مجلة الرسالة/العدد 924/خواطر بدر. . .
مجلة الرسالة/العدد 924/خواطر بدر. . .
للأستاذ محمد عثمان محمد
مما لا يواتي الكثيرين من الأدباء القدرة الفائقة على التلوين والتنويع في أدبهم مع الحبك والسبك والإجادة. . . فقد يكون الكاتب في النثر بارعا، وقد يكون في الشعر مفلقا، وقد يكون في القصص عبقريا، وقد يكون في الأدب الشعبي راسخا. . . أما أن يكون في مستوى واحد من البراعة والإجادة في جميع فنون الكتابة فأمر لا أظن أنه يتأتى للأكثرين. . .
أقول هذا وبين يدي كتاب جديد صدر أخيرا باسم (خواطر بدر)، أهداه إلى مؤلفه الأستاذ الفاضل أحمد عبد اللطيف بدر، المدرس ببورسعيد الأميرية الثانوية. . . فقد حوى في تضاعيفه الشذرة الاجتماعية، والمقالة الأدبية، والقصة في عالميها الواقعي والخيالي، والشعر المقفى في أغراضه، والزجل الشعبي في استرساله. . . مما دل على قدرة الأستاذ على التلوين والتنويع في أدبه بصورة غير مألوفة. . .
وقد يدهش القارئ الفاضل أن يكون عالم من خريجي إحدى كليات الأزهر الشريف زجالا. . . ولكن ليس في هذا ما يدعو إلى الدهش والاستغراب. . . فالزجل فن شعبي له منهجه وأصوله، وليس كما يفهم البعض (. . . كلمات مسرفة في العامية أو عبارات تنظم حيثما اتفق. . .)، وليس في مزاولته أو محاولة نظمه ما يحط من قدر العالم المصلح والكاتب الاجتماعي. . . لأننا إذا دعونا إلى الإصلاح مثلا - ومخاطبة الدهماء من طبيعة عمل العالم الذي يهدف إلى الإصلاح والكاتب الاجتماعي الذي يرمي إلى التهذيب والإرشاد - كانت دعوتنا، كما يقول الأستاذ المؤلف، ذات فائدة إذا كانت لها صلة بروح الشعب المنتفع بها، ولا تتأتى هذه الصلة الروحية إلا إذا خاطبنا الشعب بلغته الدارجة التي يفهمها، والزجل مظهر من مظاهر هذه اللغة. . .
وقد يظن البعض أن الزجل فن شعبي مستحدث، ولكنه فن قديم مضت عليه أكثر من ثمانمائة وعشرين سنة، فقد ابتدعه في الأندلس من يقال له (راشد)، جوده وحسنه وأكثر من أوزانه من بعده أندلسي آخر يقال له (ابن قزمان) وقد توفي عام 555 هـ. . .
والملاحظ على أزجال الأستاذ أحمد أنها كلها أدبية أخلاقية اجتماعية، لا تجد خلالها قصيدة واحدة في الهجاء أو الذم تتخللها ألفاظ نابية. . .
وإذا تركنا الزجل وانتقلنا إلى الشعر. . . أو انتقلنا من النظم باللغة الدارجة إلى النظم بالفصحى، وجدنا الأستاذ الشاعر مقلا. . . تتفاوت مقطوعاته ما بين عشرة أبيات وأربعة، اللهم إلا في قصيدة واحدة هي (فجر النهوض) فقد أربت على ستة وعشرين بيتا. .!! وهو يقول في تعليل ذلك: (. . . وشعري قطعة من نفسي أصوغه حينما أشعر برغبتي في تنغيم مشاعري على النغم الموسيقي الذي يبعه اللحن الصادق المتجاوب بين أعطاف وجداني لذلك كنت مقلا. . .)، يريد أن يقول إنه لا يقول الشعر إلا إذا أحس في أعماقه برغبة قوية صادقة تدفعه دفعا إلى التنغيم والإنشاد. . .، وهذا حسن. . . ويجب أن يكون منهاجا وسبيلا يطرقه كل شاعر يريد أن يسمو بشعره وأن يخلد بنات أفكاره. . . ولكنه لا يمكن أن ينهض سببا قويا على التقصير وعدم الاسترسال في القصيد. . . وإن كان يمكن التعلل به على قلة النتاج الفكري. . .
فإذا كان الذهن حاضرا، والقريحة صافية، والشعور صادقا، وتلك الرغبة العميقة الدافعة إلى النظم والإرشاد مواتية. . . ما الذي يمنع الشاعر من الاسترسال والإطالة - لغير المملة - ما دام لم يستوف الغرض ن وما دام الموضوع يتطلب منه الصول والجول. .؟!
على أنه ليس معنى ذلك أنني أقول (بالكم) في مجال التفوق والشاعرية. . فقد (يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق) كما قال عقيل بن علفة حين سأله سائل وقال: مالك لا تطيل الهجاء؟!
هذا، والأستاذ بدر، صاحب هذه الخواطر، هو صاحب مجموعة (قصص بدر للأطفال)، فهو من تلك الفئة العاملة من رجال التربية والتعليم، المعنية عناية خاصة بتربية الناشئة تربية تقوم دعائمها على النهج الديني القويم. . فهو من دعاة نشر الثقافة الدينية في جميع مراحل التعليم في مدارسنا على اختلاف درجاتها، لأنه يرى أن (ليس هناك أجدى على النفس من الوازع الديني. .)، وفي هذا يقول (ص 98): (. . إنا لا ندعو إلى وجوب التخصص في الدين، لب نأمل فهم روحه حتى تربى الأم أولادها وبناتها في ضوء تعاليمه التربية التي تخول لهم حياة كريمة). . وهو في دعوته هذه على حق. . فنحن نعيش في عالم مادي بحث، تدهورت فيه القيم الأخلاقية وعمت الفوضى والفساد حتى أصبحنا في حالة نم الانحلال تنذر بالويل والثبور. . ولا يمكن أن يثوب هذا العالم إلى رشده ما دامت المادية متحكمة فهي هذا التحكم المزري به، وما دامت أغلالها وسلاسلها وقيودها محكمة تعوقه عن السير والانطلاق. . وليس أجدى على هذه الإنسانية التعسة وهذه البشرية الرعناء من الرجوع إلى الدين وتعاليمه لكبح جماح هذه المادية للحيلولة بينها وبين الاستمرار في انطلاقها. .
هذا مثال واحد لما في تضاعيف الكتاب نم المواقف الكثيرة المثيرة للاهتمام والتأمل في الأدب والنقد والفن والاجتماع وغير ذلك في أسلوب سلس أخاذ. .
بور سعيد
محمد عثمان محمد