مجلة الرسالة/العدد 915/الفارابي في الشرق والغرب ومكانته في الفلسفة
مجلة الرسالة/العدد 915/الفارابي في الشرق والغرب ومكانته في الفلسفة
الإسلامية
بمناسبة مرور ألف عام على وفاته
- 1 -
الأستاذ ضياء الدخيلي
نشرت جريدة (العالم العربي) البغدادية بتاريخ 13121950
تحت عنوان الدعوة للاحتفال بذكرى الفيلسوف الفارابي: تقول
صحف الشام إن السيد فخري البارودي أحد المعروفين
بالاشتغال بالقضايا العامة، والذي انصرف مؤخراً إلى رعاية
الجمعيات لخدمة الموسيقى العربية قد رفع إلى وزارة
المعارف السورية كتاباً يقترح فيه أن تدعو ممثلي الدول
العربية للاشتراك في مهرجان لتخليد ذكرى الفيلسوف
الموسيقار أبي نصر الفارابي بمناسبة مرور ألف سنة على
وفاته ودفنه في دمشق أسوة بالمهرجان الذي قررت الجامعة
العربية إقامته في بغداد خلال الربيع لذكرى لبن سينا. وقد
أخبرني الدكتور جواد علي سكرتير المجمع العلمي العراقي
عندما عرضت عليه هذا الخبر أن أول من احتفل بذكرى
الفارابي الألفية إحدى جامعات النمسا، وقد شهد الاحتفال أحد العرب فتحمس وتألم لنسيان بلاده هذا الفيلسوف العظيم الذي
أنتجته المدرسة العربية في بغداد على حين يبعث الوفاء
لعبقرية الأوربيين للاحتفال بعيدة الألفي. وأردف سكرتير
المجتمع العلمي العراقي حديثه بقوله لماذا لا يحتفل العرب
بالفيلسوف العربي يعقوب الكندي وهو عربي أصيل؟ وبعد
مفارقتي الدكتور جواد علي راجعت كتاب أخبار الحكماء
للقفطي وكتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وكتاب
فهرست ابن النديم وقد ذكر هؤلاء ترجمة الكندي إلا أن
الغريب أنهم لم يذكروا تاريخ وفاته غير أني وجدت الأستاذ
الزيات يذكرني في كتابه القيم تاريخ الأدب العربي أن وفاة
يعقوب بن إسحاق الكندي سنة 246هـ ومعنى هذا أنه قد
مضى على عيده الألفي حوالي 124 سنة ولكن لا يمنع ذلك
من إقامة احتفال فخم لإحياء ذكرى أول فيلسوف عربي
أصيل؛ ذلك لأن الشعور القومي العربي كان قبل قرن يرزخ
وينوه بأعباء الاضطهاد التركي واليوم قد تنفس العرب
الصعداء بعض الشيء وتحرروا قليلاً من ربقة استعمار ليخلفه
آخر. ولقد فهموا قيمة الاعتزاز بالأمجاد وتقديس الذكريات في بعث الحياة واليقظة في الجيل الجديد، وها هي تركيا الحديثة
قد احتفلت بالفيلسوف الفارابي لادعائها تركيته فقد قرأت في
مجلة (الرسالة) الغراء أن الأتراك قرروا الاحتفال بذكراه
الألفية في نوفمبر من هذا العام. ولكن الفارابي إن كان تركيا
في قوميته فهو عربي في دراسته وثقافته ولغته العلمية فمن
واجب العرب أن يحتفلوا بأحد كبار معلمي مدرستهم الفلسفية
ومن كان قبل من عباقرة طلابها وها أني أول من يلبي دعوة
ابن الشام للاحتفال بالفارابي على صفحات مجلة (الرسالة)
الغراء ومن أولى من (الرسالة) بالاحتفال بذكرى فيلسوف
إسلامي كالفارابي، فالرسالة هي المجلة التي حملت في بلاد
العرب والإسلام مشعل اليقظة وأنارت السبيل للجيل الجديد
إلى كنوز الثقافة العربية وبعثت في النفوس الراكدة نهضة
وحياة خليقتين بالإجلال والإكبار وأقبلت على تراث العرب
والإسلام تتلمسه لتظهر معالمه للضالين؛ فأشرقت أنوار
ذكريات ذلك المجد الزاهر الذي أضعناه نحن أبناؤه واحتفظ
بتقديسه الغربيون الذين بقوا يجلون ويكبرون الفارابي وابن
سينا وابن رشد والكندي وإخوانهم ويحيطونهم بهالة من الإكبار كموقف الفكر العربي اليوم تجاه أفلاطون وأرسطو
وسقراط اليونانيين. من أولى من (الرسالة) في أن تخصص
الصفحات المشرقة من أعدادها الغراء للاحتفال بذكرى المعلم
الثاني و (الرسالة) هي التي علمت شباب العرب والإسلام
اليوم كيف يقدسون تراث السلف الصالح. . . فلتحتفل هي
بالفارابي أسوة بجامعتي النمسا واستنبول.
فقد نشرت جريدة (العزة) البغدادية بتاريخ 18 كانون الأول سنة 1950 أن وزارة المعارف العراقية تلقت أمس دعوة من جامعة استنبول لاشتراك الحكومة العراقية في الاحتفال بذكرى الفارابي التي ستقوم بها الجامعة المذكورة يوم 29 من الشهر الحالي بمناسبة مرور ألف عام على وفاته؛ فما هو صدى ذلك في جامعتي فؤاد وفاروق المصريتين؟ وما هو موقف الجامعة السورية؟ أما العراق فإنه مع الأسف بالرغم من كثرة ادعاءات حكومته لا توجد فيه جامعة ذات طابع عراقي خاص.
يحدثنا مؤلف (تاريخ فلاسفة الإسلام) أن حكماء العرب انشقوا في أواخر الفرن الثالث الهجري إلى فريقين: الأولى فرقة المتكلمين، وكان للكندي الفضل الأكبر في تمهيد سبيلها واختصت بالإلهيات وما وراء الطبيعة وكان ظهورها في مرو (خراسان من بلاد إيران) وكانت قبل ذلك الانفصال تتبع فيثاغورس ثم تنحت عنه وعن أتباعه وتعلقت بأرسطو بعد أن لبست تعاليمه ثوب مبادئ الأفلاطونية الحديثة (نيوبلاتونيزم) وكانت هذه الفرقة تبحث الأشياء في مبادئها وتتحرى المعنى والفكرة والروح ولا تصف الله بالحكمة في الخلق أو بالعلة الأولى ولكن بأنه واجب الوجود. وكانت تقدر الأشياء بوجودها فتسمى في إثبات ذلك أولاً وكان الفارابي رئيس هذه الفرقة وزعيمها والمقدم فيها وإليه المرجع وعليه الاعتماد (راجع تاريخ العرب لنيولسن). أما الفرقة الثانية فهي فلاسفة الطبيعة وكان ظهورها بحران والبصرة وقصرت بحثها على ظواهر الطبيعة المادية المحسوسة مثل تخطيط البلدان وأحوال الشعوب، ثم ترقت في البحث فلم تتعد النظر في الأثر الذي تحدثه الأشياء في عالم الحس، ثم تجاوزت البحث في ذلك إلى النفس والروح فالقوة الإلهية فعرفها بالعلة الأولى أو الخالق الحكيم الظاهرة حكمته في مخلوقاته. وكان أبو بكر محمد زكريا الرازي زعيمها، وكان طبيباً حاذقاً وفيلسوفاً طبيباً.
فالفرق ظاهر بين الفرقين؟ فالفرقة الثانية التي زعيمها الرازي كانت تبحث فيما ظاهر للعيان وملموس بالحس وتقنع بصفاته وقوة أثره في غيره من الموجودات. أما الفرقة الأولى فرقة المتكلمين التي كان رئيسها الفارابي فكانت تقدر الأشياء بوجودها فتسمى في إثبات ذلك الوجود أولاً، فالفارابي كان إذن زعيم أكبر فرقة فلسفية في عصره. لقد قال الأستاذ محمد لطفي جمعة مقال له عن الفارابي في المجلد من المقتطف ونشر مضامينه كتابه (تاريخ فلاسفة الإسلام) - أن مبدأ انشقاق فلاسفة المسلمين كان في أواخر القرن الثالث الهجري لكن دي بوير في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) خالفه في تحديد زمن ذلك الانقسام فحدثنا أنه كان في القرن الرابع الهجري والحقيقة أنه من الصعب تقسيم الحركات الفكرية إلى فصول زمنية؛ فليس هنالك حدود فاصلة دقيقة تقطع التيار الفكري إلى قطع متمايزة، فهي كلها تؤلف أحجاراً متلازمة وأجزاء مترابطة في هيكل الحياة الفكرية. فكثير من الأفكار والمبادئ الشائعة اليوم والمهيمنة على القسم المعمور من الأرض تجد جذوره إلى أقدم العهود التاريخية، فلو تصفحت (جمهورية أفلاطون) مثلا لوجدت فيها طائفة من الأفكار الحديثة التي يعتقد الناس خطأ أنها وليدة العصر الحديث وأنها من نتاج أبناء اليوم؛ وكذلك القول في (رسائل إخوان الصفا)
على أن هناك من ينكر هذا الانشقاق في تجاه الفلاسفة. وإني عند ما درست شرح إشارات لبن سينا للطوسي والشوارق للاهجي وشرح منظومة السبروارى في الفلسفة ودرست حاشية الملا عبد الله وشرح الشمسية وشرح منظومة الشيخ هادي شليلة في علم المنطق وغيرها من كتب الفلسفة الإسلامية ودرست في علم الكلام شرح تجريد الطوسي للعلامة الحلي؛ أقول عندما درست هذه الكتب الفلسفية في مدارس النجف الأشرف الإسلامية لم أجد أستاذننا يقسمون فلاسفة المسلمين إلى هاتين الطائفين، وكانوا رحمهم الله يخلطون بين أقولهم جميعاً في مزيج واحد؛ ولكن دي بوير يصر هذا التقسيم فيقول في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) أخذ أصحاب المنطق أو أصحاب ما بعد الطبيعة يتميزون في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) عن الفلاسفة الطبيعيين. والأولون يسلكون في أبحاثهم منهجاً أكثر دقة وصراحة من منهج المتكلمين (ومنهجهم يقوم على استنباط الأشياء من أصولها على طريقة برهانية دقيقة) وقد رغبوا عن مذهب فيثاغورس وانقادوا لأر سطو الذي وصلت إليهم فلسفته في ثوب من المذاهب الأفلاطوني الجديد. وهنا نجد أمام اتجاهين في العلم عني بكل منهما فريق، فالفلاسفة الطبيعيون عنوا - على تفاوت فيما بينهم - بدراسة ما في الطبيعة من ظواهر مادية كثيرة كما هو الحال في علم الجغرافيا وشأن الأمر الجزئي في نظرهم ثانوي وهو لا يزيد عن كونه مندرجا تحت كلي ويمكن استنباطه من هذا الكلي. وعلى حين أن الفلاسفة الطبيعيين يجعلون دراسة آثار الأشياء أساساً لأبحاثهم فإن أصحاب المنطق يحاولون إدراك الأشياء باستنباطها من أصول وهم في كل أبحاثهم يتلمسون ما هيأت الأشياء وحقائقها. وقد جاء أهل المنطق بعد الطبيعيين في الزمان كما أن متكلمي المعتزلة نظروا أولا في المخلوقات ثم نظروا في ذات الخالق بعد ذلك. وقد عرفنا أن الرازي الطبيب المشهور المتوفى عام 320 كان أكبر ممثل للفلسفة الطبيعة التي يستعمل فيها المنهج المنطقي والتي مهد الكندي وغيره إليها السبيل فهي تبلغ أوجها ممثلة في رجل معاصر للرازي وأصغر منه سنا هو الفارابي
وقد كان الفارابي أبي رجلاً ممن يخلدون إلى السكينة والهدوء؛ وقد وقف حباته على التأمل الفلسفي يظله الملوك بسلطانهم؛ ثم ظهر في آخر الأمر في زي أهل التصوف ويقول إن والد الفارابي كان قائد جيش وأصله فارسي وإن الفارابي نفسه ولد في وسيج وهي قرية حصينة تقع ولاية قاراب من بلاد الترك فيما وراء النهر. هذا ما يقوله ذي بوير فهو يعتبر الفارابي ممن يمثل مباحث ما بعد الطبيعة في أوجها، وتجد قد اعتبر فيلسوفنا فارسيافي قومية لكن كارادفو في البحث الذي كتبه لدائرة المعارف الإسلامية عن الفارابي يقول: كان الفارابي أعظم فلاسفة الإسلام قبل ابن سينا. ولد في عائلة تركية في أواخر القرن السابع الميلادي في وسيج وهي مدينة صغيرة محصنة في مقاطعة فاراب. فترة يعتبره في الأتراك، وهذا ما حدا بحكومة الأناضول التركية أن تحتفل بعيده الألفي في جامعة استنبول في 29 كانون الأول سنة 1950.
وقال كارادفو في دائرة المعارف الإسلامية (المجلد الثاني ص53) إن الفارابي درس في بغداد على طبيب مسيحي اسمه بوحنا ابن حبلان واشتغل أيضاً عند أبي بشر متى وهو مسيحي نسطورى أشهر بكونه معرباً لكتب اليونان. وقد ذهب الفارابي إلى حلب بعد ذلك واتصل ببلاط سيف الدولة الحمداني وعاش في ظله في حياة الصوفية.
واشهر الفارابي كشارح لفلسفة أرسطو وأكسبه جهوده في ذلك لقلب (المعلم الثاني) باعتباره ثانيا للمعلم الأول أرسطو وقد شرح كتبا لليونان في ما وراء الطبيعية والفلسفة والعلم ولم يقتصر على شرح كتب اليونان بل إنه ألف كتبا كثيرة مستقلة وقد طبع له تسع رسائل صغيرة من أشهرها (فصول الحكمة) وهذه الرسالة تحوى أراه عديدة بشكل مختصر. وقد تدو ولت في كل مدارس الشرق وشرحها الحسيني الفارابي (من القرن الخامس وطبعت في المطبعة الأميرية. وطبع له أيضاً رسالته المثالية (رسالة في آراء أهل المدينة الفاضلة) وهي رسالة مهمة في 34 فضلا وفيها أوضح ذلك الفيلسوف المسلم المشبع بفلسفة أفلاطون ما يتصوره في تنظيم المدينة الكاملة التي يجب أن يحكمها عقلاؤها، وأن يكون هدفها أن تقتدي في العلم السفلي الأرضي بمدن الفردوس في كمالها، وأن تهيئ سكانها الغبطة وسعادة سكان مدن الجنة المثالية
يقول كارادفو إن هذه النظرية ضئيلة المنفعة من الوجهة العملية ولكن فيها بعض الأهمية من وجهه علم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) وكانت غاية الفارابي ومراميه كبائر فلاسفة المدرسة التي ينتمي إليها - أن يحيط بدائرة جميع العلوم. ويظهر أنه كان رياضياً وطبيباً فاضلاً. وألف في علوم السحر والتنجيم، وكان موسيقياً. هذا رأى كارادفو في الفارابي.
ويحدثناصاعد الأندلسي المتوفى سنة 462 هـ لا عن إعجابه بمؤلفات الفارابي فيقول: ألف الفارابي كتاباً في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها وله كتاب في أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطو طاليس اطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علماً وبين كيفية التدرج من بعضها إلى بعض شيئاً فشيئاً ثم بدأ بفلسفة أفلاطون فعرف بغرضه منها وسمى تأليفه فيها، ثم أتبع ذلك بفلسفة أر سطا طاليس فقدم له مقدمة جليلة عرف فيها بتدرجه إلى فلسفته ثم بدأ بوصف أغراضه في تأليفه المنطقية والطبيعية كتاباً كتاباً. قال صاعد فلا أعلم كتاباً أجدى على طالب الفلسفة منه؛ قال وللفارابي في ما وراء الطبيعة وفي العلم المدني كتابان لا نظير لهما، أحدهما المعروف بالسياسة المدنية، والثاني المعروف بالسيرة الفاضلة، كتبهما وفق مذهب أر سطا طاليس اليوناني. وقد عقد أستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت هو الدكتور أمين أسعد - مقارنة في كتابه (الطب العربي) بين الكندي والفارابي وابن سينا فقال ' ن أساس الفلسفة العربية مأخوذ من اليونانية بعد تعديله ليوافق تعاليم الإسلام وذوق الشرقيين وقد اعتبر العرب أن تعاليم أر سطا طاليس تمثل الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي. وكانت طريقة الكندي في بحثه انتخابية غايتها التوفيق بين فلسفة أفلاطون وأر سطا طاليس من جهة وبين التعاليم الإسلامية من جهة أخرى أما الفارابي فقد جمع بين الفلسفة الأفلاطونية والأرسطو طاليسية والتعاليم الصوفية معاً وفي كتابه (السياسة المدنية) صور الفاضلة مقتدياً بجمهورية أفلاطون وسياسة أرسطا طاليس. وقد تأثراً بالغاً بفلسفة الفارابي ووضع قانوناً للفلسفة اليونانية كما وضع قانوناً للطب اليوناني وإهداء إلى العالم في قالب بسيط ومقبول. وتجد هذا الأستاذ يعتبر الفارابي متبعاً ومتأثراً بخطى أر سطا طاليس في كتابيهما (الجمهورية) و (السياسة) والحق أن الفارابي قد اتسع خياله فبنى مجتمعاً ودولة كما يريدها على وجه الأرض لا كما تريده البيعة، فإن الواقع كثيراً ما كان بجانب الدجال المراوغ على جهلة وكان ضد العاقل الحكيم. وعليه فإن أحلام الفارابي لن تتحقق في هذا العالم الدنيوي وإن بقيت شهوة لذيذة تصببو لتحقيقها نفوس الحكماء. وقد ذكره الأستاذ سلامة موسى في كتابه (أحلام الفلاسفة) واستعرض كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة إلى جنب جمهورية أفلاطون. ولا نجرأ أن نرمي الفارابي بتقليد أفلاطون فإنه من المبتكرين ولكنه حاكي الفيلسوف اليوناني القديم بطريقة التأليف.
وقد درج القدماء والمتأخرون على اعتبار ابن سينا تلميذاً للفارابي في حين أن هذا قد توفي عام 339 هـ أما لبن سينا فقد مات علم 428 هـ وكان عمره إذ ذاك (58) سنة. وعليه فإن ولادته كانت حوالي سنة 370 هـ أي أن ابن سينا ولد بعد وفاة الفارابي بواحد وثلاثين (31) عاماً فما معنى اعتباره تلميذاً للفارابي؟ الجواب أنهم اعتبره تلميذاً له لأنه فهم الفلسفة من كتب الفارابي، فهذا ابن خلكان يقول في وفيات الأعيان (إن الفارابي كان أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه وأن الشيخ الرئيس لبن سينا بكتبه تخرج وبكلامه في تصنيفه انتفع) وقد اعترف ابن سينا نفسه بفضل الفارابي عليه فقال في ترجمة حياته التي أملاها على أحد تلاميذه (الجوزجاني) لما سأله (حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي ثم عدت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه والتبس على غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا أعرف المقصود به وأيست في نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوارقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه فعرضه على فرددته معتقد أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي أشتر مني هذا فإنه رخيص أبيعه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة فرجعت إلى بيتي وأسرعت في قراءته فانفتح على في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه صار لي على ظهر القلب وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يوم بشيء كثير على ظهر الفقراء شكراً لله تعالى)
ولكن بعض المؤلفين يسرف في تحدثه عن هذه العلاقة الفكرية بين الفارابي وابن يسنا فهل سمعت بالتهمة الشنعاء التي يفهم منها ضمنا أن ابن سينا سرق أتعاب الفارابي الفكرية وانتحلها وادعاها؟ قال حاجي خليفة في كشف الظنون (ج3ص98 - 99 طبعة ليبتزك) نقلا عن كتاب حاشية المطالع (وقد نقل هذا أيضاً الأستاذ مصطفى عبد الرزاق في رسالته عن الفارابي (المعلم الثاني) - نقلا عن كتاب أيجد العلوم لحسن صديق خان عن حاسة المطالع) أن مترجمي المأمون أتوا بتراجم مخلوقة أحدهم ترجمة الآخر فبقيت تلك التراجم هكذا غير محررة بل أشرف أن عفت رسومها إلى زمن الحكيم الفارابي ثم إنه التمس منه ملك زمانه منصور بن نوح الساماني أن يجمع تلك التراجم ويجعل من بينها ترجمة ملخصة محررة مهذبة مطابقة لما عليه الحكمة فأجاب الفارابي وفعل كما أراد وسمى كتابه (التعليم الثاني)
فلذلك لقب (المعلم الثاني) ثم يذكر حاجي خليفة أن هذا الكتاب ظل مسوداً بخط الفارابي في خزانة المنصور (أضاف إلى هذه العبارة كتاب أبجد العلوم الفقرة التالية: - إلى زمان السلطان مسعود من أحفاد المنصور وكان غير مخرج إلى البياض إذ الفارابي ملتف إلى جميع تصانيفه، وكان غالب عليه السياحة على زي القلندرية. وكانت تلك الخزانة بأصفهان وتسنى (صوان الحكمة) وكان الشيخ أبو علي بن سينا وزيراً لمسعود وتقرب اله بسبب الطب حنى استوزره وسلم إليه الكتب فأخذ الشيخ الحكمة من هذه الكتب ووجد فيما بينها التعليم الثاني ولخص منه كتاب (الشفاء) ثم أخذ الخزانة أصابتها آفة فاحترقت تلك الكتب فاتهم أبو علي بأنه أخذ من تلك الخزانة الحكمة ومصنفاته ثم أحرقها لئلا تنشر ويطلع عليه) حنى اطلع عليه ابن سينا ولخص منه كتاب (الشفا) قال صاحب كشف الظنون ويفهم في كثير مواضع الشفاء أنه تلخيص للتعليم الثاني انتهى كلام حاجي خليفة. وقد عرضنا عليك الزيادة على الخبر التي وردت في أبجد العلوم. وعلى كل حال إذا صح ما ذكر لبن خلدون في مقدمته من أن أرسطو سمى بالمعلم الأول لأنه هذب وجمع ما تفرق من مباحث المنطق ومسائله فأقام بناءه متماسكا وجعله أول العلوم الحكمة وفاتحها وفاتحتها فإن ما قام به الفارابي من تأليف كتاب يجمع وهذب ما ترجم قبله يجعله مشبها لأر سطو ولذلك سمى المعلم الثاني.
للكلام بقية.
ضياء الدجيلي.