مجلة الرسالة/العدد 924/رسالة الشعر
مجلة الرسالة/العدد 924/رسالة الشعر
آلام شاعر!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
ألم يكفها أني تركت لها غدي ... وشيعت أمسي، ثم ضيعت حاضري؟
ألم يكفها بأسى وحزني وحيرتي ... وضيعة أيامي، ولوعة خاطري؟
فجاءت تعري روضتي من غصونها ... وتنثر فوق الأرض غض أزاهري!
وتملأ لي كأسي من الهم والضنى ... فتفعل بي فعل السهاد بساهر
كفى ألما بعدي عن الناس كلهم ... وكثرة أعدائي، وقلة ناصري!
كفى ألما أن أترك اليوم ظامئا ... أفتش عن نبع من الماء زاخر!
ويرجع كل الناس نحو ديارهم ... وامضي شريدا مستطار المشاعر
أهيم على وجهي كأني مطارد ... من الدهر، أو جان على كل سائر
لقد كنت أخفي هم نفسي، فها أنا ... أهتك أشعاري، وأبدي سرائري!
أنا الشارد الهيمان! عفت إقامتي ... وسرت كطيف شارد الخطو نافر
أنا الشارب الظمآن! تهتز أكؤسي ... بدمع المآسي، لا بخمر المعاصر!
أنا الشاعر السأمان! حطمت معزفي ... وأصغيت في يأس لبوم المغاور
تمر على قلبي الليالي كأنها ... مواكب أشباح سرت في مقابر
وتبدو لعيني الأماني كأنها ... تصاوير جن، أو تهاويل ساحر
فإن جئتها أبغي لقلبي راحة ... لديها، تعد كالعثير المتطاير
أليس لقلبي أن يعيش منعما ... يغرد في الآفاق تغريد طائر؟
أكل حياتي لوعة وكآبة ... وأحلام محروم، وأوهام شاعر؟
أكل حياتي لهفة وصبابة ... وآلام ظماآن؛ وأحزان حاشر!
فهمت أضاليل الحياة فعفتها ... كما عافها من قبل أهل البصائر
وعشت كأني ضارب في مفازة على ظمأ مر، وخوف مخامر
أنام على يأس قديم مساور ... وأصحو على يأس جديد مبادر!
إذا هدأ الليل الرهيب أثارني ... وذكرني عهد الليالي الغواب فمرت على قلبي طيوف كثيرة ... تطوف حولي في الدجى كالسواحر
على ثغرها الداوي شكاية حائر ... وفي وجهها الباكي كآبة عاثر
وفي قلبها الشاكي جراح كثيرة ... تنوح نواح الريح تحت الدياجر
وفي مقلتيها أدمع خلت أنها ... سوافر سركن غير سوافر
عرفتك يا أطياف عمري الذي مضى ... ولم يبق لي إلا علالة ذاكر
عرفتك لا بالعين؛ فالعين لا ترى ... بها صور من عالم غير ظاهر
ولكن بتحنان الفؤاد وخفقه ... وهزة روحي، واختلاج مشاعري
وهمس جرى في مهجتي فسمعته ... وإن كان أخفى من طيوف عوابر
أأنت التي كانت نعيما وفرحة ... لقلبي، وكانت بهجة لنواظري!
أأنت التي أنبت في قلبي المنى ... فرفت كأزهار الربيع النواضر؟
أأنت التي غنى بها القلب مسعدا ... على شدو أطيار، وعزف قياثر؟
أأنت التي كانت لنفسي مفزعا ... من الهم إذ يغشى عتي الهوادر؟
تغيرت! حتى كدت أنكر ما مضى ... وحتى لقد أوشكت أنكر حاضري
وما أنا إلا عابر لم يتح له ... من العمر إلا ما يتاح لعابر
أسير وما أدري! وأرنو وما أرى ... وأصبو وما ألقى! ولست بصابر
أظل حزين النفس يرتادني الأسى ... وتقذفني البلوى إلى كل غائر
أفكر في عرمي الذي ضاع مثلما ... تضيع على الآفاق آهات زافر
أفكر في قلبي الذي لم أجد له ... أنيسا، ولم أظفر له بمسامر!
أفكر في حظي؛ فإني لم أجد ... مثيلا له بين الجدود العواثر!
أفكر من الآلام علي أضلها ... ومن أين؟ والآلام جند المقادير
وأستر آلامي، وأخفي مواجعي ... فتفضحني آثار دمع المحاجر!
قضى الله أن أحيا بدنياي حائرا ... كأني لحن فر من ناي زامر
كأني سفين ضلل البحر سيره ... فغيب في لج من الموج غامر
كأني دفين أطلقته يد البلى ... فعاش بدنيا الناس عيش المحاذر
ألا ليتني ميت، فيهدأ خافقي ... وترسب آلامي، وترسو خواطري وينعم جسمي بالتراب، فطالما ... أضرت به أشواك تلك الأزاهر
تعال فؤادي، حسبنا اليأس مغنما ... وهيا نجري حظنا في المقابر!
أآسى على دنيا سقتني حميمها ... وصبت على قلبي لهيب المجامر؟
سأخرج منها ما قضيت لبانتي ... ولا نلت أو طاري، ولا قر طائري!
أآسى على مجد يقولون إنه ... حياة لجسم ميت متناثر؟
أآسى على فن وهبت له دمي ... وما نلت منه غير وهم مساور؟
وهل نافعي أن أبصر الآل لامعا ... وأترك ظمآنا صريع الهواجر؟
لعمرك ما في العمر خير إذا خلا ... من الحب. إن الحب نور البصائر
وما الحب إلا النبع رفت مياهه ... رفيف نجوم في السماء زواهر
وما هو إلا عالم ساحر الرؤى ... وكنزر سعادات، ودنيا بشائر
وما هو إلا المجد يعنوا لعرشه ... ويشكو إليه الذل عرش الجبابر
وما هو إلا الفن يسمو بأهله ... إلى ملكوت عاطر النور طاهر
إذا لم ينل قلبي من الحب ما اشتهي ... فإني بما قد نلت - أضيع خاسر
إبراهيم محمد نجا