مجلة الرسالة/العدد 920/يزيد بن المهلب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 920/يزيد بن المهلب

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1951



للأستاذ حمدي الحسيني

للمهلب بم أبي صفرة أبناء نجباء كرماء شجعان غزاة فاتحون قد أجمع المؤرخون على أنه لم يكن في دولة بني أمية اكرم منهم.

وكان لهم في الشجاعة مواقف مشهورة مشكورة. ذكر آل المهلب في مجلس عبد الرحمن بن الأشعث بسوء فقال حريس بن هلال القريعي: والله ما أعلم أحداً أصون لنفسه عند الرخاء ولا أبذل لها في الشدة منهم.

وقدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي على المهلب فرأى بنيه قد ركبوا عن أخرهم فقال:

آنس الله الإسلام بتلاحقكم. أما والله لئن لم تكونوا أسباط بنوه فإنكم لأسباط ملحمة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: آل المهلب جبابرة لا أحب مثلهم. ووفد مالك بن بشير على الحجاج فسأله عن ولد المهلب فقال هم رعاة الباب حتى يأمنوا، وحماة السرح حتى يردوه، قال ايهم أفضل قال ذاك إلى أبيهم. هم كالحلقة المفرغة لا يعلم طرفاها.

أجل لقد أصاب مالك بن بشير في أن أبناء المهلب كالحلقة المفرغة. وفي أن أباهم هو الذي يعرف طرفي الحلقة ويميز بين أقدارهم ويفضل بعضهم على بعض. وها نحن نراه يعلن هذه المعرفة وهذا التفضيل في وصيته لأبنائه يقول لهم والسرور يملأ نفسه: قد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت عليكم حبيباً على الجند حتى يقدم بهم على يزيد. فلا تخالفوا يزيد. فيجيبه المفضل لو لم تقدمه لقدمناه.

فعن يزيد بن المهلب أحدثكم هذه المرة فأجلوا أمامكم شخصيته القوية جلاء ترون فيه ألواناً زاهية ساحرة من العظمة، وأشكالاً جميلة فاتنة من العبقرية، وضروباً نادرة المثال في البطولة والشجاعة.

ولد يزيد بن المهلب في ساحات الحروب فاكتحلت عيناه بغبار المعارك، وتضمخ جسمه بعبير الكر والإقدام، وملأت سمعه قعقعة السلاح والركاب، وصبت في نفسه أخبار الحروب والقتال، وهزت روحه نغمات النصر وأناشيد الظفر فنشأ على ظهور الخيل في ساحات الفر. وبين الأبطال في ميادين النضال.

قاتل يزيد بن المهلب الخوارج مع أبيه فكان له في قتالهم مواقف البطولة أكسبته الثقة وخلعت عليه المهابة وجلال القدر مما جعل أباه المهلب يعتمد عليه فيوليه القيادة في أدق المواقف وأخطر الساعات، ويوليه الإدارة في أوسع القطار وأغنى الأمصار. وما إن تولى يزيد بن المهلب على خراسان بعد أبيه حتى كتب للحجاج بتوليته عليها حسب وصية المهلب فما وسع الحجاج ولا وسع عبد الملك إلا أن يحترم وصية المهلب في استخلاف يزيد على خراسان، وإلا أن يحترما إرادة يزيد نفسه في الولاية عليها فأقرا يزيد بن المهلب على خراسان فأصبح والياً على هذا القطر الإسلامي العظيم بموقعة العسكري بالنسبة لحركة الفتح الإسلامي؛ وبخراجه الضخم بالنسبة لميزانية الدولة الأموية.

أقام يزيد على ولاية خراسان ثلاث سنين كان خلالها السيد المطلق والحاكم الذي ى ترد له إرادة، ولكنه لم يستسلم للراحة ولم ينغمس في النعيم، بل ظل كرأس الحية النضناض لا يرى مجالاً تظهر فيه البطولة غلا رمى بنفسه فيه فكان البطل الذي لا يغلب؛ ولا يحس بظرف تبرز فيه المكارم إلا برز فيه فكان الكريم الذي لا يجارى والعظيم الذي لا يسق له غبار.

أراد رجال عبد الرحمن بن الأشعث الثأر على الحجاج والدولة الأموية أن يجعلوا خراسان ملجأ لهم وموضعاً لحركاتهم الثورية، فقال لهم عبد الرحمن: على خراسان يزيد بن المهلب وهو شاب شجاع صارم وليس بتارك لكم سلطانه، ولو دخلتموها وجدتموه إليكم سريعاً. ولكنهم دخلوا خراسان فوجدوا يزيد إليهم سريعاً ضربهم في وجوههم ففروا أمامه مقهورين ورجع غانماً ظافراً.

وما كاد يفرغ من الضربات الباطشة التي أوقعها على رؤوس الثوار حتى انقض على قلعة عظيمة من قلاع ملوك الترك تسمى قلعة نيزك ففتحها فكان في فتحها لغزاة المسلمين خير كثير. ولكن هيهات أن يتسع صدر الحجاج لمثل يزيد بن المهلب في عقله وتدبيره وهمته وبطولته وعزته ومنعته وقوته وسلطانه. فقد تنكر له الحجاج فاستدعاه للعراق فأشار عليه بعض خاصته بعدم الذهاب إليه فقال له: نحن ىل بيت بورك لنا في الطاعة وأنا أكره المعصية والخلاف. وذهب إلى الحجاج فقبض عليه وأودعه السجن وأسرف في تعذيبه حتى هيأ الله له أن يخرج من السجن بأعجوبة فذهب إلى سليمان بن عبد الملك وهو في الرملة البيضاء وطلب منه التوسط له عند أخيه الوليد ففعل. وظل يزيد عند سليمان بن عبد الملك في الرملة حتى آلت الخلافة إليه فولاه على العراق بعد وفاة الحجاج، فكره يزيد أن يظل على هذا القطر المتعب المنهوك فنقاه سليمان إلى خراسان ذلك القطر الحبيب إلى نفسه العزيز عليه وعلى آل المهلب جميعاً. فعاد يزيد إلى خرسان وقضى فيها ثلاث سنوات فتح خلالها جرجان وطبرستان. ولكن كوت سليمان قطع على يزيد طريق الفتح والتقدم فقبض عليه عمر بن عبد العزيز لأنه كان يكره آل المهلب لأنهم جبابرة؛ وأودعه السجن، فظل يزيد بن المهلب في السجن حتى توفي عمر، ففر يزيد خوفاً على حياته من يزيد بن عبد الملك وتوجه إلى البصرة وهناك كشر ليزيد بن عبد الملك عن نابه وخلعه ورام الخلافة لنفسه فبايعه الناس على كتاب الله وسنة رسوله، ولكن يزيد بن عبد الملك أرسل إليه أخاه مسلمة في جيش عظيم فاستقبله يزيد بن المهلب وقاتله قتالاً شديداً، فلما استمر القتل بين الفريقين تفرق أصحاب يزيد فقيل له قد انهزم الناس، فقال مم انهزموا؟ فقيل له أحرق الجسر فلم يلبث أحد، فقال قبحهم الله. بق دخن عليه فطار. وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار وجاء من أخبره أيضاً أن أخاه حبيباً قد قتل، فقال لا خير في العيش بعد حبيب قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة فو الله ما ازددت لها إلى بغضاً. أمضوا قدماً. قال أصحابه إن الرجل قد استقتل. مضى يزيد في قتال أعدائه وصار كلما مر بخيل كشفها. جاءه أحد أصحابه وهو في تلك الساعة الرهيبة والسيف في يده يقطر دماً وقال له: قد ذهب الناس لك أن تنصرف. فقال له يزيد قبح الله رأيك، إلى تقول؟! إذاً الموت أيسر علي من ذلك. فقال له إني أخاف عليك. أما ترى حولك من جبال الحديد. مشيراً إلى جيش مسلمة فقال. أفأنا أباليها جبال الحديد كانت أم جبال النار؟ اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالاً معنا. وأقبل يزيد على مسلمة لا يريد غيره حتى إذا دنا منه عصفت عليه خيول أهل الشام فخر صريعاً

وقد كان فوت الموت سهلاً فرده ... إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

ونفس تعاف العار حتى كأنه ... هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر

حمل رأس البطل القتيل إلى عدوه ووضع بين يديه؛ فأراد أحدهم أن ينتقص البطل حينذاك، فقال له يزيد بن عبد الملك: مه، إن يزيد بن عبد المهلب طلب جسيماً وركب عظيماً ومات كريماً.

حمدي الحسيني