مجلة الرسالة/العدد 92/على ذكر كتاب. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 92/على ذكر كتاب. . .

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1935


في مصر من الباشوات المثقفين فئة كثيرة، تميزوا عن الأشباه لأنهم مهروا في أداء العمل، أو وقعوا في طريق الفرص، أو رقوا في معارج السياسة؛ ثم تهيأت لهم بالدراسة والممارسة أسباب العمل والخبرة، فخبروا أسرار الأمور، وسبروا أغوار المشاكل، وصرفوا شؤون الدولة على نحو من الحكرة المفروضة؛ فهم لا يبرحون ضاربين في الميدان الحكومي فرقه فرقة، يتقاذفون الإدارة، ويتنازعون الوزارة، ويتداولون الأمر، حتى أسرفوا على خير الأمة، وافتاتوا على رأي الجماعة، فقصروا كفايتهم على الخصومة، وحددوا غايتهم بالحكومة؛ فهم إذا وثبوا إلى الحكم استفرغوا الوسع في البقاء فيه، وإذا انقلبوا عنه استنفذوا الوسائل في الرجوع إليه؛ أما تسجيل التجربة بالتأليف، ونشر المعرفة بالصحافة، وتأييد العدالة بالمحاماة، فعمل لا يدخل في حساب الجهد، ولا يخطر في مرام النية! كأن العودة إلى ملابسة الشعب، ومداخلة العامة، ومزاولة الحرفة، أصبحت لا تتفق مع نباهة الاسم ولا تتسق مع جلالة اللقب، ولا تجري على تقاليد المنصب!

في البلاد التي نطيل إليها النظر، ونزعم لها الكمال، ونحصر فيها القدوة، نجد رئيس الحكومة إذا تعطل من الحكم، ورئيس الجمهورية إذا انتهى من الرياسة، عاد كل منها إلى الموضع الذي صعد منه إلى الديوان، أو انتخب فيه إلى القصر، فيستأنف الجهاد اليومي في سبيل الأسرة والأمة الحاكمة بنشاط البادئ، ونفسية التابع، ورجاء الطموح، فهو يدور مع الطبيعة دورة العام: يبدأ لينتهي، وينتهي ليبدأ؛ وفي كل طور من أطواره المتعاقبة تراه يندمج في البيئة، ويتألف مع النظام، ويرمي عن الواجب، فينشر المذكرات، ويحرر المقالات، ويحضر المرافعات، ويكابد في خلال ذلك طمع الناشر وعنت الناقد ومنافسة الحرفة؛ ولكنه على الرغم من رهق الحياة الحافلة، وكلال السن العالية، يؤدي إلى وطنه المنعم زكاة النبوغ وضريبة المجد عملا لا يتأبه، وإحسانا لا يمن، وإخلاصا لا يمين

ذلك هناك والكفاية موفورة، والمحجة واضحة، والأمر متسق. أما هنا ورجالات الرأي قلال، وتبعات العمل ثقال، وميادين الجهاد عزل، ترى النابه منا متى بلغ الوزارة من أي طريق وفي أي سن، ختم حياته العاملة، فاختزل الماضي، واعتزل الشعب، وازدرى العمل، وغفا على رخاء معاشه. فهو وزير ما دامت وزارته، فإذا سقط انقلب إلى مداره العالي يزجي فراغه الملول بالتردد بين أبهاء المستوزرين ونادي الحزب أو نادي (محمد علي) يتشم الريح، ويتسقط الأخبار، ويتربص بالحكومة الدوائر

هو وزير أو منتظر؛ فمالك تكلفه أن يكتب في صحيفة حزبه، أو يساهم بالجد في نهضة شعبه؟ تلك أكلاف العيش لمن لم يدرك الثروة، وأزواد الطريق لمن لم يبلغ الغاية؛ والوزارة غاية الأمل في الثراء والعظمة، فإذا أدركها لا يسعه بعدها كرسي في مكتب، ولا يجزيه سهم في شركة؛ والظفر بها ولو مرة حق مكتسب يسلكه في سلسلة المتعاطين حرفة الحكم، فيضع نفسه ولقبه في صندوق ذهبي، ثم يعلقه في خيوط المنى، ثم يدع النسيم يهدهده بين باب القصر ونافذة المندوب حتى إذا عصفت بالوزارة أزمة، أو شغر في مجلسها محل رفع برأسه الغطاء العسجدي وقال:

أنا أشرئب! إذن أنا موجود!

على أن القاعدة العنيدة أخذت تحمل في طواياها بعض الشواذ، فقد رضى الوزير والسفير حافظ عفيفي باشا أن ينزل إلى صفوف الباحثين والمؤلفين فأصدر كتابه القيم (الإنجليز في بلادهم) عن استقراء دقيق واطلاع شامل، فكان تعريضا أليما بذلك الذكاء العاطل الذي يستفيد ولا يفيد، وذلك النبوغ الفاجر الذي يدخل الحكم ليعسف ويخرج منه ليكيد!

أحمد حسن الزيات