مجلة الرسالة/العدد 91/تاريخ يتكلم. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 91/تاريخ يتكلم. . .

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1935


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أيعرف القراء أن في الأحلام أحلاماً هي قصص عقلية كاملة الأجزاء محكمة الوضع متسقة التركيب بديعة التأليف، تجعل المرء حين ينام كأنه أسلم نفسه إلى (شركة من الملائكة)، تسيح به في عالم عجيب كأنما سحر فتحول إلى قصة؟

إن يكن في القراء من لا يعلم هذا فليعلمه مني؛ فإني كثيراً ما أكتب وأقرأ في النوم، وكثيراً ما يلقى علي من بارع الكلام، وكثيراً ما أرى ما لو دونته لعد من الخوارق والمعجزات

وهذهالقصة التي أرويها اليوم، كانت المعجزة فيها أني مشيت في التاريخ كما أمشي في طريق ممتدة؛ فتقدمت إلى أهل سنة 395 للهجرة وما يليها، فعشت معهم وتخبرت من أخبارهم، ثم رجعت إلى زمني لأقص ما رأيته على أهل سنة 1353. . .

أمسيت البارحة كالمغموم في أحوال ثقيلة على النفس ما تنطلق النفس لها، أولها سوء الهضم، ومتى كان البدء من هنا لم تكن الحركة في النفس إلا دائرة، تذهب ما تذهب ثم لا تنتهي إلا في سوء الهضم عينه. فجلست في الندى الذي أسمر فيه أحياناً، فكان لجوه وزن أحسسته كما يحس الغائص في الماء ثقل الماء عليه؛ ودخنت الكر كرة فلم تكن هواء ودخاناً يتروح، بل كانت من ثقلها كالطعام يدخل على الطعام؛ ونظرت ناحية فأخذت عيني رجلاً فيلي الخلقة، منطاد البطن، كأنما نفخ بطنه بالآلات، يحمل منه مقدار أربعة من بطون البدينات الحوامل، كل منهن في الشهر التاسع من حملها. . .؛ وكان معي إلى كل هذا البلاء خمس صحف يومية أريد قراءتها. . .!

ثم جئت إلى الدار، والمعركة حامية في أعصابي؛ وما كان سوء الهضم منومة فيدعو إلى النوم، فدخلت بيت كتبي وأردت كتاباً أي كتاب تناله يدي، فخرج لي كتاب في خرافات الأولين وأساطيرهم وهذيانهم وسوء هضمهم العقلي. . كالكلام أدونيس وأرطاميس وديونيس وسميراميس وإيسيس وأتوبيس وأثرغتيس. . . فاستعذت بالله وقلت: حتى الكتب لها في هذه الليلة أعصاب قد نالتها الثقلة والألم.؟

وبات الليل يقظان، وبقيت متململاً أتقلب حتى أخذ الصداع في رأسي، فانقلب التعب نوماً، وجاء من النوم تعب آخر، وقذفت إلى عالم الأحلام في قنبلة، تستقر بي حيث تريد لا حيث أريد:

ورأيتني في قوم لا أعرف منهم أحداً، قد اجتمعوا جماهير، وسمعت قائلاً منهم يقول: (الساعة يمر مولانا العالي) فقلت لمن يليني: (من يكون مولانا العالي؟) قال: (أو أنت منهم؟) قلت (ممن؟) فألهاه عن جوابي تشوف الناس وانصرافهم إلى رجل أقبل راكباً حماراً أشهب؟ فصاحوا: (القمر القمر) ورفع الرجل الذي يناكبني صوته يقول: (البركات والعظمات لك يا مولانا العالي!)

قلت: (إنا لله! لقد وقعت في قوم من الزنادقة، يعارضون (التحيات والصلوات والطيبات لله)؛ ثم مر صاحب الحمار بحذائي، وغمزه الرجل علي، فقال: (ما بالك لا تقول مثله؟) قلت: أعوذ باله من كفر بعد إيمان؛ فكأنما أراد أن يلطمني فرفع يده، فصحت فيه: (كما أنت ويلك وإلا قبضت عليك وأسلمتك للبوليس، وشكوتك إلى النيابة، ورفعتك إلى محكمة الجنح!)

قال: (ماذا أسمع؟ الرجل مجنون فخذوه!) وأحاط بي جماعة منهم، ولكنه ترجل عن حماره واخذ بيدي ومشينا، فقلت: (من أنت يا هذا؟) قال: (أراك من غير هذا البلد؛ أما تعرف الحاكم بأمر الله؟ فأنا هو.) قلت: (انظر ويحك ما تقول؛ فما أظنك إلا ممروراً؛ لقد كتبت أمس كتاباً إلى مجلة (الرسالة) أرخته 13 ذي الحجة سنة 1353 و18 من مارس سنة 1935، وأرسلت به مقالة (الخروفين. . .)

قال: ماذا اسمع؟ نحن الآن فيسنة 395؛ فالرجل مجنون، أو لا فأنت أيها الرجل من معجزاتي. لقد جئت بك من التاريخ وتكتب، ثم تعود إلى التاريخ فتكون من معجزاتي، وتقص عني وتشهد لي. . .!)

قلت: (فإني أعرف أعمالك إلى أن قتلت في سنة 411. . .!)

قال: (أو إله أنت، فتخلق ست عشرة سنة بحوادثها؟ لقد كدت من أفنك وغباوتك تفسد على دعوى المعجزة!)

وهاج الصداع في رأسي، وبلغ سوء الهضم حده، واشتبكت سينات إيسيس وأتوبيس الخ بسين إبليس، ومرت بين كل هذا حوادث الطاغية المعتوه المتجبر، فرأيته يبتدع في كل وقت بدعاً، ويخترع أحكاماً يكره الناس على أن يعملوا بها، ويعاقبهم على الخروج منها ثم يعود فينقض أمره، ويعاقب على الأخذ به، كأن الذي نقض غير الذي أبرم، وكأنه حين يتبلد فيعجزه أن يخترع جديداً - يجعل اختراعه إبطال اختراعه!

ورأيته كأنما يعتد نفسه مخ هذه الأمة، فلابد أن يكون عقلاً لعقولها، ثم لابد أن يستعلي الناس ويستبد بهم استبداد الشريعة في أمرها ونهيها، فكانت أعماله في جملتها هي نقض أعمال الشريعة الإسلامية، وظن أنه مستطيع محو ذلك العصر من أذهان الناس وقتل التاريخ الإسلامي بتاريخ قاتل سفاك

وسول له جنونه أن خلق تكذيباً للنبوة؛ ثم افرط عليه الجنون فحصل في نفسه أنه خلق تكذيباً للألوهية. وفي تكذيبه للنبوة والألوهية يحمل الأمة بالقهر والغلبة على ألا تصدق إلا به هو؛ وفي سبيل إثباته لنفسه صنع ما صنع، فجاء تاريخه لا ينفي ألوهية ولا نبوة، بل ينفي العقل عن صاحبه؛ وجاء هذا التاريخ في الإسلام ليتكلم يوماً في تاريخ الإسلام. . .

رأيتني أصبحت كاتباً لهذا الحاكم، فجعلت أشهد أعماله وأدون تاريخه وأقبلت على ما أفردني به، وقلت في نفسي: (لقد وضعتني الدنيا موضعاً عزيزاً لم يرتفع إليه أحد من كتابها وأدبائها، فسأكتب عن هذا الدهر بعقل بينه وبين هذا الدهر 968 سنة صاعدة في العلم

ودونت عشرة مجلدات ضخمة انتهيت وأنا أحفظها كلها، فإذا هي جمل صغيرة، جعل الحلم كل نبذة منها سفراً ضخماً كما يخيل للنائم أنه عاش عمراً طويلاً وأحدث أحداثاً ممتدة، على حين لا تكون الرؤيا إلا لحظة

وهذه هي المجلدات التي قلت: إن التاريخ يتكلم بها في التاريخ. . .

المجلد الأول

ابتلى هذا الطاغية بنقيصتين: إحداهما من نفسه والأخرى من غيره؛ فأما التي من نفسه فإني أراه قد خلق وفي مخه لفافة عصبية من يهودية جده رأس هذه الدعوة؛ فهو الحاكم بن العزيز بن المعز بن القاسم بن المهدي عبيد الله، ويقولون إن عبيد الله هذا كان ابن امرأة يهودية من حداد يهودي، فاتفق أن جرى ذكر النساء في مجلس الحسين بن محمد القداح فوصفوا له تلك المرأة اليهودية، وأنها آية في الحسن، وكان لها من الحداد ولد، فتزوجها الرجل وأدب ابنها وعلمه، ثم عرفه أسرار الدعوة العلوية وعهد إليه بها من بعض اللفائف العصبية في المخ ما ينحدر بالوراثة مطبوعاً على خيره أو شره، لا يد للمرء فيه ولا حيلة له في دفعه أو الانتفاء منه، فيكون قدراً يتسلسل في الخلق ليحدث غاياته المقدورة، فمتى وقع في مخ إنسان فالدنيا كالحبلى ولابد أن تتمخض عنه

هذه اللفافة اليهودية في مخ هذا الطاغية ستحقق به قول الله تعالى: (لتَجدَنّ أشَدّ الناس عداوةً للّذين آمنُوا اليهود.) فهو لن يكون العدو للإسلام دون أن يكون الأشد في هذه العداوة، ولن يكون فيها الأشد حتى يفعل بها الأفاعيل المنكرة. وما أرى هذه المآذن القائمة في الجو إلا تخرق بمنظرها عينيه من بغضه للإسلام وانطوائه على عداوته؛ فويل لها منه!

وأما النقيصة الثانية فقد ابتلي بقوم فتنوه بآرائهم ومذهبهم، وهم حمزة بن علي، والأجرم، وفلان، وفلان. . . وقد لفقوا للدنيا مذهباً هو صورة عقولهم الطائشة، لا يجيء إلا للهدم، ثم لا يضع أول معاوله إلا في قبة السماء ليهدمها. . .! ولو أنا جمعت هذا المذهب في كلمة واحدة لقلت: هو حماقة حمقاء تريد إخراج الله من الوجود لإدخال الله في بعض الطغاة!

ويتلقبون في مذهبهم بهذه الألقاب: العقل، الإرادة، الإمام، قائم الزمان، علة العلل. . .! وهذه هي الشيوعية بعينها، تعمل على هدم فكرة الألوهية وإلحاقها بالخرافة؛ كأن القائم بهذا المذهب هو عقل الناس وإرادتهم، كرهوا أم رضوا، فلا إرادة لهم معه ولا عقل، وهو الزمن فيصبغ الزمن بما شاء، ويجعله كيف شاء، لأنه به وعلة العلل في سياسته وتدبيره

شيوعية آثمة، كبرت في حماقتها أن تقوم بجنون واحد، فلا تقوم إلا باثنين معاً: جنون العقل، وجنون السيف!

المجلد الثاني

أظهر الطاغية أن الله يؤيد به الإسلام، ليتألف الجند والشعب ويستميلهم إليه، وكان في ذلك لئيم الكيد دنيء الحيلة يهودي المكر. فأمر المدارس للفقه والتفسير والحديث والفُتْيا، وبذل فيها الأموال، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، وبالغ في إكرامهم والتوسعة عليهم والتخضع لهم، ودخل في ظلال العمائم. . . وأحضر لنفسه فقهين مالكيين (اثنين لا واحد) يعلمانه ويفقهانه، وكان أشبه بمريد مع شيخ الطريقة يتسعد به ويتيمن؛ أشرف ألقابه أنه خادم العمامة الخضراء، وأسعد أوقاته اليوم الذي يقول له فيه الشيخ: رأيتك في الرؤيا ورأيت لك. . .! وكانت هذه المعاملة الإسلامية الكريمة من هذا الطاغية - هي بعينها ربا اللفافة اليهودية في مخه؛ تصلح بإقراض مائة، وفيها نية الخراب بالستين في المائة. .! فإنه ما كاد يتمكن من الناس ويعرف إقبالهم عليه وثقتهم به، حتى طلبت اللفافة رأس المال والربا؛ فأمرهم بهدم تلك المدارس وإخرابها، وأبطل العيدين وصلاة الجمعة، وقتل الفقهاء وقتل معهم فقيهيه وأستاذيه، وعاد كالمريد المنافق مع شيخ الطريقة، يقول في نفسه: إن هناك ثلاثة تعمل عملاً واحداً في الصيد: الفخ، والعمامة، واللحية. . .!

إن هذا الطاغية ملك حاكم، يستطيع أن يجعل حماقته شيئاً واقعاً، فيقتل علماء الدين بإهلاكهم، ويقتل مدارس الدين بإخرابها، ولو شاء لاستطاع أن يشنق كل ذي عمامة من سواد المسلمين في عمامته. ويبلغ من كفره أن يتبجح ويرى هذا قوة ولا يعلم أنه لهوانه على الله جعله الله كالذبابة التي تصيب الناس بالمرض، والبعوضة التي تقتل بالحمى، والقملة التي تضرب بالطاعون، فلو فخرت ذبابة أو تبجحت قملة أو استطالت بعوضة لجاز له أن يطن طنينه في العالم. وهل فعل أكثر مما تفعل؟

لقد أودي بأناس يقوم إيمانهم على أن الموت في سبيل الحق هو الذي يخلدهم في الحق، وأن انتزاعهم بالسيف من الحياة هو الذي يضعهم في حقيقتها، وأن هذه الروح الإسلامية لا يطمسها الطغيان إلا ليجلوها

إنه والله ما قتل ولا شنق ولا عذب، ولكن الإسلام احتاج في عصره هذا إلى قوم يموتون في سبيله، وأعوزه ذلك النوع السامي من الموت الأول الذي كان حياة الفكر ومادة التاريخ، فجاءت القملة تحمل طاعونها. . .!

لقد أحياهم في التاريخ، أما هم ققتلوه في التاريخ، وجاءهم بالرحمة من جميع المسلمين، أما هم فجاءوه باللعنة من المسلمين جميعاً!

المجلد الثالث

يرى هذا الطاغية أن الدين الإسلامي خرافة وشعوذة على النفس، وأن محو الأخلاق الإسلامية العظيمة هو نفسه إيجاد أخلاق، وأن الإسلام كان جريئاً حين جاء فاحتل هذه الدنيا؛ فلا يطرده من الدنيا إلا جراءة الشيطان كالذي توقح على الله حين قال: (فَبعزَّتكَ لأُغْويَنَّهُمْ أجمعين.) ولهذا أمر الناس بسب الصحابة، وأن يكتب ذلك على حيطان المساجد والمقابر والشوارع!

أخزاه الله! أهي رواية تمثيلية يلصق الإعلان عنها في كل مكان؟ لو سمع لسمع المساجد والمقابر والشوارع تقول: أخزاه الله. . .!

المجلد الرابع

هذا الفاسق لا يركب إلا حماراً أشهب يسميه: (القمر)، وقد جعل نفسه محتسباً لغاية خبيثة؛ فهو يدور على حماره هذا في الأسواق ومعه عبد أسود، فمن وجده قد غش أمر الأسود فـ. . .! ووقف ينظر ويقول للناس: انظروا. . .! ومن غلبة الفسوق على نفسه وعلى شيعته أن داعيته (حمزة بن علي) نوه بالحمار في كتابه وأومأ إليه بالثناء، لخصال: منها أن. . .! وكتب حمزة هذا في بعض رسائله: أن ما يرتكبه أهل الفساد بجوار البساتين التي يمر بها (الفاسق) من المنكر والفحشاء - إنما يُرتكب في طاعته. . .!

هذه طبيعة كل حاكم فاسق ملحد، يرى في نفسه رذائله عريانة فلا يكون كلامه وعمله وفكره إلا فحشاً يتعرى؛ وإن في هذا الرجل غريزة فسق بهيمية متصلة بطور الحيوان الإنساني الأول؛ فما من ريب أن في جسمه خلية عصبية مهتاجة، ما زالت تسبح بالوراثة في دماء الأحياء، متلففة على خصائصها حتى استقرت في أعصاب هذا الفاسق، فانفجرت بكل تلك الخصائص

ولست أرى أكثر أعماله ترجع في مردها إلا إلى طغيان هذه الغريزة فيه؛ فهو يحاول هدم الإسلام، لأنه دين العفة، ودين صون المرأة، يلزمها حجاب عفها إبائها، ويمنعها الابتذال والخلاعة، ويعينها أن تتخلص ممن يشتهيها ولو كان الحاكم. . . إنه يمقت هذا الدين القوي كما يمقت اللص القانون؛ فهو دين يثقل على غريزته الفاسقة، ولكل غريزة في الإنسان شعور لا مهنأ لها إلا أن يكون حراً حتى في التوهم؛ وهل يعجب السكير شيء أو يرضيه أو يلذه كما يعجبه أن يرى الناس كلهم سكارى، فينتشي هو بالخمر، وتسكر غريزته برؤية السكر

وما زال رأي الفساق في كل زمن أن الحرية هي حرية الاستمتاع، وأن تقييد اللذة إفساد للذة

المجلد الخامس يزعم الطاغية أنه يعز قومه - وما أراه يعزهم - ولكنه يمتحن ذلهم وضعفهم وهوانهم على الأمم؛ فهو يتجزأ شيئاً فشيئاً منتظراً ما يتسهل مترقباً ما يمكن؛ وهو يرى أن أخلاقنا الإسلامية هي أمواتنا دفنوا أنسهم فينا؛ فمن ذلك يهدم الأخلاق ويظن عند نفسه أنه يهدم قبوراً لا أخلاقاً

ولقد سخر منه المصريون بنكتة من ظرفهم البديع، وجاءوه من غريزته فصنعوا امرأة من الورق الذي يشبه الجلد، وألبسوها خفها وإزارها، حتى لا يشك من رآها أنها آدمية، ثم وضعوا في يدها قصة وأقاموها في طريقه؛ فلما رآها عدل إليها وأخذ من يدها القصة وقرأها، فإذا فيها سب له ولآبائه، وسخرية من جنونه ورعونته المضحكة؛ فغضب وأمر بقتل المرأة؛ فكانت هذه سخرية أخرى حين تحقق أنها من الورق، وأخذته النكتة الظريفة بمثل البرق والرعد؛ فاستشاط وأمر عبيده من السودان بتحريق الدور لا ونهب ما فيها وسبي النساء والفجور بهن؛ حتى جاء الأزواج يشترون زوجاتهم من العبيد بعد أن طارت الزوبعة والسوداء في بياض الأعراض

اندلعت ثورة الفجور في المدينة، لا من العبيد، ولكن من الحيوان العتيق المستقر في هذا الطاغية

المجلد السادس

وهذه رعونة من أقبح رعوناته، كأن هذا الحيوان لا يحسب نساء لأمة كلها إلا نساءه، فيأمرهن بأمر امرأته، وكأن النساء في رأيه هن إلا استجابات عصبية تطلق وترد

إن لموجة الفسق في الغريزة الطاغية جزراً ومداً يقعان في تاريخ الفساق؛ فهذا الطاغية قد جزرت فيه الموجة، فأمر أن يمنع النساء من الخروج ليلاً ونهاراً، لا تطأ أرض المدينة قدم امرأة؛ وأمر الخفافين ألا يصنعوا لهن الأخفاف والأحذية؛ ولما علم أن بعض النساء خرجن إلى الحمامات هدم الحمامات عليهن!

ولو مدت الموجة في نفس الفاسق لفرض على النساء الخروج والاتصال بالرجال والتعرض للإباحة

إن الصلاح والفساد كلاهما فساد، ما لم يكن الصلاح نظافة في الروح وسمواً في القلب المجلد السابع

يزعم الطاغية أنه سيهدم كل قديم، وإني لأخشى والله أن يأمر الناس في بعض سطوات جنونه؛ أن كل من كان له أب أو أم بلغ الستين فليقتله لتخلص الأمة من قديمها الإنساني. . .!

كأنه لا يعرف أنه إنما يتسلط على أيام معاصريه لا على التاريخ ويحكم على طاعة قومه وعصيانهم لا على قلوبهم وطباعهم وميراثهم من الأسلاف؛ فما هو إلا أن يهلك حتى ينبعث في الدنيا شيئان: نتن رمته في بطن الأرض؛ ونتن أعماله على ظهر الأرض إن هذا الرجل المسلط كالغبار المستطار، لا يكنس إلا بعد أن يقع. . .

ولقد رأى المأفون أن أكل الناس الملوخيا الخضراء والفقاع، والترمس والجرجير، والزبيب والعنب - هوى قديم في طباع الناس فنهى عن كل ذلك، لا يباع ولا يؤكل، وظهر على أن جماعة باعوا أشياء منها فضربهم بالسياط، وأمر فطيف بهم في الأسواق، ثم ضرب أعناقهم؛ كأن الذي يحمل الملوخيا الخضراء على رأسه ليبيعها يلبس عمامة خضراء. . .

أهذا - ويحه - تجديد في الأمة، أم تجديد في المعدة. . .؟

المجلد الثامن

لا يرضى الطاغية إلا أن يمحق روحانية الأمة كلها، فلا يترك شيئاً روحانياً يكون له في أعصاب الناس أثر من الوقار. وبمن يستظهر إذا محقت روحانية الأمة وأشرفت نزعتها الدينية على الانحلال؟ كأنه لا يعلم أن حقيقة الوجود لأمة من الأمم إنما تستمد من إيمانها بالمثل الأعلى الذي يدفعها في سلمها إلى الحياة بقوة، كما يدفعها في حربها إلى الموت بقوة؛ وكأنه لا يعلم أن التاريخ كله تقرره في الأرض بضعة مبادئ دينية

هذا الحاكم الأخرق هو عندي كالذي يقول لنفسه: لم أستطع أن أفتح دولة، فلأفتح دولة في مملكتي. . . لقد أمر بهدم الكنائس والبيع، حتى بلغ ما هدم منها ثلاثين ألفاً ونيفاً

أي مجنون أسخف جنوناً من هذا الذي يحسب النفوس الإنسانية كالأخشاب؛ تقبل كلها بغير استثناء أن تدق فيها المسامير. . .؟

سيعلم إذا نشبت حرب بينه وبين دولة أخرى، أنه كسر أشد سيوفه مضاء حين كسر الدين! المجلد التاسع

هذه الطامة الكبرى؛ فلا أدري كيف أكتب عنها: لقد تطاول المجنون إلى الألوهية فادعاها وصار يكتب عن نفسه: باسم الحاكم الرحمن.!

لو كان أغبى الأغبياء في موضعه لاتقى شيئاً، لا أقول تقوى الدين والضمير، ولكن تقوى النفاق السياسي؛ فكان يحمل الناس أن يقولوا عنه: (أبانا الذي في الأرضين. . .!)

وإلا فأي جهل وخبط وأي حمق وتهور، أن يكون إله على حمار، وإن كان اسم حماره القمر!

المجلد العاشر

سيأخذه الله بامرأة؛ ولكل شيء آفة من جنسه، لقد بلغ من وقاحة غريزته أن ائتفك على أخته الأميرة (ست الملك)، ورماها بالفاحشة وهي من أزكى النساء وأفضلهن، واتهمها بالأمير (سيف الدين بن الدواس) وقد علمت أنها تدبر قتله، وأنها اجتمعت لذلك بسيف الدين. فسأمسك عن الكتابة في هذا المجلد، وأدع سائره بياضاً حتى أذهب إليهما فأعينهما بما عندي من الرأي، ثم أعود لتدوين ما يقع من بعد. . .

ورأيت أني اجتمعت بهما واطمأنا إلي، فأخذنا ندير الرأي: قالت الأميرة لسيف الدين فيما قالته: (والرأي عندي أن تتبعه غلماناً يقتلونه إذا خرج في غد إلى جبل المقطم، فإنه ينفرد بنفسه هناك!)

فقلت أنا: (ليس هذا الرأي ولا بالتدبير)

قالت: (فما الرأي والتدبير عندك؟)

قلت: (إن لنا علماً يسمونه (علم النفس)، لم يقع لعلمائكم، وقد صح عندي من هذا العلم أن الرجل طائش الغريزة مجنونها، وأن الأشعة اللطيفة الساحرة التي تنبعث من جسم المرأة، هي التي تنفجر في مخه مرة بعد مرة؛ فإذا خبت هذه الأشعة، وبطلت الغريزة - بطلت دواعي أعماله الخبيثة كلها وكف عن محاولته أن يجعل الأمة مملوءة من غرائز جسمه وشهواته لا من فضائلها ودينها. فلو أخذتم برأيي وأمضيتموه فإنه سينكر أعماله إذا عرضها على نفسه الجديدة، وبهذا يصلح ما أفسد، وتكون حياته قد نطقت بكلمتها الصحيحة كما نطقت بكلمتها الفاسدة؛ فإذا. . .)

قال الأمير: (فإذا ماذا؟)

قلت: (فإذا خصي. . .)

فضحكت ست الملك ضحكة رنت رنيناً. قلت: (نعم إذا خصي هذا الحاكم. . .) فغلبها الضحك أشد من الأول ورمتني بمنديل لطيف كان في يدها أصاب وجهي فانتبهت وأنا أقوال (نعم إذا خصي هذا الحاكم. . .)

طنطا