انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 920/الأمانة العامة. .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 920/الأمانة العامة. .!

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1951



للأستاذ محمد محمود زيتون

(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين

الناس أن تحكموا بالعدل. .)

قرآن كريم

الأمانة فضيلة، والفرد إنما يكتسب الفضائل من المجتمع الذي هو المصدر الأول لكل فضيلة، فلا غرو إذا كانت (الأمانة العلمية) بمثابة (الطاقة) التي تنبثق من أرجائها أشعة الحق والخير، فتنعكس على الأفراد بالرضا والسعادة، ومن هنا يتلمس طريق الإصلاح الشامل ومن أراد القضاء على المشاكل التي يصطلى نارها كل من الفرد والجماعة على السواء.

وقبل أن نفرض هذا العبء الأكبر على الفرد، نرى أن المجتمع قد احتمله بطبعه، فإن الضمير الاجتماعي هو القياس السليم للحكم على الأمور التي تصدر عن الأفراد، بل هو المحكمة التي لا نقص ولا إبرام لأحكامها، فلا مناص من الرضوخ لها، والانصياع إليها.

والمجتمع هو (الأمين العام) على الحقوق والواجبات التي تنتظم بمقتضاها الحياة العامة، فلا مفر من الاسترشاد بأوامره، والإنصات إلى أصدائه الرنانة في جوانب الفرد حين يصدق عليه قول الشاعر:

وتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر

وتحقيق العدالة لطالبيها موكول أولاً وبالذات إلى الأمانة العامة، بعد أن تكون المنافذ قد سدت في وجوههم، فما هو إلا أن تعرض المظالم في وضع النهار، على سمع المجتمع وبصره، ولن تجتمع الأمة المستنيرة يوماً على باطل، ولن تنأى بجانبها عن إنصاف من يستنصرها، بكل سبيل مشروع، وذلك هو الواجب، الأول على الحاكمين والمحكومين علىالسواء، فليس بنا إذن حاجة إلى هذه البدعة الجديدة التي يسمونها (وزارة المظالم) فإنها غير ذات موضوع، من كل مجتمع مطبوع غير مصنوع.

بهذا تستجيب الجماعة لغريزة (البقاء الاجتماعي) التي تتطلب تنسيق الأعضاء من غير تناكر أو تنافر، وبدون إفراط أو تفريط. وعندئذ تكون (العدالة) حقيقية جارية، في الكيان العام، غير محتاجة إلى توكيد وجودها، أو البكاء على أطلالها، وحسبها أن يطرد النمو اطراداً ثابتاً تكون فيه النسبة محفوظة على الدوام بين الجميع، كخطوط العرض المتوازية التي لا تلتقي أبداً على سطوح الأرض على الرغم من دورانها حول نفسها وحول الشمس، وعلى الرغم من اختلاف الليل والنهار، مادام محمر الأرض عموداً مستقيماً على خط الاستواء بين الشمال والجنوب. إذن لابد من قوامين على العدالة حتى تختفي أشباح المظالم، وتتواري الهياكل المتجبرة التي تبغي العلو في الأرض بغير الحق، فلتكن العيون يواقظ متنبهة لتحذير المتنبي إذ يقول:

نامت نواطير مصر عن ثعالبها ... حتى بشمن وما تفنى العناقيد

ونحن إنما ننشد لعناقيد الحق، هذه (النواطير) لا تلك (الطراطير)، ويومئذ ينقطع دابر كل ثعلب يتسلل نهاراً جهاراً إلى كل كرمة نام عن جناها، من بيده سقاها ورعاها. والذي نخشاه هو أن يتواكل الجميع يوم يتبدل الثمر الحلو في أفواههم مراً لا يذاق، فيصبح المرء لا يرى بعد الثعالب العنب، إلا طيور الحنظل، فلا يهش ولا ينش، وإنما يقول وقد عبس وتولى:

لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمره

أما إذا خشينا انهيار الصرح العظيم الذي بنيانه المرصوص مؤتلف من الآحاد والعشرات، أو الأفراد والجماعات، فما علينا إلا إجراء عملية (الصقل البشري) على الدوام، لننحت من الغرائز الحجرية قوالب متساوية، تنبض بالحياة، وينسجم بها البناء المتساوي السيقان، فلا يكون به نتوءات أو مغارات تأوي إليها حشرات الفساد، حيث نريد الإصلاح.

والتعهد المستمر للنفوس، يزيدها صقلاً ولمعاناً، ويكسبها كذلك مناعة طبيعية من الانحلال الخلقي، فلا تفسد مع الأهواء الطارئة، ولا تنحدر مع التيارات الجارفة، ولن يكون هذا التعهد ضامناً إلا بالأخذ من معالم القوة والعزة، ومعارف الخير والحق، مما يجعل الدين والآداب والتاريخ والعرف والقانون تسير جميعاً بالدارسين نحو تدعيم الأمانة العامة، وتقوية أركانها، لترتفع في أعاليها رايات العدات في مختلف أحجاما، ومتباين ألوانها وأجناسها.

وليس يكفي أن تكون عين العدالة في يقظة لتحقق الأمانة العامة، وإنما ينبغي أن ينبغي أن تمتد يدها بالبطش غلى الجريمة، وإلا أفلت اللص بما سرق، وذهبت صرخات المطاردين أدراج الرياح، كما أنا تستلزم الفطنة في المييز بين السارق والمسروق، فقد نقبض بيد الحديد على برئ، ونطق سراح أثيم خادع الأمين العام فاندس في صفوف المطاردين، وهم يتراكضون خلف السارق المزعوم، فلما أعياهم اللحاق به نكص هو على عقبيه، ليقتسم الأسلوب مع الأبالسة.

وهيهات أن تتسرب شاذة أو فاذة من الأمانة العامة، إذا ألقت شباكها في الماء العكر، فهي إنما تتعقب كل من يعكر صفو السلام، مهما يكن لونه ومقامه، وإلا فإن قطع ذنب الأفعى لا يغني عن رأس الفتنة شيئاً. والجراثيم لا تتكاثر إلا إذا كانت درجة الحرارة مناسبة والمكان صالحاً، وعندئذ يتعسر اداء، ويتعذر الدواء.

ولما كان الخط المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين، فإن الأمانة العمة هي أقوم خط بين الحق والباطل، وليس بينهما منطقة اشتباه، (فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال.) وليس حولهما كذلك إلا صحاري لعدم، (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم سبيله. .)، ولهذا كان التمادي في الانحراف خيانة طامة، عواقبها غير مأمونة.

وليس أخون من تنحية الجندي عن صفه، وتعطيله من سلاح، واتهامه بعد ذلك بالتخفيف عن كتائب الجهاد، ليحرم من مكانه في مواكب النصر، وهو الهاتف:

سلاحي إيماني العتيد، وقائدي ... ضميري، وأجنادي من الشيم الغر

وهنا ننتظر الساعة التي فيها تتحطم الأهرام الثقيلة على قالبيها، ويومئذ يندمون على انصرافهم عن هدى (الأمين) المأمون عليه الصلاة والسلام إذ يقول: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قيل: فكيف إضاعتها يا رسول الله. قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

وما كان أجدر أصحاب الحقول بحقوقهم حتى يستقيم الطريق، ويعتدل الميزان، وتعلو أصواتهم بالفخر المسنون:

وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأوفر حظنا قسامها وويل للقطيع الي بشرد منه القاصي والناحي، فيصيح غنيمة باردة، تغري أشلاؤها كل وحش ضال بالاصطياد من تحت الريح. وهكذا المجتمع الذي يغفل عن رسالة (المرشد العام) و (الراعي الأمين) عليه السلام، إذ يقول (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأكل الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد).

ولو عرف كل امرئ قدر نفسه، لوضع نفسه حيث يجب أن توضع، غير طمع في العلا إلا بالحق والدور، وغير متظلم إلا من الهضم والجور، وبين يديه مؤهلات الشاعر الغيور:

متى تحمل القلب الذكي وصارما ... وأنفاً حميماً تجتنبك المظالم

وأف لمن يتخذ أكتاف الكرام سلماً لمآربه، يتنقل عليه من حزب غلى حزب، ليسود، وما كان ليسود لأن الحياء من الإيمان، والرفعة من التواضع، أو كما قال من قال:

سدت الجميع فسدت غير مسدود ... ومن البلاء تفردي بالسؤدد

وهل أوتي الوضيع هذا السلم الرفيع إلا في غفلة من الرقيب العام، يوم كانت الدولة لأقارب المتربع على الكرسي، يؤثرهم - للعصابة والقرابة - على من لهم الحق قبلهم، وهنا ينطق (أمين من في السماء) بقول الحق (من استعمل رجل من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين).

هذا بينما الأصيل الكادح، يئن تحت كل فادح، ويقول في مرارة:

وإذا تكون مهمة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

وليس من الفضائل أحق بالصدارة من الأمانة لأنها جهاد النفس، وصراع الغرائز، وإبطال الباطل، وإحقاق الحق. طلع رجل على النبي وهو جالس بين صحبه فقال (يا رسول الله، أخبرني بأشد سيئ في هذا الدين والينه، فقال عليه السلام: ألينه اشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وأشده يا أخا العالية: الأمانة إنه لا دين لمن لا أمانة له، ولا صلاة له، ولا زكاة له).

والحياة الإنسانية ما هي إلا مجموعة من (أحكام القيم) نصدرها على ما يقع في نطاق الحق والخير والجمال، ولا محيص من إعلان هذه الأحكام حتى يكون لكل عمل إنساني الحق في الثواب والعقاب، أو الاستحسان والاستهجان، وبذلك من أمارات الحيوية والاجتماعية.

قال أبو بكر الصديق: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإني سمعت رسول الله يقول (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يده أوشك الله تعالى أن يعمهم جميعاً بعقاب).

وما كان أحرص من رسول الله على الصرح الاجتماعي، والوحدة الشاملة! وما كان أشده استمساكاً بالعروة الوثقى، واعتصاماً بحبل الله حين يقول: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه، فليصبر عليه، فإنه من خالف الجماعة سبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية).

وبعد، فإنه إذا كان (دور كايم) اليهودي أول واضع لقواعد علم الاجتماع حين قال بنظرية (التماسك الاجتماعي) ' محمداً عليه السلام كان أسبق المفكرين جميعاً إلى وضع الدستور العام المستمد من الحياة الإنسانية في إمكانياتها العامة، وإذا كان قد عرف أول ما عرف بين قومه بأمانة قبل البعثة، فإنه كان الأمين الأول على مقدرات المجتمع في كل زمان ومكان، فمن أين تنفذ نظرية (الماركسية التاريخية) من هذا التراث الفولاذي الخالد الذي يكرم البشرية ويعصمها من مهاوي الزلل، بفضل (الأمانة العامة) وقد أعلى منارتها (كبير الأمناء) الذي أرسله ربه رحمة للعالمين.

وعسى أن يكون واضحاً الآن أن الأمانة إنما هي رسالة المجتمع قبل أن تكون فضيلة الفرد، وأنها الكنز القديم المدخر للإنسانية منذ الأزال حتى الآباد، وصدق الله تبارك اسمه إذ يقول (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً). إي والله إنه كان ظلوماً جهولاً!

محمد محمود زيتون