مجلة الرسالة/العدد 924/تأديب الصحافة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 924/تأديب الصحافة

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 03 - 1951



للأستاذ محمد إبراهيم الخالدي

لا شك أن سمات الدهشة سترتسم عل محياك حين تقرأ عنوان هذا المقال، وستنكر أن تتهم الصحافة، وأن تساق إلى تأديب أو عقاب. ولن ترضى وأنت المتعشق للحرية في جميع ضروبها، المستشرف لعصر تتحقق فيه آمال البلاد أن ترى (صاحبة الجلالة) تهان، وتذل، وتنزع عن عرشها، لتساق إلى مجلس قضاء

وأنا معك أيها القارئ فيما تنكره، لا أرضى للصحافة ذلك المصير المحزن؛ بل أحب لها أن تبقى على عرشها، عزيزة الجانب، مرموقة المكانة، وأن يزاد قدرها علوا، لتنهض بواجبها خير نهوض. ولكنني مع ذلك أدعو إلى تأديبها - على نحو آخر لتستطيع أن تساهم في بناء الإصلاح على دعائم صحيحة، ولتكون وسيلة راقية ترتفع بالشعب وترقى به شيئا فشيئا إلى مدارج الرقي ومطامح الآمال.

والصحافة إحدى وسائل ثلاث في العصر الحديث تقدم للناس ما يضطرب في عالم الأرض من أحداث، وما يجول في عالم الذهن والقلب من أفكار ومشاعر تشاركها في ذلك الإذاعة والسينما، وتتضافر كلها على تغذية المرء بما يحتاج إليه عقله وقلبه

وسيطرة هذه الوسائل الثلاث على الناس وانتشارها بينهم دليل على أن الإنسان متطلع أبداً إلى معرفة ما يجري حوله من أمور لا يكتفي بغذاء المعدة بل يسعى وراء ذلك إلى غذاء العقل والقلب، فيطلبه في صحيفة يقرؤها، أو فلم يشاهده، أو إذاعة يستمع إليها

ولقد انتشرت الصحافة في هذا العصر انتشارا عظيما، وأصبحت في كل بيت يقرأ، ولعل من أقوى أسباب انتشارها رخص ثمنها وتقدم طباعتها وإخراجها تقدماً عظيماً. فهناك عدد من الصحف الأسبوعية والشهرية التي تصدر في البلاد العربية، تستهوي القارئ بجمال الطباعة وحسن التنسيق. كما أن عرض الموضوعات أصبح فناً من الفنون تجمع له الصور المعبرة، ويحشد له الأسلوب الطلب، ليكون التأثير في القارئ أبلغ، والوصول إلى مواطن شوقه واهتمامه أسرع. ولهذا فإنني أرى أن للصحافة أثراً كبيراً في الشعب لا يقل عن أثر الوسيلتين الأخريين؛ فهي تعبر عن آمال الشعب ورغباته، كما إنها توجهه إلى هذا الاتجاه أو ذاك ولا شك أن الصحافة العربية قد خطت خطوات واسعة نحو التقدم فلم يعد عملها نقل الأخبار ورواية الأنباء وإنما تعدت ذلك إلى تثقيف الشعب، ونقد المجتمع، وعلاج الأدواء، وتوجيه الآراء؛ ومن ثم فقد أصبحت من الوسائل القوية التي نرجو لها القوة والخير، لأنها لم تعد ملكا لأصحابها وإنما صارت ملكا للشعب، فهي مسؤولة عما تخلق فيه من تيارات صالحة أو فاسدة، وعما تصور له من أهداف ومثل

ولكن صحافتنا - مع الأسف - لا تسير نحو أهداف واضحة، ولا تطبق مبدأ محدوداً، وإنما أكثر صحفنا تسعى وراء الربح المادي، فتجاري أهواء الشعب وتسعى إلى إحراز ما يرضيه لا إلى ما ينفعه، لتضمن الرواج والقبول ولهذا فإن صحافتنا محتاجة إلى تطعيم من دم الأدب، يكسبها قوة، ويجعلها أقدر على أداء مهمتها

وحين أتحدث عن الأدب، فإنما أعني ذلك النوع من الأدب الذي يستحق الخلود بسمو أفكاره، وجمال تعبيره، واتساع محيطه. ومن أبرز صفات الأدب الحي: الحرية والجمال، الحرية في أن يقول الأديب ما يشاء كما يملي عليه عقله وضميره، وأن يلقي الرأي الذي يعتقد، لا يسعى لإرضاء المجتمع ولا إلى تملقه لينال رضاه، كما لا يقصد إلى مبادئه ومثله ومعتقداته بالهدم والتحطيم. ثم التعبير عن آرائه وأفكاره بالقول الجميل، والتعبير الحي، وإخراج ذلك كله في حلة رائعة من الفن

فصحافتنا بحاجة إلى تأديب لاكتساب الروح القوية التي تشيع في الأدب الخالد، والتي تهتم بالفكرة قبل الناس، والتي ترى أن من أقوى واجباتها أن ترفع الشعب إلى مستوى راق من التفكير والتهذيب والذوق لا أن تنزل إلى غرائزه وأهوائه وإلى ما يريد وما لا يريد، هي جديرة بأن تقتبس تلك الكرامة العقلية التي يتصف بها الأدب، وبأن تتعلم من الأدب السمو بالقارئ والأخذ بيده إلى سبيل الحياة الحافلة بالكفاح، لأطرح المبادئ والمثل في سبيل تسليته وتخدير أعصابه

ولا يعني ذلك أن تهمل الصحافة الشعب ولا تلتفت إليه؛ ولكن الذي أقصد إليه أن يكون للصحافة مبدأ إصلاحي، وهدف سام تسعى إلى تحقيقه؛ ترتفع بالشغب إذا رأته يتدنى في أخلاقه وفي مثله، وتبصره بالسبل الواضحة إذا ما زاغ عنها معبرة في كل ذلك عن رغباته ومآله وصحافتنا بحاجة إلى تأديب لاكتساب أسلوب الأدب في تعبيره لتدب فيها الحياة، ولتؤثر في قلوب القارئين وفي عقولهم، ولتأخذهم شيئاً فشيئاً إلى ذخائر الفكر، وروائع الفن، فتصل بينهم وبين الأدب الخالد، والثقافة الواسعة، وترتفع بهم إلى حياة واعية، ينعمون فهيا بالحرية التامة، ويبصرون فيها سبل الإصلاح

فإذا ما أدبت الصحافة على هذا الأساس: بأن رفعت كرامة العقل ونزاهة القلم فوق كل اعتبار، وبأن أشاعت الحياة في تعبيرها واتخذت طريق الأدب في أسلوبها؛ أصبحت أقوى وسيلة من وسائل التأثير في النفوس وتوجيه الإصلاح في المجتمع، وأصبحت (صاحبة الجلالة) حقا

دير الزور - سوريا

محمد إبراهيم الخالدي