مجلة الرسالة/العدد 916/الدين والسلوك الإنساني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 916/الدين والسلوك الإنساني

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 01 - 1951


للأستاذ عمر حليق

- 1 -

توطئة:

يواجه الدين في العالم المعاصر موجتين من التحدي: أحدهما الحادية لا ترى في الدين إلا (تخلصا من الواقع) ولجوءاً إلى التحذيرات الروحية التي أبرز فيها أنها توجه السلوك الإنساني توجيها سلبياً إزاء مشاكل الحياة، ومن ثم إزاء عناصر التقدم والسعادة البشرية. هذه الموجة هي محور الهجوم الماركسي على الحياة الدينية.

والموجة الأخرى لا تمت إلى الفلسفة الماركسية إلا بصلة غير مباشرة ولكنها تماثلها في الابتعاد عن الحقيقية الدينية. أعنى بها موجة التحلل من القيم تتزعمها الآن الحضارة الأمريكية وتنقلها إلى سائر بقاع الأرض مواصلات فكرية أتقن الأمريكيون وسائلها إتقانا بارعا في السينمائية والصور الفوتوغرافية والصحافة ومؤسسات الإعلان والدعاية والقصص الحديثة، وألف نوع ونوع من وسائل الاتصال الفكري الذي يهيمن الآن على القسم الأعظم من صحافة العالم وإنتاجه الأدبي والفني.

ووجه الخطورة في الموجة الثانية أنها في حل من أن تتهم بالدعوة إلى التفسير المادي للتاريخ على النحو الذي يدعو إليه الشيوعيون. ولكنها في الواقع تفعل ذلك، وفوقه عنصر من أخطر العناصر في السلوك الإنساني وهو تركيز النشاط الفكري في حرية الغريرة والعاطفة والأهواء.

ومن أوجه الخطورة كذلك في هذه الموجة التي تنزعها الحضارة الأمريكية المعاصرة إحاطتها بهالة من التقدير والإعجاب بدعوى أنها من الشواهد الأصلية على التقديم الحضري وتوجيه السلوك الإنساني نحو قسط وافر من السعادة والهناء.

فحرية الغريزة والطلاق الشهوات والأهواء التي تمخضت عنها حضارة فرنسا اللاتينية في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر والتي تحمل الآن الدعوة الحضارة الأنجلو سكسونية، هذه الحرية أصبحت الآن جزءا جوهريا من مبادئ التحرر السياسي والفكر الذي هو بحق؛ أفضل ما في الحضارة الغربية من تراث.

فالتحرير (ليبيرالزم) في ثقافة الغرب المعاصرة عامة والأنجلو سكسونية منها على وجه الخصوص علم على الإصلاح في مجالات الاقتصاد والسياسة والصلات الاجتماعية ولانطلاق الفكري. وهذا يشمل الدين والحياة الروحية والنفسية، واتجاهات الثقافية الأنجلو سكسونية في هذه الآونة تقف التحدي لجوهر العناصر التي تضمن التكافل الاجتماعي. فالصراع الفكري في أوربا وأمريكا الآن يكاد ينحصر في توجيه السلوك الإنساني لا على أساس العقل كما شرحه فلاسفة القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عسر ولكن على أساس الغريزة والانطلاق النفساني (الفيزيولوجي والسيكولوجي) كما بشر به (ريجموند فرويد) وأتباعه من علماء التحليل النفساني والمدارس الفكرية والأدبية والفنية العديدة التي تأثرت به وتفرعت عنه، وكما تدعو إليه (هوليوود) وكتاب القصة الحديثة وبعض أئمة الفن في أوربا وأمريكا.

فإذا حق لحضارة الغرب أن تفتخر بأنها خلال القرون الأخيرة الماضية قد أسدت إلى تراث الفكر وانطلاقه من قيود الجمود والبلادة العقلية فإن هذه المثل الآن تواجه حملة عاصفة تدفع بالسلوك الإنساني نحو فلسفة بدائية في جوهرها ومضمونها تمجد الغريزة النظرية وتناقض العقل وهدوءه وحكمته فتستهوى بذلك الجماعات التي تعيش على الصحف السيارة ووسائل التسلية الرخيصة واللهو والمتعة ممثلة الأفلام والقصص الحديثة. هذه الألوان من الفنون والآداب التي تجد سبيلها إلى صميم العلم ومعاقله الراقية في كثير من بقاع الأرض منها العالم العربي؛ وذلك لأن هذه الدكتاتورية الفكرية التي تفرضها الحضارات الأخرى لا تقتصر على أنصاف المتعلمين، بل إن سلطانها يمتد فيؤثر تأثيراً فعالاً في الاتجاهات الفكرية والعاطفية لكثير من المثقفين الممتازين الذين يخلفون حضارات جديدة كما هو الحال في حاضر الثقافة العربية.

أحب ألا يساء الفهم في هذا الصدد. فالتعاون الفكري أمر لا مفر منه، بل في الواقع من الدعائم الجوهرية بناء الحضارات الحديثة أو إحيائها والنهوض بها. ولكن المشكلة ليست في مبدأ التعاون الفكري ولكنها في تفهم العناصر الجوهرية في الحضارات التي تفرض نفسها - خيراً أم شرا - على حاضر الثقافة العربية.

ويخيل إلى أن الذين يوجهون الثقافة العربية الآن لم يفطنوا بعد جدية إلى إصلاح الأسلوب الذي اتخذه بناة الثقافة الجديدة في الباكستان مثلا، والباكستان مثل فريد.

فقادة الفكر في الباكستان جماعة استدعوا استيعاباً غير قليل العناصر الجوهرية التي تكون حضارات أوربا وأمريكا فاستبانوا في نباهة وحكمة عناصر القوة والضعف فيها فنتج عن ذلك هذه النهضة الفكرية والأسس الإيديولوجية التي لم يتأثر بها بعد - مع الأسف الشديد - قادة الفكر في الشرق العربي فلإيديولوجية في الباكستان ليست (رجعية) تعيش في من القرون الوسطى كما يصمها بذلك بعض المغرضين من أعداء الشرق وبعض أبنائه. وإنما هي أسلوب في الحياة الفكر استوحى التوجيه من تراث الإسلام ومبادئه ومن روح الشرق ونظمه الاجتماعي والمتأصل من الاتجاهات العاطفية والتكوين النفسي. فحين تبين لمحمد إقبال وغير من جهابذة الفكر من القارة الهندية أن الإسلام كمذهب وكنظام للحياة الدنيوية برئ من هذا الجمود وهذا التفسيرات المغالطة وهذا السلوك الشائن الذي كاد يؤدي بالمسلمين إلى المذلة والانحطاط ويثقافهم إلى الانحلال والموت - حين يبين لمسلمي الهند والباكستان ذلك يقفوا عند حد الوعد والإرشاد والنفخ في أبواق لا نؤثر دعوتها في صميم النظم السياسي والاقتصادية والاجتماعية والإحياء الفكري والعلمي، وإنما استعار من الغرب مناهجه في البحث والتوجيه واقتبسوا عنه أساليب العمل والإنتاج وصاغوا تعاليم الدين الإسلامي في قالب لا يجب عن جوهر العقيدة المحمدية، وإنما يتميز بأنه لا يختلف عن القوالب التي ولدت حضارات عصور النهضة من إيطاليا وفرنسا واليابان الأنجلوسكسونية. وتبين لمسلمي الهند والباكستان كذلك بأن إنتاج الفكر الأوربي في الحياة الدستورية وفي التنظيم الاقتصادي وفي التكافل الاجتماعي لا يمكن أن يكون مناقضا للنظم التي شره الإسلام، وإنما هو في الواقع متمم له. وجاء ميلاد الدولة الباكستانية فدمج الفكر بالعمل وحقق الأسس الهجر للإيديولوجية الإسلامية الحديثة على النحو أثار إعجاب العارفين به.

وليس من أهداف كاتب هذه السطور أن يستعرض هنا أسس الإيديولوجية الإسلامية في الباكستان وإنما استشهد بها في معرض الحديث عن البلبلة التي تعتري الحضارة الإنسانية وأزمتها إزراء صراع العقل والروح من جهة، والغريزة البدائية من جهة أخرى، هذا الصراع الذي أوجد تشويشا فكريا واجتماعيا في كثير من بقاع منها الأرض منها عالم الغرب.

ولنعد إلى قضية الدين والسلوك الإنساني لنقرر حتما في المستهل أن هذا الصراع الفكري يشغل الآن أذهان المثقفين في الغرب وفي أمريكا على وجه الخصوص.

فقد نشأ العالم الجديد أول ما نشأ على مذهب التحرير من القيود الثقيلة التي فرضت على العقيدة والسلوك الديني في أوربا. فحملت سفينة (مايلفور) في القرن السادس عشر هؤلاء المضطهدين من القارة الأوربية إلى أرض كولومبوس لتدفع عنهم شر هذه القيود. فالحضارة الأمريكية إذن أسس روحية للدين فيها شأن كبير لا تزال عناصره الأصيلة تناضل موجات الإلحاد والانطلاق الغريزي الذي ولده نشوة النظم الاقتصادية الحديثة على النحو الذي شرحه في عمق وبلاغة الكاتب الألماني الكبير (ماكس ويجر) وكذلك تسرب الأيدلوجية اليهودية وتركها في صميم الحضارة الأمريكية وعبثها فيه فسادا.

وحري بالذين استخفوا واستهجنوا دفاع رجال الأزهر الشريف وعلمائه ورجال الدين في نصر عن الفضيلة والقيم الدينية في حملتهم الأخيرة بأن مثل هذا الدفاع هو من أهم ما يشغل العلماء وقادة الفكر في معاقل الغربية التي يتطلع إليها المستخفون من المثقفين العرب ليستمدوا منها الوحي والإلهام والذخيرة لمناوأة الإحياء الذي له رجال الدين في مصر والشرق العربي.

قلت إن أهل الفكر في لأوربا وأمريكا يشغلون الآن بهذا النزاع الحاد بين العقل والروح من جهة؛ والانطلاق الغريزي البدائي من جهة أخرى وعلاقة السلوك الديني بهما.

فبعض أتباع في إنتاجهم الفني العلمي يرون في السلوك الديني شاهداً على الجهل والخوف والتفكك النفساني، وعلما على الجمود الفكري والشخصية الضعيفة المنطوية التي لا تستطيع ولا تود مواجهة الواقع.

ثم هناك وبليام جيمس البروتستانتي وغيره من فلاسفة الكنيسة الكاثوليكية الذين يقولون بأن السلوك الديني القويم ليس رمز لهذه العقد النفسية؛ وذلك لأن في الفرد غريزة دينية متأصلة تشوب سلوكه المطمئنة والشخصية الكاملة الناجحة (بمعناها الكسيولوحي) لم يتوفر لها هذه الطمأنينة وهذا الكمال إلا لأنها لمست مبلغ القوة في غريزتها الدينية فهذبتها بالتروي والتبصر، وأنتما سليمة مستقرة آمنة لا تزعزعها هذه المشاكل الدنيوية النفسية التي لا يخلو منها مجتمع ما بدائيا كان أم حضريا. وتقول مدرسة وبليام جيمس - ولها اتباع من أئمة علماء النفس المعاصرين - إن الخوف والبلبلة النفسانية ومشكلة السلوك السيكوباتي ليست إلا وليدة إنكار الفرد على غريزته الدينية حقها ووظيفتها لأهميتها والدور الذي تلعبه في السلوك الإنساني ونفوره من إنمائها ورعايتها خالصة مطهرة.

ولنقف هنيهة هنا ولنحاول في أعداد الرسالة القادمة إن شاء الله أن ندرس مسألة الدين الإنساني على أضواء هذا النزاع لعلنا بذلك نساهم في تفهم هذه المشكلة الاجتماعية التي أخذت حدتها تتخذ طورا مخيفاً في حاضر الأمة العربية.