انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 908/من أخلاقنا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 908/من أخلاقنا

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1950



ردود الرسائل

للأستاذ محمد رجب البيومي

يتنقل الإنسان في حياته من مكان إلى آخر، ويترك قوما ليحل بين قوم، وفق ما تتطلبه شواغل الحياة. وهو في كل ناحية يقطن بها حينا من الدهر، يتخذ لنفسه أصدقاء يقاسمهم الود ويخلص لهم النصح، وقد يبسط لهم جناح المعونة إن وفقه الله إلى معروف، ثم تمضي الأيام فيجد نفسه مضطرا إلى فراق زملائه ليستأنف عملا جديدا في مكان آخر، فيودعهم ويودعونه حاملا بين أطواء نفسه من الذكريات الطيبة ما يلذ له أن يستعيده بين الفينة والفينة، والإنسان أقوى الحيوانات جميعها على التذكر والاستعادة، فجميع الحيوانات - غيره - تنسى ما يعترضها في الحياة بعد انقضائه بأيام أو أسابيع، أما الإنسان وحده فيحتفظ في مخيلته بذكريات يرجع بها إلى الطفولة والمراهقة مهما امتدت به السن في طريق الحياة فيستطيع أن يسرد لغيره أنباء طال عليها العهد، ولكنها لم تفقد مرآتها الواضحة في خاطره، وقد يسبح به تفكيره فيتمثل إخوانا شاطرهم الود، ولقي منهم المعروف، فيحن إلى ما تقدم من عهودهم الماضية، ثم يدفع به الحنين إلى مراسلتهم والوقوف على أنبائهم، وفي المراسلة تثبيت للمودة على البعد، وتقوية للمحبة على النزوح، فهي تقرب الشاسع، وتقضي مسألة النائي. نظرة فاحصة إلى ما خلفه الأدب العربي في تراثه الثمين من الرسائل الإخوانية تريك العجب العجيب، فقد ازدحمت الموسوعات الأدبية بتحف خالدة من الرسائل، وهي فوق مكانتها العالية في البلاغة والمنطق، تدل على الشعور الطيب الذي حفز أصحابها لتسطيرها وإنشائها، وتنبئ عما منحوه من إخلاص في الحب، وصدق في الوفاء، وإخلاص المرء وسام ناصع يتزين به، فهو الدليل المقنع على مروءته ونبله، كما يبرز للناس معدنه الحقيقي دون بهرجة وتزييف!!

ونحن في عصرنا الحاضر نغرق في أعمالنا المادية إلى آذاننا، ونستهلك أوقاتنا جميعها فيما نأمل منه النفع والكسب، فلا يجد الكثيرون وقتا صافيا للمراسلة في زعمهم. وقد يتطوع بعض من جبلوا على الوفاء والبر، بالسؤال عن أصحابه، فيسطر الصحيفة المخلصة إلى من يصطفيه، وتمضي الأيام فلا يجد ردا يسعفه بأنباء صاحبه، فيسطر رسالة أخرى مبقيا على ما يدخره من محبة وود، فيأبى الرد أن يعود إليه أيضا!! وأنت تعجب حين تسمع من يرددون هذه الشكوى في أسف وحيرة، بل إن العجب ليبلغ منك أقصاه حين تقابل في الطريق من بعثت إليه رسائلك، فيخبرك أنه حظي بقراءتها، وأنس بلقائها، غير أن ظروفه الخاصة لم تمكنه من الرد السريع!! وكأنه لا يجد خمس دقائق يسطر فيها فوق قرطاسه ما يحتمه الواجب الملزم، وإذا كان من الأمور المخجلة أن تحيي زميلك في الطريق تحية عابرة، فلا يرد عليها أجمل رد، فكيف بمن تتذكره على البعد؟ فتسطر إليه أنباءك وتسأله عن أنبائه ثم لا تظفر بعد ذلك بخطاب مريح!!

هذه مشكلة خلقية أليمة. تدل دلالة واضحة على ما يغمرنا من تدابر وتقاطع، وتنبئ عما ينقصنا من يقظة ووعي، وهي كجميع مشاكلنا الاجتماعية ناجمة عن إهمال التعليم الخلقي في محيطنا الشعبي، فنحن في معاملاتنا الشخصية لا نتقيد بحدود واضحة المعالم، بينة الصوى، فندرس الأخلاق دراسة عملية، ونطبقها تطبيقا ملزما واعيا، بل نتقيد بقشور تافهة نقرأها ولا ننقدها في أكثر الأحيان، وأقول - في صراحة - أنه ليست لدينا حدود خلقية، تلقن في المدارس، وتذاع في الصحف، وتتناقل بين الناس، ولكننا نطبع علاقاتنا الاجتماعية بطابع التقليد والمحاكاة، فالصغير يقلد الكبير، والمتأخر يحاكي المتقدم، إذ يعيش معه في محيط واحد، ولا عليه إذا أخطأ بعد ذلك، فقد وقع في الخطأ من يفوقه ويكبره! وحسبك أن تكون زلة الكبير دفاعا ملجما يتقدم به الصغير، وحال كهذه الحال يجب أن تزعزعها العواصف الهوج.

وواضح أن البريد في عهدنا الحاضر قد قطع أبعد أشواطه في ميدان السرعة، حتى ليمكن الإنسان أن يراسل أخاه وراء الأميال الشاسعة. والمسافات القاصية، فتصله الرسالة في اليوم الذي كتبت فيه بأجر لا يقوم له اعتبار، فلم لا نستغل هذه الأداة الطيعة في توثيق العلائق وتقوية الروابط بمجتمع مفكك متدابر. وليت شعري كيف نكون لو تقدم بنا الزمن قرونا عدة، فرأينا العهد الذي يقطع فيه البريد شهورا وأسابيع حتى يقع في متناول صاحبه البعيد، وقد تجد أثناء هذه المدة ظروف تقلب أنباء الرسالة وصاحبها رأساً على عقب، والمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، فإذا قطع صلته الأخوية، بمن أنس إليهم حينا من الدهر، وسعد بلقائهم فترة طويلة، فسيخسر الشيء الجليل. وكثيراً ما أقع في حيرة مخجلة حين يقابلني أحد الزملاء فيسألني عن صديق يعرف ما كان بيني وبينه من الود الأكيد فلا يجدني ملما بأنبائه وأخباره، وكأننا لم نتقابل قبل الآن، أو لطول اجتماع لم نبت ليلة معا - كما قال متمم - وإن أوجه الكلام لتضيق في وجهي حين أهم بإجابة هذا السائل، فماذا عسى أن أقول له؟ أخبره أني راسلته متسائلا عن أنبائه فلم أظفر برد؟ أم أظهر أمامه عاقاً غليظاً فأعلمه إني لم أتصل به منذ فارقته؟ أم أبسط إليه ما يغمر مجتمعنا الخلقي من تقصير وإهمال؟ ترى ماذا يكون؟ وأنت تبحث عن سبيل العذر في تقصير المقصرين فلا تجده بحال، بل إني أعلن للقراء أن هؤلاء لا يتمتعون بضمير حي متيقظ، وأن من لا يرد التحية بأحسن منها جدير أن ينسلخ من ثياب الإنسانية. ولن نرسل الكلام على إطلاقه، فنحن نعلم أن من الرجال من تتزاحم أمامهم الرسائل، وتتكدس فوق مكاتبهم الخطابات، فلا يجدون في فراغهم الضيق ما يكفي للإجابة والتعليق، وهؤلاء في العادة لا يقصرون في حقوق من اتصلوا بهم اتصالا شخصياً، وعرفوهم معرفة وثيقة، وإنما يفرطون في جانب من يشغل فراغه بمراسلة العظماء والموهوبين في غير طائل، وهم معذورون في هذا التفريط إذ عدمت الرابطة الشخصية، وضاق الوقت عن الإجابة المحيطة، فلا تؤاخذهم في ذلك، وإنما تؤاخذ من يقصر في حقك، وقد خالطته بنفسك، وأفضى إليك - يوما ما - برغباته وخلجاته ثم فرق بينكما الزمن، فنسى أمسه، وفرغ ليومه، وتجاهل حقوق المودة! ذلك عيب شنيع.

ونحن نتكلم هنا عن الرسائل الصادقة الخالصة لوجه المودة والوفاء فلا نتحدث عن الرسائل النفعية، التي يقصد بها أصحابها قضاء أرب مادي، أو استغلال نفوذ شخصي، فالسكوت عنها - في بعض الحالات - يجد مبرراته وظروفه، وإن كان الأجدر بصاحب الخلق الرفيع أن يسعى حسب طاقته في نفع أصدقائه، ما لم يؤد به مسعاه إلى ضرر إنسان ما، فإذا لم تسعفه النتيجة المرتقبة، أعلن أمره إلى صاحبه في رسالة صادقة. ورب خطاب رقيق أراح الضمير وأثلج الصدر، وإن لم يعد بالثمرة المشتهاة.

إن من المؤلم حقا أن تنقطع الروابط بين الناس لمجرد ابتعادهم من مكان إلى مكان. ويزيد في الألم أن تكون وسائل الاتصال في متناول اليد دون أن تجد من يحرص عليها، والمرء في خضم الحياة هدف للمشاكل المعقدة، والمعضلات المؤرقة، فهو في حاجة ماسة إلى المشورة والاستفتاء، ومن الطبيعي أن يراسل خلصاءه مستفسرا مستنبئا، فقد يجد لديهم الحل المريح في غير عناء، ومن المضحك أن المرء في أغلب أحواله - كمالك الحزين - يرى الرأي لغيره صادقاً بصيراً، وتتخطفه الحيرة فلا يراه لنفسه إلا بعد مشقة وجهد. وتعليل هذه الظاهرة سهل بين، فالإنسان - إلا من عصم الله - شديد الخوف على نفسه، يظن الريبة والخطر في كل ما يقدم عليه، فلا يكاد يخطو خطوة واحدة حتى تتقاذفه الحيرة من سبيل إلى سبيل، لكن صديقه - في الغالب - أقدر منه ثباتا وعزما، فهو ينظر إلى المشكلة بعين الواقع، طارحاً ما يتراءى من الشكوك دبر أذنه، ولا نعني بذلك أنه قليل المبالاة بما يعترض الموقف من مصاعب، بل نفرض فيه اليقظة والحذر مع أعصاب هادئة وجنان مطمئن، وإن عاطفة (اعتبار الذات) لتمتد من الإنسان فتشمل ذويه وأصحابه، وتدفعه إلى المشورة السديدة والمساندة المخلصة، فأولى بالعاقل أن يلجأ إلى أصحابه على البعد، يبثهم النجوى، ويبسط أمامهم المشاكل، وأولى بهم أن يسارعوا في إيضاح الغامض. وحل المشكل، فستدور عليهم الدائرة يوما ما، ويحتاجون إلى من يشاورونه ويناشدونه، وفي ذلك تخفيف مريح لما تمتحن به الإنسانية من ويلات، وإن مجتمعا يتضافر أبناؤه على البعد، ويتكتل أجناده تحت لواء التضحية والإيثار، لجدير أن ينعم بالأمن والاستقرار.

هذه خواطر خاطفة تجول بذهني من وقت لآخر حين أواجه بمن أعتقد فيه الوفاء والمودة، فأراسله محييا مكرماً، عقب صلة وارفة تفيأنا معاً ظلالها الوريفة حقبة طويلة، ثم أجد الفتور في الرد حينا، والتواني عن الإجابة حينا، وقد لا أجد رداً بالمرة، فأسأل نفسي في حيرة محزنة، أليس لهؤلاء نفوس تستعيد الذكريات، وقلوب تستشعر اللوعة، وعواطف يذكيها الشوق!! ثم أغمض عيني وأنهض للبارودي فأستمع قوله الحزين

فيا ساكني الفسطاط ما بال كتبنا ... ثوت عندكم شهراً، ولم يأتنا رد

أفي الحق أنا ذاكرون لعهدكم ... وأنتم علينا ليس يعطفكم ود

فلا تحسبوني غافلاً عن ودادكم ... رويداً، فما في مهجتي حجر صلد

(المنصورة)

محمد رجب البيومي