مجلة الرسالة/العدد 916/أنطون الجميل باشا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 916/أنطون الجميل باشا

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 01 - 1951



بمناسبة الذكرى الثالثة لوفاة

للأستاذ منصور جاب الله

كانت المرزأة في المغفور الأستاذ أنطوان الجميل باشا أليمة، إذ قضى نحبه فجر اليوم الثالث عشر من يناير علم1948 ولم يكن بين منصرفه من عمله ووجيعته إلا ساعة وعض ساعة، ولم يكن بين وجيعته واحتضاره إلا دقيقة وبعض دقيقة، وكذلك لم يشأ القدر لهذا الرجل المتزن الرزين العامل الناصب أن يشكو دنفاً أو يضيق به أحد من أهله ومريديه، فمضى في صمت إلى دنيا غير هذه الدنيا، ووجد الله فلقاه حسابه.

ولقد وصف أنطوان الجميل في حياته وبعد موته بأنه رجل رزين متزن، واللذين لم تكن لهم خلطة بالفقيد يحسبون أن رزانة الرجل إنما كانت مصروفة في زم اللسان والهدوء، فلا يتكلم إلا بمقدار، وأنه تجوز به الأحداث الجسام فلا يتحرك لها ولا ينبض ل عرق وما هكذا كان أنطوان الجميل الذي عرفنا وسعدنا بعشرته وتتلذنا عليه، وإني لأشهد أني عرفت منه رجلا ثائراً لا يهدأ إلا على مضض، ويهدر كالفجل إذا مست كرامته أو نال أحد من نزاهته , وسيأتي الكلام بعد عن موقفه من أحد رؤساء الوزارة ليدرك الناس أي رجل كان هذا الرجل بين الرجال.

ولقد كان فقيدنا أديبا رقيقا قبل أن يكون صحفيا بعيد الصوت والشهرة، والذين علت بهم السن من أمثال كاتب هذه السطور يدركون المكانة الأدبية التي كانت عيها مجلة (الزهور) لمنشئتها (أنطوان أفندي الجميل) كما كان يدعي في ذياك الحين.

ولعل أشهر كتبه وأخطاها عند القارئ كتابه عن شوقي، فقد كان الجميل أثير عند أمير الشعراء، وكان من جلساته الذين يأنس بهم ويصطفيهم، إذ كان بالرجل وحشة فلا يأنس بكثير من الأناسي، وإنما خلاله وجه صديق أو صديقين كما حدثنا بذلك فقيد البيان المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري.

وكان له باع في الترجمة من الفرنسية خاصة إلى اللغة العربية ومنذ ثلاثين عاما نقل إلى العربية كتاب (الفتاة والبيت) ووضع له مقدمة شيخ الشعراء المغفور له إسماعيل صبري باشا، وكتب مؤخرته شيخ الأدباء السيد مصطفى لطفي المنفلوطي وعرفت وزارة المعارف لهذا الكتاب قدرته لمدارس البنات.

والأدب عند أنطوان الجميل غاية لا وسيلة فما كان يدور بخلده يوما من الأيام أن يتكسب منه، وكذلك أن يكون من الأيام أن يتكسب منه، وكذلك قنع أن يكون مترجما في وزارة المالية لقاء أجر صغير، ثم سما به المنصب حتى استقال من خدمة الحكومة وهو (سكرتيرة) للجنة المالية.

ولتركه خدمة الحكومة قصة طريفة لا بأس من إيرادها فقد قصها علينا بنفسه في مجلس المونقة إذ غدا عليه ضحى يوم من الأيام المغفور له جبريل تقلا باشا وطلب إليه أن يستقبل من وزارة المالية ليعمل لتحرير صحيفة الأهرام خلفا للمرحوم داود بركات. فأجاب الجميل. وأبن أنا من داود بركات؟ دعني في عملي هذا ولا تحاول أن (تكشفني) ولا تفضحني بين! ودام الجدل بينها ساعة وبعض ساعة بغير إقناع ولا اقتناع، وإذ سقط في يد تقلا باشا قال لصاحبه؛ اعطني ورقة بيضاء. ثم مضى يكتب فيها شيئا لم يتبينه أنطوان، وبعدئذ استأذنه في الانصراف فلما سأله عن غايته أجاب بأنه يريد لقاء وزير الملية، وألحف عليه في الرجاء عن الغاية التي يريد من أجلها لقيا الوزير، فأجاب تقلا في انفعال شديد أريد أن أقدم إليه استقالة (أنطوان بك الجميل) فذعر أنطوان بك وقال لصاحبه بقوله: لقد كتبت الاستقالة ووقعتها باسم (أنطوان) الجميل وسأرفعها بنفسي إلى الوزير، وما عليك إلا أن تطعن بالتزوير وتطلب محاكمي لأني مزور!.

وبكى عندها أنطوان الجميل كما لم يبك في حياته ومضى مع صاحبه إلى الوزير المالية حيث رفع إليه استقالته ليتولى من غده العمل في الصحافة حتى أودت به الصحافة!.

والحق أن أنطوان الجميل سما بالصحافة وأحدث بها تقاليد بقيت ما بقى حيا، فلما انتقل إلى الدار الآخرة انتقلت معه - وا أسفاه - إلى الدار الآخرة!.

ومن هذه التقاليد إلا نتعرض صحيفة لما كتبه صحيفة أخرى بالتكذيب أو التنفيد، وأن ينشر الخبر على علاته دون تذييل أو تعليق وللقارئ أن يفهم منه ما يشاء، وأن تقدم لمصلحة العامة على السبق الصحفي فما يضير الصحيفة المتزنة التي تحترم نفسها أن تروج يوما وتبور يوما مادامت المصلحة العامة لم تمس في قليل ولا كثير. وأذكر في هذا السبيل أني أزوره في ليلة من الليالي أزمة سياسية حادة وجئ له ببرقية مطولة أرسلها مراسل الصحيفة من لندن، فتصحفها طويلا، ثم ألقاها إلى قائلا: اقرأ، فلما أتممت تلاوتها سألني رأيي فيها فقلت (برقية خطيرة جدا) فسألني: أنرى من المصلحة نشرها؟ قلت: لا. فألقى بها جانبا ولم تنشر، وعلمت فيما بعد أن نفقات هذه البرقية جاوزت مئة جنيه، وأنها لو نشرت لكان لها شأن أي شأن.

ومن هذه التقاليد ألا تستغني صحيفة من الصحف عن محور يعمل بها وإن أمسك عن العمل أياما فقد يكون له عذر، ولكن هذه التقاليد جميعاً صارت مع الحسرة والألم في خير كان!

واختير أنطون الجميل عضوا في المجمع اللغوي، فتهيب الاختيار بادئ الرأي، ثم لم يلبث أن خب في أعمال المجمع ووضع، وكان من أشد الأعضاء مواظبة ومن أشدهم جلداً على العمل وأكثرهم إنجازاً لما يطلب منه.

ولما عين عضواً لمجلس الشيوخ رأى فيه أعضاء (المجلس الأعلى) لونا جديداً من البرلمانيين، فهو رجل لا يسف ولا يهاتر ولا يعمد إلى المناورة أو المداورة ثم هو يحلط الأدب بالسياسة فيرتل الشعر في أثناء مناقشة الاستجوابات والبحث في الميزانيات، يدعو الوزراء إلى التشبه بأبي الدوانيق أو أبي جعفر المنصور!

بيد أن أنطون الجميل لم يطق البقاء في مجلس الشيوخ زمنا طويلا، فقد رأى أن عمله البرلماني يتعارض وعمله الصحفي، وإذ تضارب العملان وتناقضا، كان لا مناص له من ترك أحدهما، ولو كان جبرائيل تقلا باشا حيا وقتئذ لترك العمل الصحفي غير آسف، ولكن صاحبه مات وترك الأمانة في يده، فلا مندوحة له من الاستقالة من الشيوخ، وارتج المجلس الأعلى لاستقالة الرجل وأبي عليه قبولها وبذل عنده الشفاعات والوساطات، وذهب إليه رئيس الشيوخ يسعى كي يعدل عن استقالته ورجاء - مع هذا - أن يريح نفسه فلا يحضر كل جلسة ولكن الرجل العظيم أبي هذا قائلا: أما أن أؤدي العمل على وجهه وإما أن أدعه لغيري.

وأنعم عليه بالباشوية إثر استقالته من مجلس الشيوخ، قال خصومه أنه استقال لينعم عليه بالباشوية وأحدث هذا القول موجدة في نفسه، وأحسب أنه حدثني في ذلك فقلت له: لا عليك من كلام الناس. فلو لم يكن رجلا ذا شأن ما تحدث عنك أحد! أما الموقف الذي أذكره له مع أحد رؤساء الوزارة، فقد مضى عليه أكثر من عشر سنين، وغيب الذين شهدوه في عالم غير هذا العالم، ونحن اليوم في حل من إيراده بشيء من الإيجاز

فقد جاء أحد (المخبرين) لأنطون (بك) الجميل بنبأ في شهر سبتمبر عام 1940 مؤداه أن الجيش الإيطالي اقتحم الحدود المصرية من جهة الغرب، وتريث الجميل كعادته، فلم يشأ نشر الخبر لوقته وإنما أرجاه يوما أو يومين، ثم عرضه على وزير الحربية، وأجازته الرقابة فنشره، وإذ بصر به رئيس الوزارة حينئذ - وهو المغفور له حسن صبري باشا - هاج هائجه ونسى الصداقة الوثيقة التي تربطه بأنطوان الجميل وكتب بلاغا (رسميا) قاسى اللهجة لاذع الأسلوب يرمى فيه كاتب الخبر بالتزيد وإثارة الخواطر.

ولم يفعل أنطون الجميل شيئاً إزاء هذا التحدي إلا أن أشهد وزير الحربية على صحة الخبر، ثم بدأ تحديه لرئيس الوزارة فمنع نشر أبناء مقابلاته وحفلاته، وكان ينشر اجتماع مجلس الوزراء مجرداً من ذكر اسم رئيس الوزراء، ويطوف رئيس الحكومة في البلاد فلا يذكر عنه شيئاً، وتنشر صور الوزراء جميعاً وتحذف صورة كبيرهم!

وهكذا، وهكذا، حتى ضاق المغفور له حسن صبري باشا ذرعا، وبذل الوساطات والشفاعات لدى أنطون الجميل، حتى أنه أرسل إليه يقول: أرجو أن تشتمني في جريدتك وتقول في ما قال مالك في الخمر، أما أن تمهل ذكر اسني مرة واحدة فهذا ما لا طاقة لي باحتماله.

وتدخل المرحوم عبد الحميد سليمان في المصالحة، وشرط أنطون الجميل باشا أن يعد بنفسه بلاغا (رسميا) يدحض فيه البلاغ الأول، وكان، وأعاد أنطون الجميل نشر اسم حسن صبري باشا رئيس الوزارة بعد أن أهمله ثمانية عشر يوما!

ومات أنطون الجميل في حدود الخامسة والستين عزبا لم يتزوج، وقيل أنه كان مبخلا، أو هكذا رماه خصومه، وقال لنا واحد ممن تجمعه به آصرة القربى أنه خلف ثروة تتجاوز مئتي ألف جنيه، ولا نعلم مبلغ الصندوق في ذلك فقد كنا نعرف في أنطون الجميل أنه يعيش كما كان يعيش المتصوفة الأولى يأكل بمقدار ويشرب بمقدار، ولا لا يسرف، إنما يضيق عليها.

وكان هذا سر احتفاظه بصحته، وسر احتفاظه باتزانه، ذلك الاتزان الذي جعله يوجه الطعنة النجلاء فلا يخطئ الهدف ويضرب الضربة فتصمي الخصوم.

ففي ذمة الأدب والصحافة، وفي ذمة التاريخ.

منصور جاب الله.