انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 925/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 925/القصص

ملاحظات: السر أو اعترافات امرأة Confession d’une femme هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1882. نشرت هذه الترجمة في العدد 925من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 26 مارس 1951



السر. .

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

للأستاذ حسين أحمد أمين

تسأليني أيتها الصديقة أن أسرد عليك أكبر الحوادث أثرا في حياتي وأعلقها بذاكرتي. . وبما أنني قد خلفت ورائي الشباب بمراحل طويلة ولم يعد لي من الأقارب من أهتم له، ولذلك لا أجد غضاضة في أن أسر إليك بما تبتغين على ألا تعيديه لأحد، فإن لم تجدي القدرة على الكتمان فلا بأس برده إذا لم تذكري أسمي

تعلمين أني قد اتخذت لي في حياتي عشاقا من الكثرة بحيث لا أذكر عددهم. . وأنني بادلت بعضهم حبا بحب، فقد كنت جميلة فاتنة وكان الحب بالنسبة إلي دعامة الروج لا تستغني عنه كما لا يستغني الجسد عن التنفس. كنت أفضل الموت على الحياة دون حب ودون أن أشعر بأن هناك من يفكر في طوال الوقت ويرغب في رضاي. . وقد تفخر الكثيرات من النساء بعجزهن عن احب سوى مرة واحدة وبأنهن إن وهبن قلوبهن إلى رجل فإلى الأبد. لا يتحولن عنه. . أما أنا فقد أحببت رجالا كثيرين معتقدة في كل مرة أني سأحبه إلى الأبد وأن عاطفتي نحوه لن تتضاءل. لكنها كانت دائما تتضاءل كالنار التي لا تزودها بالوقود. . وينهى بها التضاؤل إلى الموت. .

واليوم أذكر لك مغامرتي الأولى. . وبرغم أنها بريئة تماما إلى أن في تربتها تكونت البذرة التي تفرع عنها سائر المغامرات

كان زوجي كونت هيرفيه دو - رجلا واسع الثروة من عائلة عريقة ولم أكن أحمل في قلبي له ذرة من الحب. . فالحب في رأي يتطلب لوجوده الحرية والصعاب. . أما الحب الذي ينظمه القانون ويحميه، وتباركه الكنيسة فسرعان ما تخمد جذوته. . وما قيمة القبلة المشروعة إذا قيست بالقبلة المغتصبة كان زوجي طويلا ضخم الجسم نبيل الطلعة. . غير أنه كان غبيا إلى أقصد حد، فالمناقشات معه مملة وملاحظاته تافهة وعقله جامد لا يتطور ولا يسمح بدخول أفكار جديدة إليه كنا نعيش في منزل كبير بالريف وقد مضى على زواجنا عام واحد. . وكانت تحوطه الأشجار من كل جانب. وفي نهاية الحديقة تجد بحيرتين واسعتين مليئتين بالأعشاب المائية وبينهما كوخ صغير بناه زوجي لاستعماله عند صيد البط

وبالإضافة إلى خدم المنزل، كان يعيش معنا حارس مخلص لزوجي كل الإخلاص تابع له غدواته وروحاته، ووصيفة لي تحبني وأحبها كالأصدقاء، كنت قد أحضرتها معي من إسبانيا ورغم أنها كانت في السادسة عشرة من عمرها إلا أن الناظر إليها يحسبها في العشرين. . .

وبدأ في الخريف موسم الصيد. فكنا أحيانا نصطاد في ضيعتنا وأحيانا في ضيعة جيراننا. . وكان البرون دو - على الأخص موضع اهتمامي. . فلما انقطعت زياراته لنا فجأة انقطعت عن التفكير فيه. . غير أني بدأت ألاحظ منذ ذلك الحين تغيرا طرأ على علاقة زوجي بي فقد بدأ لي غامضا تنتابه الهواجس ولم يقبلني. . ورغم أنه لم يعد يدخل إلي في حجرتي الخاصة إلا أنني كنت أسمع أثناء الليل خطوات مسترقة تقف عند باب الحجرة بضع دقائق ثم تعود أدراجها. . وكنت أسمع وقع أقدام في الحديقة ليلا تذهب وتجيء تحت نافذة حجرتي فلما سألت زوجي عنها نظر إلي نظرة طويلة ثم قال: لا شيء. . لا شيء. . لا بد أنه الحارس.

وفي إحدى الأمسيات - بعد أن انتهينا من العشاء - بدأ زوجي في اضطراب نفسي شديد. . وإذا به يسألني بغتة: هلا خرجت معي إلى الضيعة نصطاد ثعلبا اعتاد غشيتها كل ليلة؟

ودهشت لسؤاله وترددت، غير أنه كان ينظر إلي في إلحاح شديد فأجبته أخيرا بالطبع يا عزيزي. .

وأرى لزاما على أن أخبرك أنني كنت أصطاد الثعالب كالرجال. . فلم يكن هناك ما هو غير عادي في سؤاله. لكنه ضل طيلة المساء يقطع الردهة في خطوات قلقة وقد بدا على وجهه الهم. .

وفي العاشر سألني فجأة: هل أنت مستعدة؟ فأجبته بالإيجاب وخرجت معه.

وسألته. أأضع في بندقيتي الرصاص أم (الخراطيش)؟ فحملق في دهشا بعض الوقت ثم قال: فلتستعملي (الخراطيش) ففيها الكفاية. .

ثم أضاف في لهجة غريبة. ما أبردك!

فضحكت قائلة: ما أبردني!؟ وما حاجتي إلى البرودة في صيد ثعلب؟ ما هذا الذي يشغل فكرك يا عزيزي؟

واخترقنا الحديقة في سكون حتى وصلنا إلى حافة البحيرتين فوقفنا أمام الكوخ الذي علينا أن ننتظر في قدوم الثعلب. . وسألني زوجي أن أدخل أولا. . . ثم أحدث فجأة صوتا ببندقيته أرعبني. . . ورآني أرتعش. . .

وسمعته يقول: يكفي هذا الاختبار. . . باستطاعتك الرجوع. . . فدهشت كل الدهشة وقلت له: أنني لم أحضر هنا كي أرجع ثانية ما أغربك الليلة!

قال: كما تشائين. . .

وانتظرنا نصف ساعة دون حراك ولم نسمع للثعلب صوتا فسألت زوجي هامسة: أمتأكد أنت أنه يأتي من هذا الطريق؟

فبدا عليه الرعب من قولي هذا وأجاب: أجل. . . متأكد تماما.

وحفنا السكون ثانية مدة طويلة. . . وإذا بزوجي يمسك بذراعي فجأة ويقول: أترينه؟ أنه هناك. . . تحت الأشجار.

ونظرت جاهدة فلم أتبين شيئا. . . وجعل زوجي يراقبني وأنا أنظر. . . ثم بدأ يعد يندقيته وبدأت أحذو حذوه. . وفجأة، وعلى بعد ثلاثين خطوة رأيت رجلا يبرز في ضوء القمر متسللا وقد حنا جسمه كأنما يفر من شيء. . .

وأصابني الفزع فصدرت عني صرخة عالية. . . وقبل أن أستطيع حراكا سمعت صوتا مدويا ورأيت الرجل يسقط على الأرض كالذئب وقد اخترقته الرصاصة.

وجن جنوني فبدأت أصرخ. . . وامسكني زوجي بقسوة من رقبتي ورماني على الأرض ثم جرني نحو الجثة الراقدة على الحشائش وألقاني عليها بقوة كأنما يريد أن يكسر رأسي. . . لقد كان ينوي قتلي. . . لكنه ما أن رفع حذاءه كي يحطم به وجهي حتى ذراعين يحوطانه ويلقيان به على الأرض.

ووقفت بسرعة. . . وإذا بي أرى وصيفتي وهي تنهش زوجي بأسنانها كالهرة وتمزق وجهه ولحيته بأظافرها. . . ثم رأيتها فتحول عنه فجأة إلى الرجل القتيل وبدأت تقبل عينيه وشفتيه وهي تستخرط في البكاء. . .

وقام زوجي ورأى وصيفتي تبكي حبيبها فعرف الحقيقة ورمى بنفسه عند قدمي قائلا:

- سامحيني يا حبيبتي. . لقد شككت فيك وقتلت عشيق الفتاة. . لقد ظللني الحارس. .

أما أنا فبقيت أنظر إلى عناق الحي للميت وأستمع إلى بكاء المرأة على حبها. .

. . في هذه اللحظة تبينت أنه من المستحيل أن أظل مخلصة لزوجي. .

حسين أحمد أمين