقل كامل. فهل من اللازم في مثل هذه الحالة أن توكل الأمور إلى رجل لا يقدر على القيادة؟ كلا! وقد عمدت بعض البلاد التي يقوم فيها مثل هذا النظام من الوراثة، إلى استثناءات لا تمكن من الحكم الزعيم الوراثي الذي لا يليق للقيادة. ففي بريطانيا عدل نظام الإرث الملكي مرات عديدة بطرق برلمانية، وحدد رجال الأعمال الكبار في الولايات المتحدة أثناء حياتهم حدود السلطة التي قد تنتقل إلى أبناء لا يستطيعون أن يخلفوهم. فإذا لطفت السلطة الوراثية بما يتطلبه الحس العام وبسيطرة من البرلمان أو المجالس التمثيلية، فإنها تكون ذات صفات طيبة كثيرة.

وأهم ما يجب أن يمتاز به زعيم هو أن يعترف له الناس بصفة الزعامة. وجميع الزعماء الذين لا يقر لهم المجموع بزعامتهم كاملة، تنقصهم القوى الكافية لهذه الصفة الكبرى. والزعيم الذي ينتخب انتخابا يجب أن تكون له سلطة تامة على الذين انتخبوه؛ ولكن يقع أحيانا أن تكون الصفات التي اختير من أجلها الزعيم كالفصاحة وحسن الخلق غير الصفات المطلوبة في موقف معين، فيعود ضعيفا غير قادر على معالجة الأمور. وكذلك الحال في أمة تتقاسمها الأحزاب. فالزعيم المنتخب في هذه الحالة إنما يمثل ما يقارب نصف المنتخبين، فإذا أحس الباقون تجاهه بشيء من الكراهية، تعرضت الدولة للخطر.

ولقد رأينا مرات عديدة بلادا عظيمة تقع فريسة الشك والهزيمة لأن زعيما لها اختارته الأغلبية فلم يملك ثقة جميع الشعب.

واختيار الزعيم أو القائد عملية أشد خطرا عندما يدور الأمر لا على سلطة تقوم في بلاد بكاملها، ولكن على سلطة تقوم في جماعة أصغر وخاصة عندما يمارس الزعيم سلطته مباشرة، أو يكون معرضا لتجديد الانتخاب مرة بعد أخرى في فترات معينة. والسؤال الذي يرد هنا هو كيف يستطيع الزعيم أن يكسب طاعة الناس الذين سيتملق أصواتهم بعد قليل؟ إن انتخاب رئيس لمشروع، أو قائد كبير لجيش، بطريق الغالبية في الأصوات إنما نهى الدمار للمشروع أو الهزيمة للجيش. ولقد أدركت هذا بسرعة إدارات المشاريع والأعمال فرغبت عن الطريقة أكثر البلاد إحساسا بالديمقراطية ونبذتها. وهي تستعيض عن ذلك بأن يختار وكلاء القادة أو أعضاء مجلس الأعيان أو رؤساء الدوائر اختيارا انتخابيا وهؤلاء الموظفون التنفيذيون، أو هكذا يجب أن يكونوا، وليسوا قادة بحال من الأحوال. ومن الخطر جدا أن تجزأ الأعمال على صورة تحول دون الإجراءات اللازمة. فدستور الولايات المتحدة الأمريكية منشأ على شكل يجعل البلاد دون سياسة خارجية على الإطلاق فترة ما يكون الرئيس والكونغرس على خلاف. ويقع ذلك مدة سنتين كاملتين. وهذه حالة مضرة ضررا شديدا بأميركا وبأمم أخرى مثلها. أما للطريقة الإنكليزية فإنها تؤدي غرضها تأدية أفضل، لأنها أكثر مرونة وطواعية.

ومن أساليب اختيار القائد أسلوب الامتحانات، وفي هذا الأسلوب يجوز المرشح للرئاسة شهادة عملية. وقد استعملت هذه الطريقة سابقا في الصين. وهي تستعمل إلى حد محدود في فرنسا هذه الأيام. فإذا أراد فرنسي أن يتبوأ مقاما في الجيش أو في السلك الدبلوماسي أو في دائرة حكومية وجب عليه أن يجوز امتحانات معينة. ويبدو لأول وهلة أن هذا النظام عادل، لأن المتنافسين فيه يخضعون لظروف واحدة؛ ولكن له مساوئ خطيرة فالرجل الذي تتفتح قواه الذهنية ببطء والذي يمكن أن يثبت قدرته على القيادة في الأربعين من عمره يمنعه السن من الاستفادة من قواه. ثم إن الصفات والخصائص التي تكون القائد الحسن لا تظهر أغلب الأحيان ولا تعرف عن طريق الامتحان. ولا يتردد (بول فاليري) في القول بأن أعظم شرور اليوم هي الامتحانات والشهادات.

ويتخذ هذا الأسلوب من الترشيح للقيادة شكله الأشد حين تكون الترقية خاضعة للامتحانات. وهذا هو الحال في مهنة الطب في فرنسا. وفي الجيش يجد الرجل أمامه المدرسة الحربية وكلية الدراسات العسكرية العليا، إذ يجب أن يؤدي امتحاناتهما. غير أن الأقدمية في العمل ووساطات أصحاب الوساطة لها أثرها في التقدم كما تفيد الانتصارات أثناء الحرب ولا يمكن أن نقول شيئا كثيرا عن الأقدمية، فمن الواضح ان الناس يكسبون خبرة كلما تقدموا في السن إلا إذا كانوا شديدي الكسل والبلادة، أو شديدي العناد إلى حد يعوقهم من أن يتعلموا شيئا. غير أن هناك عددا كبيرا من المتقدمين في السن يمكن أن يختار أحسنهم بالنظر إلى شهادات الولادة، وعلى هذا الأساس تجري تعييناتهم.

ومن أكثر الطرق مطابقة للمنطق أن يعين رؤساء الأعمال الرجال الذين يلونهم في المناصب. وفي هذه الحالة يضطرون إلى الاعتماد عليهم وإلى أن يكونوا مسئولين عن أعمالهم. ويعين الملك الوراثي أو الرئيس المنتخب رئيسا للوزراء، بعد موافقة البرلمان أو الجمعية الحاكمة. ثم يختار رئيس الوزراء. ثم يعين الوزراء الموظفين في دوائرهم المختلفة. وبهذا يبنى الهرم بالبداية من رأسه ثم النزول إلى أسفل، وهي عملية ناجحة من الناحية الإدارية وإن تكن غير معقولة بالطبع في إقامة بناء.

وهذا النظام حسن ولا ريب على قدر ما يمكن أن تكون أعمال البشر حسنة. والمبدأ فيه حكيم، ولكن الجهاز مع ذلك لا يعمل عملا كاملا. فجميع التعيينات ما عدا الرئيس وعددا من الوزراء السياسيين، ومنها تعيينات الرجال الفنيين، يجب إن تقوم على أساس المقدرة التكتيكية والمتانة الأخلاقية. إن مصلحة البلاد ومصلحة الذين يقومون على حكمها هي أن يكون قائد الجيش أو مدير مصلحة السكة الحديدية مثلا رجلا من الطراز الأول، مهما كانت نزعاته السياسية أو الدينية، وكائنة ما كانت علاقاته وأصدقاؤه. وليس من الممكن أن يتمتع الناس عن أن تكون لهم عواطف، فالصداقة والقرابة والصلات الحزبية لها أثر كبير في التعيينات، وهذا أمر يؤسف له أحيانا، إذ من الواجب أن نسيطر جميعا على أنفسنا حتى لا تتأثر المواهب تأثرا يضير المصلحة.

وفي النظم التي تخلق الزعيم أن يتقدم الرجل على أثر ما تقع الأمة في حال من الفوضى، فيفرض نفسه عليها فرضا. (إن كرومويل) لم تعينه سلطة عليا، وإنما كان رجلا غامضا يقود عددا قليلا من الفرسان. وقد رفعت الثورة (بونابرت) إلى مركز جنرال، ولكنه جعل من نفسه قائدا للأمة. وهنالك أمثلة حديثة تخطر ببال كل واحد منا. ومما لا سبيل إلى الشك فيه أن الزعيم الذي يتبوأ مركزه عن طريق القوة زعيم يتمتع بالصفات اللازمة للزعامة. ولو لم يتمتع بهذه الصفات لما تمكن من القوة التي تبوأها بفرض نفسه، والصعوبة هنا أن تكتشف ما إذا كانت مواهب الزعيم مواهب رئيس حزب أو قائد أمة.

قإذا استولى زعيم على السلطة بنفسه واجهنا صعوبة إيجاد من يجيء خليفة له. فابن كرومويل لم يحكم طويلا، وابن بونابرت مات في المنفى. وقد كره خليفة (لينين) ما كان قد تم من قبل فأتى عليه.

ومن الحق أن نعترف بأن اختيار قائد مشكلة ليس لها حل صحيح، وإنما الأمر يتوقف على الظروف السابقة. وعلى أهداف الأمة في المستقبل. لكن شيئا واحدا نعرفه هو أن الزعيم لا يستطيع أن يتمكن من مركزه منتخبا كان أو معينا، وارثا أو مغتصبا، إلا إذا حاز جميع الصفات المطلوبة في الزعيم.

(للكلام بقية)

محمد أديب العامري