مجلة الرسالة/العدد 908/من ذكريات الغربة:
مجلة الرسالة/العدد 908/من ذكريات الغربة:
قصة حشاش
كان تدخين الحشيش في أيامنا الخوالي مقصوراً على صعاليك الناس، يجلبونه في السر، ويدخنونه في الخفاء، ويلوذ بعضهم ببعض في زرائب القرى وخرائب المدن، فراراً من النظرات الجارحة والغمزات المهيمنة، لأنهم كانوا في رأي المجتمع أقل قدراً وأذل نفساً من معاقري الخمر ومتعاطي التبغ؛ فبينما كان الخيال المحايد يصور الكأس جمالا بين يد مترفة ووجه وضئ، والسيجارة جلالا بين يد قوية وثغر جريء، كان يصور الجوزة بقذارة بين يد خشنة وفم بذيء! فلما عمم البوليس تداول الحشيش في كل بيئة، ويسر تناوله على كل طبقة، بفضل مطاردته الدائبة لجالبيه ومهربيه، ومصادرته المستمرة لبائعيه ومحرزيه، أصبحت الكأس لا تلذ إلا معه، والسيجارة لا (تكيف) إلا به؛ وأضحى ذلك الشيء الحقير القذر يصان في حقيبة يد المرأة، وفي حافظة نقود الرجل، وفي محفظة كتب الطالب، وفي درج مكتب الموظف، ولا يسمى الرجل متمدناً ولا متقدماً إلا إذا أخذ منه وأعطى، وأتحِف به وأتحف؛ وأمسى الحشيش والحشاشون في صدر المجتمع وفي عين الدولة، لهم ذكر في الصحف، ومواد في القانون، وقلم في البوليس، ومحكمة في القضاء، ومهربون من حجاج البيت، وموردون من رجال السياسة، ومصدرون من إخوان العروبة! ولا جرم أن هذا الطبل الذي لا يسكن نقره، وذلك المزمار الذي لا ينقطع زمره، هما اللذان جذبا إلى الحشيش النظر، وجعلا للحشاشين والمهربين هذا الخطر! والمحظور منظور، والممنوع متبوع، والإعلان إعلام.
أين من حالهم اليوم حالهم بالأمس؟ كنا لا نراهم إلا في النادر، ولا نسمع بهم إلا في النكت والنوادر. ومن وقع منهم في الرؤية أو في السماع كان موضع النكير والتحقير حتى يتوب أو يموت. اقرأ هذه القصة ثم وازن في نفسك بين حال الحشيش حين كان وازعه الدين والخلق، وحاله حين أصبح وازعه القانون والبوليس:
كانت قريتنا حين وعيت لا تفهم من الحشيش إلا العشب، ولا من الحشاش إلا من يحش البرسيم. وكان ظرفاؤها ممن يغشون المدن يروون لأهلها الأضاحيك عن الحشاشين في القاهرة فيحسبونهم صنفاً من الناس تميزوا بالنكت والحيل والمعارف، حتى طرأ عليه رجل فقير ضرير يلبس الطربوش التركي والعباءة الجوخ والجلباب الصوف، ولكنه كان مقطوع الأسباب، فلا هو سائل فيعيش على الإحسان، ولا هو حافظ فيتكسب بالقرآن. إنما كان رجلا مهذب النفس، حلو الحديث، بارع النكتة، يحسن الغناء، ويجيد النقر على الدف، فأحسنوا لقياه وأكرموا مثواه وأفرد له عمدة القرية حجرة خارج الدور جعل منها دكانه ومجلسه ومضجعه. وكان يختلف إلى هذه الحجرة في كل مساء بعض الشيوخ ممن يحبون غريب السمر، وبعض الشباب ممن يطلبون لهو الحديث. وكان عباس، وهو اسم ذلك الرجل - يتنقل بالجلوس من جد إلى هزل، ومن غناء إلى عزف، فيعجب ويطرب، ولكن أمتع ما فيه كان الدعابة والنكتة: كانت نكته على طريقة (اشمعنى؟) وكانت دعاباته من طريق التورية. وكان يركب بهاتين الطريقتين أو بإحداهما ثلاثة من خلطائه وخلصائه: فقيها أعمى وطحاناً أعشى وفلاحاً أعور، فلا يدري أحد منهم كيف يدفع عن نفسه. كان هؤلاء الثلاثة يبقون إذا انصرف السمار، فيغلق الفلاح الباب، ويوقد الطحان النار، ويهيئ الفقيه الجوزة، ويُعد عباس القرص، ثم يتعاقبون الغابة نفسا بعد نَفس. وكان عباس قد أخبرهم منذ اطمأن إليهم أن هذا هو الحشيش الذي يفتق ذهن الغبي، وينطق لسان الأبكم، ويرهف حس البليد؛ وأنه هو الحشاش الذي تحفظ نكته، وتروى حيله، وتطلب فتواه. فلم يخامرهم شك في قوله، لأنه هو نفسه الدليل على صدقه، فأقبلوا على المدخنة القذرة يأخذونها للشهيق والزفير، ويتركونها للسعال والشخير، حتى أصبحوا مدمنين لا يطيقون صبراً عن الحشيش، ولا يستطيعون بعداً عن عباس. وكان لابد للحشاشين الجدد أن يساجلوا في (القافية) الحشاش القديم. فنجح الأعمى كل النجاح، ووفق الأعشى بعض التوفيق، وأخفق الأعور غاية الإخفاق؛ لأن غباء ذهنه كان أكثف من أن يلطف، وغشاء حسه كان أصفق من أن يرق. ولكنه كان قوي الإيمان بالحشيش فلم يؤمن بالواقع. وأقبل المساء وغصت الحجرة كعادتها بالشبان والأحداث، فلهوا بالحواديت، ثم تساجلوا بالفوازير، ثم تجاوبوا بالمواويل، ثم أخذ عباس يرسل النكتة بعد النكتة فيقهقه لها الحضور، ويرد عليه الفقيه والطحان فتنبلج لردهما الصدور، وتنصب النكت على الفلاح انصباباً فيحاول أن يردها عن نفسه فيغفر فاه، ويرعش رأسه، ويهز يده، ويحاول أن ينطق فتنشب في حلقه الحروف ولا تخرج، ويتردد في صدره الصوت ولا ينطلق، فيسخر منه الجلوس ويتناولونه بالعبث المؤلم فلا يسعه إلا الانصراف. وفي أثناء الطريق تواردت على خاطره شبهات في قدرة الحشيش على حل العقدة من اللسان، ولكنه دفعها بما فعل في الفقيه والطحان، وعزم أن يضاعف المقدار. فلما رجع إلى (غرزة) العباس بعد انصراف الناس كرر الشد، وعمق النفس، وطول النوبة. وفي آخر الليل استعمى رفاقه واختلس قطعة كبيرة من الحشيش، وظل في داره النهار كله يقتطع منها القطعة على قدر حبة الفول، ويذيبها في فنجان من القهوة السادة ثم يجرعها. فعل ذلك مرتين ثم أراد أن يفعل الثالثة فلم يستطع. لقد أخذته حال من الخدر الشديد فصار يأكل ولا يشبع، ويشرب ولا يرتوي، ويتكلم ولا يعي، ويضحك ولا يكف. وكلما رأى أحداً من أهله أو من جيرته قال له بلهجة متلكئة متقطعة متكلفة: أنت تمشي - اشمعنى؟ زي الحمار! أه أه آه! أنت تأكل، اشمعنى؟ زي الغول! أه أه آه! فينظر إليه السامع مشدوهاً ولا يضحك، فيرفع (المسطول) الصوت، ويعيد النكتة، ويردد الضحكة، ولكن المشدوه يظل واجماً ولا ينطق. وفي المساء تحامل الأعور على نفسه حتى بلغ مجلس اللهو، ولم يكد يدخله حتى قال بلهجة المنزل المسطول: أنت يا عباس! فأجابه عباس مبتهجاً: اشمعنى؟ فقال له: أعمى! أه أه آه! وانتظر هو ماذا يقول الناس، وانتظر الناس ماذا يقول عباس، فإذا بالناس يصيحون، وإذا عباس يصيح! أهذه نكتة يا نصف أعمى؟ ثم انفجر بالنكات الساخرة في وجه الحشاش المخدوع حتى ألجأه إلى الخروج فخرج خزيان يهذي. وعاد إلى داره وهو يشعر أنه الليلة خير منه البارحة، لأنه قال على كل حال شيئاً. وكان قد عرف من عباس أين يباع الحشيش فاشترى منه مقداراً كبيراً وأخذ يذيب منه في القهوة ويشرب. وفي كل ساعة من ساعات النهار والليل كان يرتقب وحي الحشيش فلا ينزل، وينتظر ذكاء الحشاش فلا يقبل، فيضاعف المقدار ويزيد الوجبات، حتى هزل جسمه، وشحب لونه، واختل هضمه، واعتل صدره، واضطرب عصبه، وساء خلقه، واعتراه الهمود، ولزمه الوسواس، فصار لا يعمل في غيط ولا بيت، ولا يفكر في زوج ولا ولد، وإنما كان أكثر يومه نائماً، فإذا أفاق هذى بالنكت الباردة والدعابات السخيفة. وفي غشية من غشيات المخدر باح بالسر المكنون فقال وهو يضرب بيده على صدره: أنا الحشاش الأصلي لأنني أشرب الحشيش بالفنجان، وعباس وصاحباه حشاشون مقلدون لأنهم يكتفون منه بالدخان! وتسامع الناس بالسر المفضوح فتحاموا الأعور حتى نفق من الخبال، وقاطعوا الأعمى والأعشى والأعمش حتى هلكوا بالسلال!
أحمد حسن الزيات