مجلة الرسالة/العدد 922/أدب الشتاء
مجلة الرسالة/العدد 922/أدب الشتاء
للأستاذ محمد علي كيلاني
حتى إذا ما أقبل الشتاء=جاءتك منه غمة غماء
(أبن وكيع التنيسى)
يعاني الناس في فصل الشتاء كثيرا من الأهوال والشدائد. وقد كان شعور القدماء بهذه الشدائد أعظم وبخاصة الفقراء منهم. وسكان الأرياف ما زالوا يلاقون من بلاء الشتاء ما كان يلاقيه أسلافهم من قبل. لذلك اعتبروه عدوا لدودا وخصما عنيفا. وشبهوه بجيش جرار أغار عليهم بعساكره مشاة وفرسانا. فعواصف وأنواء، ورياح وزوابع، وأمطار وسيول، وغيوم بعضها فوق بعض، وبرق ورعد، وبرد وثلج. قال القاضي التنوخي:
أما ترى البرد قد وافت عساكره=وعسكر الحر كيف أنصاع منطلقا
والأرض تحت ضريب الثلج تحسبها=قد ألبست حبكا أو غشيت ورقا
وقد تبارى الشعراء والكتاب في وصف مظاهر الطبيعة في هذا الفصل وأخترعوا المعاني الجميلة وأتوا بالصور الرائعة، ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا قالوا فيها شعرا ونثرا. قال أبو تمام وهو بخراسان:
ما للشتاء ولا للصيف من مثل ... يرضى به السمع إلا الجود والبخل
أما ترى الأرض غضى والحصى قلقا ... والأفق بالحر جف النكباء يقتتل
من يزعم الصيف لم تذهب بشاشته ... فغير ذلك أمسى يزعم الجبل
غدا له مغفر في رأسه يقق ... لا تهتك البيض فودية ولا الأسل
فالشاعر هنا قد شخص الطبيعة وأضفى عليها ثوبا من الحياة والنشاط؛ فالأرض هائجة ساخطة، والحصى لا يستقر على حال فهو دائم الإطراب، والأفق يتضارب برياح عاتية، والجبال قد اكتست بطبقات كثيفة من الثلوج. ثم حدثنا أبو تمام عن أثر البرد في الضلوع والأحشاء والكلى. وكان قد عانى من أهواله بلاء كبيرا. قال:
من كان يجهل منه جد سورته ... في القريتين وأمر الحق مكتهل
فما الضلوع ولا الأحشاء جاهلة ... ولا الكلى أنه المقدامة البطل
وقد بلغ شغور أبى تمام بشدة البرد أنه بكى على ذهاب الصيف بكاء مرا. قال: عدل من الدمع أن يبكى المصيف كما ... يبكى الشباب ويبكى اللهو والغزل
وقد كانت رحلته إلى خراسان دافعا له على وصف مظاهر الطبيعة القاسية في هذا الفصل. وقد شبه الشتاء بحيوان قوي مخيف وادعى أن ممدوحة ضرب هذا الحيوان ضربة فلت من غربة وكسرت من حدته، وجعلته ذلولا سلس القيادة، قال:
فضربت الشتاء في اخدعيه ... ضربة غادرته قودا ركوبا
ووجد الشعراء والكتاب في الأمطار والسيول مجالا للقول، وميدانا فيه يتسابقون ويأتون بكل معنى طريف، وقد صور لنا ابن الرومي ما فعلته به الأمطار وهو سائر في الطريق فقال:
لقيت من البر التبارج بعدما ... لقيت من البحر ابيضاض الذوائب
سقيت على ري به الف مرة ... شففت لبغضيها بحب المجادب
إلى الله أشكو سخف دهري فأنه ... وما يثني - مذ كنت - مطايبى
أبى أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمت ... برحلي أتاها بالغيوث المواكب
سقى الأرض من أجلي فأضحت مزلة ... تمايل صاحبها تمايل شارب
وأستمر الشاعر في هذه القصيدة فصور لنا حاله وقد بللته الأمطار حتى أصبح كالغريق. وذكرتنا أنه التجأ إلى خان ليستريح من بلاء هذا المطر وليظفر بالدفء. ولكنه لم يجد بغيته في هذا الخان لأن الأمطار قد أتلفته وجعلته عرضة للسقوط. فقضى به ليلة في خوف وجوع، إذ كان سقف الخان قد أثقلته مياه الأمطار فأضحى مبعثا للرعب بصريره الذي يشبه صرير الجنادب. ولما انقطعت الأمطار هبت ريح صرصر عاتية حثت التراب والحصى في الوجوه. وهكذا أصبحت الحياة كما صورها أبن الرومي جحيما لا يطاق. وفي هذه القصيدة من الألم والتبرم والسخط ما لا يخفى. فالشاعر يشكو مر الشكوى من دهره الذي يعبث به ويسومه عذاب الهون
وقد تبارى أدباء الشام في وصف ما أحدثته الأمطار والسيول ببلادهم، وما سببته من الخسائر والتلف في الزرع والضرع، وما فعلته في الطرق من التخريب والتميز، وما ترتب على ذلك من سوء الأحوال الاقتصادية والصحية، وما تعرض له الناس من الهلاك. فانظر إلى هذه الصورة المؤثرة وهي من رسالة لأحد الكتاب: (. . أما المسكن فأهلها مساكين، وأفواههم من الحزن مطبقة فما تفتحها السكاكين. قد أنتبذ كل منهم زاوية من داره، وتداخل بعضه في بعض لتضمه بقعة على مقداره، هربا من توقيع أكف الوكف، وخوفا من ركوع الجدار وسجود السقف)
وقال أبن المعتز:
روينا فما نزاد يا رب من حيا ... وأنت على ما في النفوس شهيد
سقوف لبيتي صرن أرضا أدوسها ... وحيطان بيتي ركع وسجود
فالناس في الشتاء كانوا عرضة للهلاك. فربما فاجأتهم الأمطار الغزيرة في أثناء سفرهم
وقطعت عليهم الطريق وتعذر على القوافل السير فيتلفهم الجوعوالبرد ويموت أكثرهم من جراء هذا.
والمقيمون في المدن لا يسلمون من شر الأمطار. فلما خرت عليهم سقوف المنازل فجأة وهم نائمون فيقضي عليهم. وقد يحبسون في دورهم أياما حتى تجف الطرق وتصلح، فلا عجب إذا ساءت أحوال المعيشة إلى حد كبير. وقد ظهر اثر هذا في الأدب بشكل واضح، فرأينا أدبا لحمته وسداه السخط والتبرم بالحياة. أما المتصوفة فرأوا في هذه الأمطار والسيول عقوبة إلهية امتحن الله بها الناس لعصيانهم وابتعادهم عن الصراط المستقيم. وفي ذلك يقول ابن الوردي:
أن المصائب بالأقدار كائنة ... لمن على حساب الأقدار تحتسب
عجبت مني ومن غيري تشوفنا ... إلى ازدياد حياة كلها تعب
وان دهمنا بسيل أو بنوع أذى ... كالنار والثلج قلنا ما هو السبب
أقسمت بالله لولا حلم خالقنا ... لكان منم عشر ما نأتي به العطب
ودهرنا أي دهر في تقلبه ... قد هان فيه التقى والعلم والأدب
فالمتصوفة كانوا يتخذون من هذه الأمطار الغزيرة التي يبتلى بها الناس في هذا الفصل وسيله للوعض والإرشاد، والنصح والتحذير
ووصفوا الغيوم وما تحدثه في الجو حين تحجب الشمس والقمر والنجوم. واتوا في ذلك بكثير من الصور والمعاني الجميلة. قال احد الشعراء:
لا يوحش الله من شيء يقال له ... شمس النهار فما تبدو ولم تعد أما النجوم فشيء كان في زمن ... مضى حميدا فقد ولى ولم يعد
وهذا من المبالغات العجيبة. فالشاعر هنا يتحدث عن شيء يقال له الشمس وعن شيء يقال له النجوم. وذلك لان الناس لطول عهدهمبالغيوم أضحوا لا يعرفون من أمر هذه الكواكب قليلا أو كثيرا
وهذا شاعر يصور النجوم حين تظهر من خلال الغيوم فيقول:
ولقد ذكرتك والنجوم كأنها ... در على ارض من الفيروزج
يلمعن من خلل السحاب كأنها ... شرر تطاير عن يبيس العرفج
والأفق احلك من خواطر كاسب ... بالشعر يستجدي اللئام ويرتجي
لقد تنافس الشعراء والكتاب في اختراع الأوصاف والتشبيهات، وصوروا هذه الظاهرة الطبيعية تصويرا لا تنقصه ريشة الفنان الموهوب. انظر إلى هذا الشاعر حين يقول:
والبدر يستر بالغيوم وينجلي ... كتنفس الحسناء في مرآتها
وكانوا ينتهزون فرصة تلبد الجو بالغيوم ويجعلون من هذا وقتا مناسبا للهو والعربدةٍ، فيعقدون مجالس الخمر والغناء. وتلك عادة عرفت عند العرب منذ العصر الجاهلي. قال طرفة
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف المعمد
وقال الصنوبري:
الجو بين مضمخ ومضرج ... والروض بين زخرف ومدبج
والثلج يهطل كالنثار فقم بنا ... نلهو بربة كرمة لم تمزج
ضحك النهار وبان حسن شقائق ... وزهت غصون الورد بين بنفسج
فكان يومك من غلالة فضة ... والنور من ذهب على فروزج
والشواهد على ذلك كثيرة. ومنها نرى انهم كانوا في أوقات الغيوم والأمطار ينشطون لتعاطي الشراب وسماع الغناء. ولا يخفى انه عقب سقوط الأمطار تصفو الطبيعة صفاء تاما وترق إلى حد بعيد، فتستولي على الإنسان مشاعر خاصة لما يرى من مظاهر الجمال الطبيعي في الكون ويمتزج بالطبيعة امتزاجا كليا. وكأنه يتعاطى الخمر وسماع الغناء يريد أن يشارك الكون في الصفاء ووصفوا البرد وشبهوه بالدر. قال ابن احمد يس الصقلي
نثر الجو على الأرض برد ... أي در لنحور لو جمد
لؤلؤ أصدافه السحب التي ... أنجز البارق منها ما وعد
منحته عاريا من نكد ... واكتساب الدر بالغوص نكد
ذوبته من سماء ادمع ... فوق ارض تتلقاه نجد
فجرت منه سيول حولنا ... كثعابين عجال تطرد
وهذه القصيدة الطويلة تعتبر من عيون شعر ابن حمد يس في الوصف. وذلك لما حوته من الصور الرائعة والأوصاف الجميلة اللطيفة. فقد وقف الشاعر أمام البرد وأطال الوقوف. فالبرد لو جمد لصار كالدر الجميل الذي تتزين به نحور الحسان. وهو كاللؤلؤ. وإذا استقر على الأرض وذاب تكونت منه سيول ملتوية كالثعابين التي تزحف مسرعة هربا ممن يطاردها
وقد تناول ابن خفاجة الأندلسي البرد في شعره فقال:
يا رب قطر جامد حلى به ... نحر الثرى برد تحدر صائب
حصب الأباطح منه ماء جامد ... غشى البلاد به عذاب ذائب
فالأرض تضحك عن قلائد أنجم ... نثرت بها والجو جهم قاطب
فكأنما زنت البسيطة تحته ... فأكب يرجمها الغمام الحاسب
لم يقف أبن خفاجة أمام البرد طويلا كما وقف أبن حمد يس. فهو عنده حلية لنحر الثرى أو قرئد من النجوم. ثم نظر إلى ما أصاب الناس من جزاء سقوط هذا البرد. فالفرق أن أقام عليها حد الرجم، وأرسل عليها حاصبا من البرد. فالفرق واضح بين نظرة ابن حمد يس للبرد ونظرة ابن خفاجة. فابن حمد يس أعجب بمنظر البرد فوقف يصور لنا ببيانه صورة شعرية جميلة. أما ابن خفاجة فاعتبر البرد نقمة وعقابا وقعته الغيوم على الأرض
ووصفوا تساقط الثلوج على الأشجار والزروع، وجاءوا في ذلك بصورة جميلة. ومثال ذلك قول أحدهم:
نظرت إلى أشجار جلق فوقها ... ثلوج أراها بالبروق تلوح
فشبهتها قضبان فضة اكتست ... وقابلها عند الغداة صبوح ومن تحتها الأوراق كأنها ... زمردة تغدو بنا وتروح
ومن بينها النارنج كالذهب الذي ... هواه به كل النفوس تبوح
فأنظر إلى هذا المصور الماهر الذي أمسك ريشته وراح يضفي الألوان المناسبة على كل جزء من أجزاء تلك الصورة. فالنارنج كالذهب، والأوراق الخضر كالزمرد، والأغصان كقضبان من الفضة
ووصفوا الرعد والبرق. فتراهم أحيانا يشبهون الرعد بامرأة ثاكلة نادبة. وأحيانا يشبهونه بالأسد حين يزأر مهددا بالويل والثبور. ويشبهون وميض البرق بالضحك، أو بالسيوف، أو بشريط من الذهب. وقد شبه ابن حمد يس الرعد بالحادي يسوق الغمام أمامه كما تساق الإبل. قال:
أرق الأجفان رعد صوته ... كهدير القرم في الشول صفد
بات يجتاز بأبكار الحيا ... بلدا يرويه من بعد بلد
فهو كالحادي روايا إن ونت ... في السري صاح عليها وجلد
وقد تتناول أحدهم التقلبات فيشبهها بأخلاق الملوك التي لا تدوم على حال. ومثال ذلك قول القائل:
ويوم كأخلاق الملوك ملون ... فصحو ودجن ثم طل ووابل
كذلك أخلاق الملوك محبة ... وبغض ومنع بين ذاك ونائل
وهكذا نجد عوامل الطبيعة في الشتاء تحرك الخواطر، وتفتق الأذهان، وتثير في النفس الإحساس الكامن والشعور فتزداد صلة الإنسان بالكون. وكانت هذه المظهر الطبيعية المختلفة وحيا للشعراء والكتاب، وقد وجدوا فيها ميدانا خصبا فأضافوا إلى الأدب الوصفي ثروة طائلة
محمد سيد كيلاني