مجلة الرسالة/العدد 910/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 910/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 12 - 1950



للأستاذ أنور المعداوي

المباراة الشعرية ونموذج من النقد:

إن هذا المجلس الذي ضم الشعراء: شاهين وميشال وفوزي وشفيق معلوف في دار السيدة إيزابيل لمجلس ينفح بالترف الثقافي.

ولقد هبت علينا منه ونحن في السودان، نسمات رقاق معطرات.

إن السيدة جميلة لا شك في ذلك، وهؤلاء الشعراء يقدرون هذا الجمال المصون، ويعشقونه عشقاً مهذباً عفيفاً. أمثال هذه السيدة الفضلى هن اللائى يوحين ويأخذن بيد الأدب الفنان إلى عروشه الخالدات. أما تراها تبالغ في إعزاز الأدب وتعده عاطفة سامية مطهرة؟ أما تراها تبالغ في إعزاز الجمال وتكريمه؟ فهي تضعه في كفة، وتضع في الكفة الأخرى ساعة ذهبية. . إن الذهب في رأيي لا قيمة له، لأنه هنا رمز للإعزاز والتقدير، أعني أن قيمته معنوية لا مادية!

وإنه ليدهش الخاطر أن يقول هؤلاء السادة شعراً في هذه الحادثة العادية البسيطة، ولكن الله أدركني برحمته فشعرت أو علمت أن الباعث المؤثر هو جمال الثغر الذي يلامسه الفنجان. لقد تمنى كل شاعر من هؤلاء جاهداً في أعماق نفسه لو كان مكان الفنجان، وهنا تذوب النفس رحمة لضعف الإنسان الشاعر؛ إن شعراءنا هؤلاء يشتركون في هذا. . وهو المرجع الأصيل لهذه الخطرات الشعرية!

أما السيد شاهين فقد قص علينا قصة مظهرية (فوتوغرافية) حرارة الفنجان. وإن الفنجان لو درى ما أصاب السيدة منه لاعتذر وأن السيدة وضعته فارتمى. . إنها قصة بردت قبل أن يبرد الفنجان، فبين البيت الأول:

ثمل الفنجان لما لامست ... شفتاه شفتيها واستعر

وبين الشطر: وضعته عند ذا من كفها، بون بعيد. . وإذا صح أن الفنجان مستعر فإنها لا تضعه وإنما (تدلقه)! وأين إجفال الجسم الرقيق من هذه الحرارة المستعرة؟ وإذا صح أنها (وضعته) فإنه لا ينكسر، كما جاء في البيت الأخير:

وارتمى من وجده مستعطفاً ... قدميها وهو يبكي فانكسر إن الانكسار فيه ثورية لطيفة. ولكن هذا البيت لا صلة له بالأبيات السابقة!

أما السيد ميشال فقد هزني شعره أول ما نظرت فيه، وقد أعجلني هذا الشعر حتى زاحم أنفاسي وأعجل عيني على حروفه المتحركات في صخب. . إنه شعر أصيل، وكأنه كان معتقاً في خلد الشاعر منذ أمد، فلما سنحت المناسبة سال وفاض، وماج وهاج. . كما يشطح الصوفية وهم في مرتبة الفناء. إنه يقول:

عاش يهواها ولكن ... في هوان يتكتم

كلما أدنته منها ... لاصق الثغر وتمتم

دأبه التقبيل لا ينفك ... حتى يتحطم!

إن كلمة (عاش) هنا تخلع الإحساس على هذا الفنجان الذي عاش فعلاً في كنف هذه السيدة وبين أنفاسها وهي قد خلعت عليه جوها الخاص. . ثم (يتكتم)، وهذا الكتمان يصور حال هذا الفنجان وعشقه المكظوم وإطراقه ووحدته ثم صمته الحزين - وهنا شيء هائل يزحم نفسي ولا أستطيع التعبير عنه - فأنا أشبه هذا الفنجان العائش - وكم في الناس مثله من فناجين - ولكن ليس لي سيدة تعطف علي أو أجد منها غفلة لأحس مسها. فما أخبثه من فنجان سروق وما أظرفه!

ثم يندفع الشاعر العملاق فيقول (كلما أدنته منها). . . ولا أملك إلا أن أصيح: واغوثاه!. . إن الفنجان العاشق الكتوم لا يستطيع الدنو منها، فإذا (أدنته) في رفق ولطف (لاصق الثغر وتمتم)! و (لاصق) هذه ليست كلمة ولكنها شعور مطلق، و (تمتم) هذه رقية الشعر وتميمته في هذا البيت بل هي طلسم السحر فيه. . إن ذلك الفنجان العاشق الكتوم، انتظر طويلا فلما أحس حرارة اللقاء، أدهشته المفاجأة ولم يصدقها وأعجله الشعور الجارف العاصف فتمتم. . وليسمح لي الأستاذ في صيحة أخرى: واغوثاه! واغوثاه!

ثم الخاتمة الطبيعية لهذا الاندفاع الشعوري: (دأبه التقبيل) وهذا إصرار عذب معذب. . (ولا ينفك) وكيف ينفك؟! وقد وجد المورد الروي الخفاق بعد ظمأ. . (حتى) وهذه الغاية المطلوبة (تحطم). . وهذه نهاية القبلة التطبيعية ذلك الجيشان المسعور المتعجل - ذلك الفتور. . تلك الراحة. . ذلك الخدر. ذلك التحطيم!! وهكذا تمر هذه العاصفة الشعرية بنفسي فتترك صدى من بعدها بعيد الرنين.

إن السيد ميشال هو صاحب الجائزة. . ولا داعي لأن يسابقه أحد، وأنا أقسم بأ ولو المقدس أن له قريناً من الشياطين العظام.

أما السيد شفيق فقد حطم الفنجان فعلاً فتطايرت شظاياه. . إنه فنجان عادي كفناجين المقاهي العامة! وفنجان من خزف - مثلي - لا أمل فيه. . له رنين خشن مزعج. . ألم يقل السيد شفيق:

كل جزء طار من فنجانها ... كان ذكرى قبلة من فمها

والقبلة لا تكون إلا من الفم. . فلا داعي لذكر أي فم هنا. . أم لعلها قبلات طائرة كالأطباق الطائرة؟. . إن بركان ذو شظايا لا فم تعتز به حسناء!

وسيدي فوزي المعلوف - في الذي أظن - شيخ. . إنه نظر ونظر فرأى الفنجان لم ينكسر. . لقد فقد التحفز والتأثر بالمفاجأة، ولا داعي للشعر بعد ذلك! ولكنه عنى نفسه وجامل وأظنه تعب أشد التعب في الجري وراء هذه الأبيات حتى تعطلت أنفاسه القصار. . وليس من اللياقة في مخاطبة السيدات - فيما أظن - والعبد الفقير لم يخاطب سيدة، بالمعنى الصحيح، أبداً - أن يخطر ببال السيد فوزي مثل هذا الكلام الرخيص:

هي ألقته وذا حظ الذي ... يعتدي يوماً بتقبيل عليها

إن كلمة (ألقته) هنا باردة. . والأصح أن يقول - ما دام قد اعتدى عليها بالتقبيل - إنها ضربته قلماً! وكيف يوحي إلينا - ولو من بعيد - أن هنالك معتدين؟!. إنه أراد تنزيه السيدة ولكنه لم يجد طرف الخيط فتخبط في العقد!

إن إخواننا الشوام شعراء، وهم عند العبد الضعيف أشعر من المصريين. . الشوام يحلقون في خفة، والمصريون يجرون أغلالهم ويحملون أوزارهم وأقصد بذلك لغتنا الشريفة! في مصر الأزهر. . وفي الشام. . في الشام الحدائق والينابيع والعرق. . ولعل سيدي أنور. . يكتب لنا مقارناً بين شعراء مصر وشعراء الشام!

أما بعد فللرسالة علينا حق لا نستطيع إيفاءه. هذا الحق خالط الدم والنفس. فإن جاءها قارئ برأي فإنما يميل إلى أم روحه ليفض في أحضانها صدره، وقد عن لي - على كساد القريحة - أن أكتب شيئاً في هذا الموضوع النقدي - وأنا لا أجرؤ فأسميه نقداً. . وإنما هو شيء أميل به إلى ظلال الرسالة.

والشكر كل الشكر للمعداوي. . إنني أسمع صوته يحث قلمي كما يعين طفلاً يحبو على المشي. . نشكره على الرفق بالقراء وقربه منهم هذا القرب الصديق، وسعيه إليهم هذا السعي الحاني.

سيدي الأستاذ: إن السيد ميشال صاحب الجائزة، فلو قسمت لغيره فسوف يحزنني - ورب الكعبة - ذلك ويغمني. ونحن الآن نتحرق شوقاً وانتظاراً لرأيك الفيصل. . رأي النابغة!

(الخرطوم) - وزارة المالية

محمد المهدي مجذوب

عندما قدمت تلك المباراة الشعرية إلى القراء في عدد مضى من الرسالة، كنت أرمي بها إلى شحذ القرائح واختبار الأذواق.

وكنت أبغي من ورائها أن ألهب الملكات الناقدة لأظفر بالناقد الموهوب؛ ناقد الشعر الذي يتذوق اللفظة الموحية، ويقف عند الصورة الملهمة، ويحلق مع الخيال الطليق. كنت أريد هذا كله وأهف إليه، لأحرك الخواطر الخابية حين أوفر لها عناصر الحركة، وأثير المشاعر الغافية حين أهيئ لها مصادر الإثارة. . وعلى هذا الأساس جعلتها مباراة نقدية!

تدفقت رسائل القراء من هنا وهناك، حتى بلغ عددها خمساً وسبعين رسالة. . وكما أرسلت الذوق وراء كل بيت في المباراة الشعرية، وحشدت الفكر خلال كل مقطوعة، لأحكم للفائز الأول من الشعراء؛ فقد أطلت الوقوف عند كل رسالة في المباراة النقدية، وأقمت الميزان لكل ملكة، لأقدم الفائز الأول من النقاد. وانتهت إلى أن عدالة التقدير تفرض علي اختيار هذه الرسالة للنشر، وجدارة صاحبها بالسبق. . وهو الأستاذ الشاعر محمد المهدي مجذوب!

كانت هي خير رسالة لا مراء، وكان هو خير ناقد بلا جدال. ولا أزعم أني أرضى عن هذا الناقد كل الرضا أو أطمئن إلى ذوقه كل الاطمئنان، لأن مدار التفضيل هنا مقصور على مدى التفاوت بينه وبين غيره من النقاد. إنه يفترق عنهم في رهافة إحساسه بظلال اللفظة الشعرية، فهو من هذه الناحية صاحب لفتة واعية. ولكن الذي لا يرضيني منه هو هذا المنظار الذي يركز (الرؤية النقدية) في لفظ بعينه أو مجموعة من الألفاظ تجتمع في مكان، ثم يترتب على هذا التركيز أن تبدو الصور الفنية القريبة من العدسة واضحة لعينيه، وأن تبدو الصور البعيدة عن هذه العدسة مغلقة بطبقات من الضباب، تحول بين صاحب المنظار وبين الرؤية الصادقة في بعض الأحيان! أريد أن أقول إن الأستاذ مجذوب حين أعجب بهذا الشعر الذي يفضله، كان أشبه بالمصور الفوتوغرافي الذي سلط أضواء المغنيسيوم على مشهد واحد ووجه مقدمة الكاميرا إلى زاوية واحدة، فظهرت المشاهد الأخرى وهي باهتة الظلال حائلة الألوان. . أقصد أنه لو عنى بتوزيع الضوء على المشاهد المختلفة عند الشعراء الأربعة، لوقعت عنياه على كثير من الإشعاعات اللفظية المتوهجة في أفق آخر غير أفق ميشال معلوف، هذا الشاعر الذي لم يسمح الناقد لعينيه أن تتحولا عن أفقه لتحلق في غيره من الآفاق. . . إن الذي يعجب بلون الورد يا سيد مجذوب، لا يحق له أن يغفل عن لون الفل والبنفسج وزهور القرنفل واللبنسيه!

بعد هذا أحب أن أقول لهذا الناقد الذي يهزني منه خفة الظل وعذوبة الروح، إنني لا أتهم ذوقك حين تقف إلى جانب ميشال لأنه خيال محلق وجناح رفاف، ولكنني أتهم هذا الذوق حين يفطن إلى مواطن الجمال عند هذا الشاعر ثم لا يفطن إلى أمثالها عند غيره من الشعراء. . . إن الذي آخذه عليك هو أنك شغلت في رحابه عن أن تلتفت إلى سواء، وسرت في ركابه حتى أهملت من عداه! وهذا هو العيب الذي وقع فيه كل من اشترك في المباراة النقدية من النقاد، هؤلاء الذين رفع نصفهم شعر شاهين إلى قمة المجد وهبط بشعر الباقين إلى الحضيض، وأقدم نصفهم الأخير على مثل ما أقدم عليه نصفهمالأول بالنسبة إلى شعر فوزي المعلوف. . . مهما يكن من شيء فقد كانت رسالتك هي الرسالة الوحيدة التي انتصفت لشعر ميشال وهو جدير بالإنصاف؛ كانت الوحيدة من بين خمس وسبعين. وحسبك مثل هذه الشخصية الاستقلالية في ميدان النقد الأدبي!

إن الأستاذ مجذوب يشفق من أن أحكم بالسبق لشاعر آخر غير هذا الذي حكم له، ويجهر بأن مثل هذا الحكم سيغمه - ورب الكعبة - ويحزنه!! ألا يرى الأستاذ مجذوب أنه قد بلغ حداً كبيراً من الطمع حين يريدني على أن أحكم لشاعره المفضل بالسبق على غيره من الشعراء، بعد أن حكمت له بالسبق على غيره من النقاد؟! مهما يكن من شيء فإن إعجابي بشعر ميشال سيخفف من حدة هذا الغم ويلطف من شدة هذا الحزن. وموعدنا العدد المقبل أو العدد الذي يليه، حيث أعرض بالنقد المفصل لتلك المباراة الشعرية، معرجاً على بعض المآخذ في نقد الأستاذ مجذوب، حاكما للفائز الأول بما يرضي الحق والنقد والضمير.

وتبقى بعد هذا كله إشارة الأستاذ الفاضل إلى شعرائنا وشعراء الشام. أتريد مقارنة؟ أرجو أن تنظر في شعر على محمود طه، وأن تعيد النظر فيما كتبته عنه من فصول، ثم قارن أنت. . . قارن بينه وبين شعر أبو ماضي، أو بينه وبين شعر أبي شبكة، أو بينه وبين شعر أبي ريشة، ثم ابعث إلي برأيك الموجز أو برأيك المفصل، مقاماً على مثل تلك الأسس النقدية التي أقمت عليها رأيي في شعر على محمود طه، وأنا أستعرض شتى الملكات الشعرية عند هذا الشاعر الفنان. . . وعندئذ سأوافيك وأوافي القراء بما شئت من مقارنات!

أما عن قصيدتك (ذات مساء) فهي شعر شاعر. . وسننشرها في عدد مقبل من الرسالة إن شاء الله.

لحظات مع أوسكار وايلر:

لما كنت أعرف أن الصفحات المخصصة لكم من الرسالة الغراء، مقصورة على الأمور الأدبية والمسائل الفنية؛ لما كنت أعرف ذلك لم أتردد في أن أسألكم شيئاً من التعقيب على ما عرض لي أثناء مطالعتي لقصة (دوريان جراي) وأنا أكتب هذه الكلمات بعد تأمل لم يتمخض عن نتيجة مرضية، وبخاصة لما في آراء كاتبها الكبير من شذوذ عجيب وتخريج غريب، ونظر للأمور ومسائل الحياة من جهات مغايرة ومنظار مخالف. . بيد أنني لا أشك في أن الآراء والنظرات مهما كانت ممعنة في الشذوذ مسرفة في التطرف، لا أشك في أن يكون لتلك الآراء والنظرات مرتكز ترتكز عليه أو تفسير يرجع إليه. . ولهذا كتبت إليكم راجيا أن تظهروا لي خبئ ما عز علي تفسيره، وأن تجلوا ما لم أرتح إلى إحاطتي به، وإليكم بعض النماذج من خواطره وأفكاره: (الحب مسألة فسيولوجية لا دخل لها في الإرادة، ولذلك فأنت ترى الشباب يحاولون الوفاء فلا يستطيعون، وترى الشيب يحاولون الخيانة فلا يستطيعون)!. . (الفن الخيالي يبدأ حيث يجب أن ينتهي)!. . (الجبن والضمير اسمان لمدلول واحد، وكل ما هنالك أن الضمير هو الاسم الرسمي، الماركة المسجلة على حد قولهم)!. . (الفرق الوحيد بين النزوة العارضة والعاطفة الدائمة، هو أن النزوة العارضة أطول عمراً من العاطفة الدائمة)! ألا ترون أن لمثل هذه الآراء خطرها الكبير على المجتمع وشرها المستطير على الأخلاق؟. ولكم خالص الشكر والتقدير.

(عمان - شرق الأردن)

يوسف. ب

من الغريب أنني حين فضضت غلاف هذه الرسالة وبدأت أقرأ ما جاء بها من كلمات، كان يجلس إلى جانبي مترجم هذه القصة وهو الأستاذ لويس عوض المدرس بجامعة فؤاد الأول. . وارتسمت على شفتي ابتسامة عريضة وأنا أدفع إليه برسالة الاحتجاج الأردنية قائلا له: أجب يا أستاذ! كيف تترجم للناس قصة من شأنها أن تهز معايير القيم وتزلزل مكارم الأخلاق؟! وقال الأستاذ المترجم بعد أن فرغ من قراءة الرسالة في شيء من الإنكار: أو تعتقد هذا حقا؟ إنني أترك لك الجواب!

وهذا هو جوابي عما جاء برسالة الأديب الفاضل: إذا رأيت شيئا من الشذوذ في الأدب أو شيئا من الانحراف في الفن، فعليك أن ترد الشذوذ والانحراف إلى أثر (البيئة المعنوية) في نفس الأديب أو شعور الفنان. . هذه البيئة المعنوية التي أحاطت بحياة أوسكار وايلد هي التي طبعت عقله بهذا الطابع الفكري، ولونت مشاعره بهذه الألوان النفسية. لقد عاش أوسكار وايلد في بيئة منحلة وتنفس في أجواء موبوءة. . كان يحلم بالقيم فتبخرت من حوله القيم، وكان يتطلع إلى المثل فتبددت من حوله المثل، وكان يحاول أن يزن الأمور بميزانها الصحيح في وقت اختلت فيه شتى الموازين! من هنا نشأ الكاتب الكبير ساخطا على الدنيا ثائرا عن الناس، ساخرا من الأوضاع المألوفة والتقاليد الموروثة، حتى غدت أكثر القيم الخلقية والإنسانية وهي في رأيه مجموعة من (الاصطلاحات). . تلك التي (يتعامل) بها المجتمع لأغراض وغايات!!

الحب مسألة إرادية؟ هذا (اصطلاح) زائف. . إنه مسألة فسيولوجية! الضمير المثالي؟ هذا (اصطلاح) فاسد. . إنه سلاح الجبناء! الفن الخيالي؟ هذا (اصطلاح) فاشل. . إنه أداة العاجزين! النزوة العارضة والعاطفة الدائمة؟ إنهما (اصطلاحان) يفسرهما كل فريق حسب هواه! وهكذا تجد أوسكار وايلد، كافرا بكل ما تعارف عليه الناس، لا يكاد يؤمن إلا بهذا الذي تعارف عليه بينه وبين نفسه. وهذه هي (الواقعية النفسية) التي تجاوبت أصداؤها في أعماق ذاته، منعكسة على وجهات نظره من واقعية المجتمع الذي عاش فيه، والمجتمع وحده هو المسؤول عما أصابه من شذوذ وانحراف!

هذا هو التفسير الذي يمكن أن يرجع إليه الأديب الفاضل حين تعترضه أمثال هذه الآراء المنحرفة في قصة (دوريان جراي) أما عن خطرها الكبير على المجتمع وشرها المستطير على الأخلاق فأود أن أقول له: هون عليك! ألا تخشى على المجتمع الشرقي مما يسري في كيانه من فنون المحرمات وضروب الموبقات، ثم تخشى عليه من كلمات لأوسكار وايلد؟! أو كذلك أن مجتمعنا الشرقي قد بلغ من الفساد والتأخر والانحلال، ما جعل الكثيرين من أبنائه يجدون أنفسهم في كلمات الكاتب الكبير. . ومع ذلك فإن البقية الباقية من أصحاب المثل العليا والخلق القويم، لا يمكن أن تنحرف عن طريقها في الحياة ولو امتلأ هذا الطريق بنوافث السموم!!

بعض الرسائل من حقيبة البريد:

قلت وما زلت أقول: إنني أوثر أن ألقى الذين يكتبون إلى في وضح النهار. . . ولهذا أرجو أن يكشف هؤلاء القراء عن أسمائهم، حتى أستطيع أن أرد على رسائلهم هنا أو في رسائل خاصة: الأديب (م) بالمدينة المنورة، والأديب (ع. ص) بدمشق، والأديب (ف. ش) ببغداد، والأديب (ابن العميد) ببيروت، والأديب (هـ. س. أ) بقنا. . ولهم جميعاً خالص الشكر على وفائهم للخلق والعقل، مع صادق التحية والتقدير.

أنور المعداوي