مجلة الرسالة/العدد 915/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 915/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1951



للأستاذ أمور الإقليمية: أنت أدرى بخلجات الأديب، وبهذه التيارات

العجيبة من الأحاسيس الغامضة التي تدفعه ليمسك بالقلم ويكتب. . أي

شيء! وما قرأتك مرة من المرات إلا هاجت النفس، وثارت بي شهوة

الكتابة، الكتابة إليك، لأني أدرك تماماً أن مكانك من أدبنا العربي، هو

مكان (سانت بيف) من أدب الفرنسي. وحتى تعلم أني شخصي

الضعيف هذه التهمة حتى نعلم ذلك قولك: إني لم أمراك - وهذا

يؤسفني - إلا في تعقيبات التي انتظرها كما ينتظرها الكثيرون. . أما

(أداؤك النفسي) ورفاك لشاعر مصر العظيم فلم أقرأ منه إلا مقالا

ونصف مقال، إي وربئ مقالا ونصف مقال. . وهذا يبدو عجيبا ممن

أخذ بك و (تيم) بآرائك ولكن يا سيدي إذا عرف السبب بطل العجب

كما يقولون!.

قبل أن تطلع علينا بهذا المذهب النفسي الجليل، كنت أتوق وأتمنى لو أن في أدبنا العربي مثل هذا المنهج في دراسة الأدب ونقد الشعر، هذا المنهج الذي أراه في بعض الأحيان - متناثراً - عند هذا الشعر، هذا أو ذاك من الكتاب. فلما قرأت مقالك الأول، وأخذت في قراءة الثاني، أمسكت عن القراءة وعزمت على أمر. عزمت على أن انتظرك حتى تتم هذه المقالات أو هذا المنهج في مقالات النفيسة، فتضع بذلك حجر الزاوية في بناء النقد العربي الحديث، لأني أردتها قراءة مترابطة آخذا بعضها بعري بعض. ولا احلني بحاجة إلى أن أصف شعري يوم كففت عن نشر مقالات، واعداً بنشرها في كتاب يظهر في المستقبل، ويعلم الله متى يظهر!! إلى هنا يا سيدي وأنا وافقك على كل ما ترى، وأذهب معك إلى أن (الأداء النفسي) هو المنظار الأفضل الذي يجب أن ننظر منه إلى نتاج القرائح وفيض العقول. ولكن يظهر - واسمح لي بهذه - أني أخالفك فيمن طبق عليه هذا المذهب ذلك التطبيق الواسع، أو فيمن يجوز أن نجده في شعره بصورة واضحة. ومن يقرأ ورودك، ودمعة الذكرى على الشاعر الراحل، ويضيف إلى ذلك (المقال ونصف المقال)، ويعرف أنك تقصر هذا المذهب على نابغة المنصورة، وإن اضطررت - لسبب ما - إلا تغفل بعض من يسكنون الشام!.

وأستطيع أن أخرج من هذا بأن العنصرية في الأدب ما زال لها مكان مرموق وصوت مسموع وصوت مسموع، حتى عند أئمة النقد وحاملي لولئه. . حقاً إن راية الشعر ظلت مرفوعة في مصر ردحا من الزمن: بدأت عند البارودي ولكنها انتهت عند شوقي، ثم حدث ما يحدث في كل العصور، فإن الشمس لا تشرق دائماً على مكان واحد، وهي الآن تعم أرجاء الشام نوراً وبهجة، ونحلق في سما حلب ومصدرها الشاعر الفحل: عمر أبو ريشة.

ولست أحب في هذا المجال القصير أن أتحدث عن عمر شاعر عبقرياً، وهبة الله سعة في الخيال وامتياز في (النفس) ورفاه في الشعور، مما جعله شاعراً بكل ما في الكلمة من حياة وروح وشعر. . . ولعل من الفصول أن أسألك قبل أن أودعك، عما إذ كنت يا سيدي قد نظرت إلى شعر عمر العين ونفس الاهتمام الذي نظرت به إلى شعر على محمود طه، ويقيني أن الأستاذ المعداوي سيغير من (قلة الاهتمام) بهذا الشاعر العظيم لو أعاد النظر ديوانه الأخير وقرأ: طلل، امرأة وتمثال، مصرع الفنان الروضة الجائعة، كان لي، فراق نسر، شاعر وشاعر

لو قرأ هذه القصائد الممتازة لغير من نظرته، ولطلع علينا بكتاب عظيم يكون درة يضمها إلى تاجه الأدبي. . وبعد، فله يسعدك أنك أسعدت إنسانا: لكتابه إليك.

القاهرة

محمد بدر الدين الحاضري

الشيء الوحيد الذي لم أكن أنتظره أو أفكر فيه، هو يتهمني قارئ فاضل بالعصبية الإقليمية، أنا الذي حاربت هو العصبية بكل ما أملك من جهد على صفحات الرسالة، كلما أطل برأسها من قلم كاتب أو لسان أديب. ومع ذلك فقد فوجد بالقارئ الذي اتهمني على غير ترقب وانتظار!

وأعود إلى هذا الاتهام السافر فأجده قد خلا من (الحيثيات)، وظهرت فيه النتائج واحتفت المقدمات. . إن الأديب الفاضل بدر الدين الحاضري أشبه بوكيل النيابة الذي يوجه التهمه وهو لم يقرأ من (ملف) الفضية غير صفحتين. . أما تراه يخالفني فيمن طبق عليه الأداء النفسي هذا التطبيق الواسع، منهيا إلى أن هذا الأداء لا يتمثل في شعره بصورة واضحة، وهو لم يقرأ من تطبيق مذهبنا على شعر علي محمود طه غير مقال؟! ما هذا أيها القارئ الصديق؟. . لقد كنت أرجو أن نفسك بعد أن تكون قد رجعت إلى التطبيق في صورته الكاملة، حتى تستطيع أن تهيأ لحكمك من الأدلة ما يقف به على قدميه!

إن تلك النماذج الفنية التي استشهدت بها من شعر على محمود طه، هي الحكم الفاضل بيني وبين كل معترض على أمانة النقد وسلامة التطبيق. . ولن أضيق أبداً بأي قارئ يجادلني فيما كتبت، أما أن يعترف الأديب الفاضل بأنه أرجأ النظر في بقية الفصول طلبا للوحدة الموضوعية، فقد كان يجدر به خضوعاً لهذا المنطق أن ترجي اتهامه لنا بالعصبية الإقليمية!!.

أن أيليا أبا ماضي الذي في الطبقة الأولى من الشعراء ليس شاعراً مصربا، ولعل القراء يذكرون أن أول تطبيق لمذهب الأداء النفسي على صفحات الرسالة كان منصباً على هذا الشاعر، حتى لقد دفعته الدهشة من أن يحتفل ناقد (مصري) بشعره، إلى أن يبعث إلينا بتحية الصادقة وشكره الخالص، على لسان صديقنا وصديقه الأستاذ محمد على الحوماني. . ماذا أقول بعد هذه اللفتة التي أذكرها لأول مرة حين دعت إليها المناسبة واقتضاها المقام؟!.

إنني أقول للأديب الفاضل رداً على تلك التعريجة في منعطف الطريق: صدقني أنه لا يضيرنا أن راية الشعر فوق أرض سورية لو لبنانية لو عراقية، ما دامت هذه الأرض قطعة عزيزة من هذا الثرى الحبيب، ثرى البلاد العربية حين تجمع بينها حدود واحدة هي حدود الوطن الكبير. . ولكن القول بأن رأيه الشعر ظلت مرفوعة في مصر فترة من الزمن انتهت بانتهاء أمير الشعراء، يع في رأينا شاطحة من شاطحات الرأي العابر والحكم الطائر حين يعوزهما قوة الدليل والبرهان. . لقد نودي بمثل هذا الرأي في مصر بعد أن مات شوقي، وحين ظهر في الأفق الشاعر الذي ملأ المكان الشاعر، تريثت موازين النقد في إصدار الأحكام النهائية على النهائية علة إنتاج المعاصرين!.

أما عن إشارة الأديب الحاضري إلى شعر أبي ريشة، فلا أذكر أنه قد أخرج ديوانا دون أن أقف عند كل قصيدة من قصائد، بل دون أن أرسل الذوق وراء كل بيت من أبياته.

ويا طالما وضعت ديوانه الأهل (شعر)، وديوانه الثاني الذي أخرجنه مجلة (الأديب) وضم بين دفتيه كل ما قال، يا طالما وضعتهما في بوتقة النقد وكفة الميزان. تريد رأيي في شعره؟ إن كل قصيدة من قصائده تذكرني بروعة الجمال الأسر في (جاليتيا) تمثال بجماليون. لقد أدرك بجماليون الفنان أن تمثاله الجميل تنقصه الحركة، تنقصه الروح، تنقصه الحياة. . ومن هنا راح يتوسل إلى الآلهة أن تحيل الرخام الصامت إلى كيان ناطق، أو الجسد الهامد إلى حياة نابضة. واستجابت الآلهة لبجماليون المثال، ولكنها حتى الآن تستجيب لأبي ريشة الشاعر. إن شعره يا صديقي يزخر بالجمال والخيال، ولكنه يفتقر إلى الروح والعاطفة!!.

كلمة إلى صديقي:

تلقيت رسالتك الأولى كما تلقيت من بعدها رسالتك الثانية. ترى هل تبلغ من الثراء هذا الحد الذي يتيح لك أن تطيع ديواناً من الشعر لتوزعه على الناس بالمجان؟! أنه ليسعدني أن تكون صادقاً فيما اعتزمت، لأن في ذلك حلاً لأزمة القراء. . ولقد طلبت إلى أن أقوم بطبع هذا الديوان والتقديم له، ثم رأيت أن تحتار له عنوانا هو (منعطف النهر). . عنوان جميل من غير شك، ولكن لم تؤثر أن يظهر الديوان وهو يحمل اسماً مستعاراً بدلاً من اسمك الصريح؟ صدقني أنني أضيق بكل شيء مستعار، لأنني تعودت أن أعيش في وضح النهار. . ثم لا تنسى أن النقاد سيسألني عن أسمك الحقيقي إذا ما كتبت مقدمة ديوانك، وأنا لا أحب أن أتعرض لمثل هذا الإخراج!.

أنور المعداوي

-