مجلة الرسالة/العدد 92/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 92/الكتب
ترجمة نفسية تحليلية
4 - هو ذا تاريخ إنسان. . .!
للأستاذ خليل هنداوي
الحياة عاقلة تسعى إلى غايتها الأزلية وهي تلهم ما تريد ومن تريد لتحقيق غايتها المحجوبة عنا. أصغر ذرة في الكون وأكبر جزء من أجزاء الكون سيان في خدمة هذه الغاية. . . وكل ما في الكون دائب عامل على تحقيقها، وهل الحياة إلا دوائر بعضها يموج في قلب بعض، لا تنفتح دائرة عبثا ولا يولد شيء عبثا، وفي كل ذلك سر، جهلنا به لا ينفي وجوده! وهذا الاتصال يؤمن به (نعيمه) حتى لا يجد حدودا بين البداية والنهاية. لأن بداية كل شيء مرتبطة بنتيجته. والواقف على متفجر الينبوع يرى فيه المسيل والبحر، والطريق والمحجة، لأن بدايته مرتبطة بنهايته، لا تستطيع أن تقول: من هاهنا ابتدأ وهنالك انتهى! بل يبتدئ وينتهي، ويبتدئ وينتهي من أصغر من لحظة، فهو - من بدايته ونهايته - في نقطة لا يفرق فيها مفرق بين البدء والنهاية
وقد يصل (النعيمي) بين خيوط الحياة الحقيقية وخيوط الحياة الحالمة، فيحاول أن يجعل من الأحلام مؤثرات في اليقظات! وكم حلم أراد تفسيره بالحقيقة، ومشابهة حللها بمشابهة أخرى! كأن الحياة عنده واعية تخلق ما تهوى وتخلق الإنسان كما تهوى ولا يخلق هو من نفسه شيئا، وهذه الوقائع التي تتراكم في حياة الإنسان وندعوها نحن (مصادفات) يراها هو (حقائق) كبرى مرسومة في كتاب الحياة، وإنما دعانا عجزها إلى تسميتها بالمصادفات. وما فيها من معنى المصادفة شيء!
فلسفة هادئة عميقة لم تنبت جذورها إلا في الشرق؛ الشرق البعيد، الذي وجد معنى الألوهية في كل ذرة من ذرات الوجود، هذه الفلسفة لم فيه يبعثها الغرب الذي سكنه طويلا، وإنما حاول الغرب أن يخنقها فيه، فهب بصيحة المخنوق فيه، فأنقذه قبل إسلام الروح
فلسفة شرقية هادئة لا تحارب العالم لأنها هي العالم، ولا تثور على القوة المجهولة بل تدور معها كما تدور الأفلاك والنجوم، ولكل جرم دورته وسبيله. والعوالم كلها تؤلف عالما واحد كاملا. كلنا دورات في دورات، وكلنا ضمن دائرة الحياة الكبرى. وهي تكره التمرد على الحياة، لأنها لا تدرك معنى هذه الثورة، والتمرد - عندها - نزق شباب وثورة محموم، ورغوة تلهيك عن الصريح، وخير من هذا التمرد على الناس وحياتهم التوجه إلى تفهم أسرار تلك الحياة بصمت وهدوء، وكشف ما فيها من جمال ينضح من معين الجمال الكلي. وهو يأخذ على جبران تمرده الذي يضعه فوق (أبناء الحياة) ويريد من فنه أن يعليه فوق الناس. فيرى نفسه نسرا عظيما، ويرى غيره دجاجا وديدانا،
لا يرضى غير الفضاء ميدانا، ولا يشرف على الحياة إلا من القمم العالية، يأخذ نعيمه على جبران هذا الأدعاء، ويجيبه بلسان (ميشلين) المتواضعة المتهكمة (وأنت يا جبران! لا تأنف من أن تغذي جسمك ببيوض الدجاج ولحومها! جعل (ميشلين) رفيقة تحسن المشي في مسالك الأرض قبل أن تجعلها شاعرة تجوب رحاب الجو. اجعلها دجاجة سعيدة قبل أن تجعلها نسرا قويا، اجعلها إنسانا راضيا قبل أن تجعلها إلها كاملا)
فلسفة متواضعة غايتها أن تبشر بالحياة الشاملة التي تربط بين الأقاليم التي مزقها طمع الناس، قضوا على أسمى رابطة بينها ورضوا بأن يربطوا - ما قطعوه - بالمسخ الذي خلقوه وألهوه - وهو الفلس - وبهذه الفلسفة يجرب أن يؤلف بين البشر ويفني الذات الفردية، ويحل محلها الذات العامة التي لا شريعة إلا شريعتها؛ فلا يبغض إنسانا لأنه كل الناس، ولا يملك شيئا لأن كل شيء له. ولا يهرب من الألم لأنه السبيل إلى النجاة، ولا يدين مجرما لأنه يدين نفسه، ولا يطلب مجدا لأن كل مجد باطل
هذا هو عالم الوحدة الكاملة حيث الحياة ألفة أبدية، كل ما فيها يعانق بعضه بعضا عناق محبة لا حواجز فيها ولا حد لها، يبلغه الإنسان فيدرك بلاغة الصمت وهيبة السكون، وسمو النفس في حضرة ما لا يحد. ومرتبة الصمت - عند نعيمة - هي أسمى مراتب البلاغة، ولكن أي صمت! هو الصمت المبطن بتلك المعرفة، وقد يكون أن ذلك الصمت هو المحجة التي نسير إليها على غير علم منا
بلى: سيصمت الإنسان - الصمت الأكبر - عند القبر، وينفصل الإنسان عن كل شيء ولكنه الانفصال الظاهر! لأن الانفصال لا حقيقة له. . . (وأين هي القدرة التي في وسعها أن تحل حلقة واحدة من سلسلة الزمان وتترك السلسة مفككة مقطعة؟ أليس الإنسان يغيب من ناحية من نواحي الزمان ليبرز في غيرها، كالشمس تغيب عنا في بقعة من الأرض فتشرق في سواها؟ الاتصال! الاتصال! ليس على الأرض ولا في السماء قدرة تستطيع أن تفصم عروة مكنتها الحياة بين إنسان وإنسان، أو بين شيء وشيء وهل في الكون ذرة ليست مربوطة بكل ما في الكون
سيذهب الجدول مترنما إلى البحر، وسيعود دون أن ينقطع المسيل الذي يصل بينه وبين البحر. . . .
خليل هنداوي