مجلة الرسالة/العدد 918/في الرحلة إلى الحجاز

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 918/في الرحلة إلى الحجاز

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1951



قدح الزناد

للآنسة عزيزة توفيق

تعالى تهليل القوم وتكبيرهم إذ لاحت معالم جدة من بعيد؛ لقد مضى عليهم يومان وهم لا يرون إلا زرقة السماء والبحر. وعلا الوجوه بشر وصفاء، وابتسم خدم الباخرة في ارتياح، وأخذوا يهنئون الحجاج بسلامة الوصول، مؤكدين أنه سيكون حجاً مبروراً؛ فقد كانت آيات الرضا من الله تتجلى في الريح الرخاء التي صاحبت الباخرة طوال اليومين الماضيين.

ووقفت بنا الباخرة على مبعدة من الشاطئ، حيث بدت منازل جدة ومن خلفها الجبال ملتفة بأضواء الشروق أضفتها عليها شمس الصباح، فبدت في حلة أرجوانية.

وفي ابتهاج أسرعنا بالنزول إلى الزوارق البخارية التي أخذت تهدهدنا في رفق على صفحة الماء الساجي، حتى لحقت بنا أمتعتنا وسارت الزوارق مسرعة، يقودها حجازيون ذوو بشرة سمراء محمرة، تطل من وجوههم عيون تبرق نشاطاً وتصفو إيماناً. وكانت شرائط المياه البيضاء المتخلفة من انسياب الزوارق على صفحة المياه الزمردية تسرع خلفنا في وشوشة موسيقية رتيبة، وأحياناً يعلو عليها صوت الحجاج (لبيك اللهم لبيك). ووصلنا جدة!!

إذ ذاك طالعتنا لوحة فنية رائعة؛ تمثل مختلف الشعوب الإسلامية، لقد كانت لوحة الوجوه والأشكال؛ على رغم أن الجميع كانوا بملابس الإحرام. ووافانا من بين الجمع غلام يافع، يتدلى شعر رأسه الأسود في خصلات لامعة منسدلة على كتفيه، وقد علت تلك الخصلات قلنسوة (طاقية) مطرزة بألوان زاهية أكسبت لونه الخمري بهاء. أخذ هذا الغلام يجمع جوازات السفر ليؤشر عليها من المختصين، ومن ثم قادنا إلى حيث أقلتنا سيارات إلى مدينة جدة.

وجدنا جدة ثغراً جميلاً، ذا مبان فخمة تضاهي طراز البيوت في أية بلد متمدن. وبها منتدى (كازينو) يسميه الوطنيون (الثلاجة) ويديره جماعة من الحجازيين بملابسهم الوطنية، وهي عبارة عن مئزر مبرقش بجمعه حزام، أو جلباب واسع مشدود من الوسط بمنطقة من القماش، ويغطي رؤوسهم (لاسة) ينساب أحد طرفيها على قفاهم لتحميها وهج الشمس، ويسمى عندهم (العذبة). وكم كان لطعم المرطب (ابيلاتي) الذي قدم لنا هناك لذة أية لذة؛ وعلى الأخص حينما كنا نسرح الطرف آماداً بعيدة جوالاً على تعاريج الأمواج الزاخرة، ثم يرتد إلى محيط النادي ذي الغرابة والسحر.

قضينا بجدة يوماً ممتعاً. وفي اليوم التالي وافتنا السيارات لتقلنا إلى مكة، فسارت بنا في طريق وعر، تحف بها من جانبيها جبال شاهقة وهضاب مرتفعة؛ قد اختلفت مادة ولوناً. وها نحن نرتفع إلى أعلى وقد اهتزت بنا السيارة مجتازة أحد النتوء في الطريق، ثم نهبط تبعاً لانحدارها المفاجئ. ثم إذا بها تدور فنميل حتى تتلامس الرءوس، وقد انهلعت قلوبنا فرقاً.

وأخيراً تعود السيارة سيرتها المستقيمة، ويطغى على خوفنا اطمئنان يزجيه الإيمان.

حتى بلغنا مكة. وكانت هذه أولى قدحات زناد إيماننا.

إن أي عالم نفساني لا يستطيع أن يدرك مدى تلك السعادة الروحية التي شعرنا بها ونحن نمر بأبواب الحرم الشريف في طريقنا إلى منزل (المطوف) الذي ما كدنا ندخله حتى دعا الداعي إلى (طواف القدوم)، فأسرعنا كأطفال في يوم عيد تطفح وجوهنا بشراً، لمحته أنا في كل وجه حتى في وجوه الشيوخ منا. وسرنا وراء (المدعى) نردد تلبياته وابتهالاته واستغفارا ته، بصوت خاشع منيب، فيه رنة تنفذ إلى القلوب في رهبة، وتحفز الأرواح لتلهج بها الألسنة مرددة هذا الاستغفار والابتهال: (يا رب لقد جئتك من بلاد بعيدة، بذنوب كثيرة! رحمتك يا رب! غفران يا رب!) وكان (المدعى) يمد الباء الأخيرة في (يا رب) فتصل إلى غور عميق من النفس.

ودخلنا من (باب السلام) إلى بيت الله الحرام، ووقفنا تجاه الكعبة قانتين. ودعونا الله أن يزيد بيته الحرام تشريفاً وتكريماً، وأن يغفر لنا ما تقدم من ذنبنا وما تأخر، ثم دعونا بما نريد من مطالب الدنيا؛ إذ قيل لنا: إن الله يستجيب ما يطلبه المرء في هذا المكان. وإذا بي لا أجدني طالبة من الله إلا أن يسهل لي الطواف ولمس الحجر الأسعد (الأسود).

وإذ نوينا الطواف أسرعنا وسط الجموع الزاخرة، يدفعنا الموج الآدمي من مختلف الشعوب والأمم. يتزاحمون ويتدافعون بالمناكب، كل مشغول بنفسه؛ كأنهم في يوم الحشر بين يدي الديان.

تطلعت إليهم وأنا أجري يجرفني تيارهم، وهم كتل متراصة متماسكة، كل منها تردد الدعاء خلف مطوفها، كل بلغته ولسانه. وحينئذ خيل إلى أن أمنيتي لن يكون لها نصيب من التحقيق. ومررت (بالركن اليماني) وأمكنني أن ألمسه مقبله، وما وافيت الحجر الأسعد حتى رأيت الجموع المزدحمة عليه في تهافت وتلهف قد انشقت مفسحة أمامي طريقاً أفضى بي إلى الحجر بين ذهول هذه الجموع الذي لم يدم إلا لحظة تمكنت فيها من لمس الحجر وتقبيله. وخرجت من الازدحام لأتمم دورات الطواف السبع، وحين وصلت إلى ركن (إبراهيم) ووقفت لأصلي ركعتين هما سنة الطواف رفعت طرفي إلى السماء، وقد شاع في كل كياني بسمات من السعادة! تبارك الله جلت قدرته؛ فلقد حققت أمنيتي وسعدت بلمس الحجر. وحين كنت أؤدي ركعتين في (حجر إسماعيل) رحت أتمنى ما شئت من نعيم الدنيا والآخرة، وكلي ثقة وإيمان بأن الله جلت قدرته سيحققها بإذنه إن شاء. وجلست لأستريح بالحرم وأجلت البصر فيما حوالي.

للكلام صلة

عزيزه توفيق

الدراسات العالية - القسم الفرعوني

كلية الآداب