مجلة الرسالة/العدد 908/صور من الحياة:
مجلة الرسالة/العدد 908/صور من الحياة:
إنسانية تتهاوى!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي (ما بالك ساهم الفكر مضطرب النفس مقطب الجبين، يلوح الأسى والعبث في نظراتك، وترن نغمات الشجى والهم من خلال كلماتك. وعهدي بك متطلق الوجه مستبشر الخاطر منفرج الأسارير؟).
قلت (آه، يا صاحبي! لقد عشت منذ الصباح في غمرات من الألم أراها قاصمة الظهر، وجهدت أن أدفعها عن خيالي فآذني أن أفعل، فطرت إليك علك تخفف عن قلبي بعض ما أثقله حين تراءت له النفوس وقد نضبت من الإنسانية وصفرت من الرجولة):
قال (هاتها!)
قلت (هي قصة رجل عصرته الحياة بين فكين غليظين من وطأة العلة وشره المال فما أفاق إلا على دوى يؤرق نفسه ويثير همه. . . دوي ينذره بأنه أوشك أن يفقد حياته وماله في وقت معاً.
هو رجل طوى عمر الشباب ينظر إلى الدنيا بعينين فيهما فرحة الأمل ولمعة الرجاء، ومن حواليه صبية صغار يرفون رفيفاً حلواً ينفث في قلبه الهمة والنشاط ويبذر في روحه الهدوء والطمأنينة، فهو يرى فيهم نوراً يتألق فيبدد ظلمات من العيش تكاثفت أمامه منذ أن مات عنه أبوه وخلفه وحيداً في خضم الحياة تتقاذفه أمواجها العاتية لا يجد العون ولا الساعد ولا الناصح فراح يتخبط على غير هدى.
وأحست الحياة بوحدة الصبي وضياعه فعبست له وبسرت لا ترحم ولا تشفق، ولكن شيئاً من ذلك لم يقعد به عن أن يشق طريقه في أناة وصبر، ولا عن أن يندفع على سننه في قوة وعناد، لا يعبأ بالغلظة ولا يضيق بالجفوة، حتى أصاب طرفاً من نجاح فأصبح موظفاً صغيراً في الحكومة وانطوت السنون.
ثم جاءته المحنة الكبرى فأصيب بذات الرئة، وأحس بالداء يسري في دمه فما اضطربت نفسه ولا ضاقت به الحيلة، وبين يديه ألف جنيه، ورث البعض وادخر البعض، فهو يستطيع أن يشتري الطبيب والدواء في وقت معاً، فأنطلق إلى طبيب من ذوي الصيت والعلم بطب لدائه، ومن أمامه ألف شعاع من أمل وألف نزوة من كبرياء. ووقف بإزاء الطبيب يحدثه (وأنا - يا سيدي - أدخر ألف جنيه لا أضن بها على من يمسح على دائي فيحبوني بالشفاء، لأجد في الصحة متعة صبية صغار يترجون أباهم) وتحلب ريق الطبيب فلبس ثوب الثعلب وهو يقول (لا عليك، فهذا داء قريب البرء عاجل الشفاء).
واطمأن المريض لكلمات الطبيب. وأمسك الطبيب بالسماعة ليسمع دقات جيب المريض، ثم أمسك بالقلم ليكتب له الدواء الذي يؤجل الشفاء ويمد في عمر الداء.
واطمأن المريض إلى العلاج الذي لا يغني ولا يشفي، على حين قد عمى عن يد الطبيب وهي تتسلل إلى جيبه في دهاء ومكر لتستلبه ميراث أبيه ووفر عمره. وأحس - بادئ ذي بدء - أن الصحة تسري في عروقه وتتألق على صفحة وجهه فاطمأن وهدأت جائشته، ثم ما لبث أن شعر بالخور والفتور والضعف توشك جميعاً أن تعصف بهمته ونشاطه وشبابه، فأنطلق إلى الطبيب يستعينه على الأمر ويبذل له الوفر، غير أن الطبيب أمسك بالقلم - مرة أخرى - ليكتب له الدواء الذي يؤجل الشفاء ويمد في عمر الداء.
وربط المريض حبله بحبل الطبيب الذي أخذ يختله عن صحته وماله، ووصل سببه بسببه فما ينطوي عنه إلا ريثما يعود إليه، والطبيب ينظر إليه - في كل مرة - بعينين فيهما معاني الضراوة والفتك، يرى مريضه يتهاوى تحت ضربات المرض الجاثية فلا ينبض قلبه برحمة ولا تخفق روحه بشفقة، ثم لا يجد في نفسه إلا معاني الأرضية الوضيعة تتوثب في شره تريد أن تفترس أو تلغ في الدم، فراح يستلب مال الرجل المسكين لينقض بيت أو تتهدم أسرة.
وللطبيب في مهنته منطق يشبه منطق الذئب أمام الشاة: منطق القتل والسلخ؛ منطق الجزار يغمد المدية في نحر البهيمة ليشخب دمها بين يديه نضاراً خالصاً يستحيل إلى دار أو إلى عزبة أو إلى متعة تافهة.
والطبيب - في رأي الناس - رجل فوق القانون، لأنه يقتل بمشرط من القانون ويسلب بدهاء من القانون ويسرق بحيلة من القانون ويخدع بإذن من القانون.
وهو - في رأي نفسه - رجل بذل العمر والمال ليتعلم العلم الأرضي الذي يتلهف على المال ويمهد للمادة ويتداعى أمام الجنيه ثم هو - بعد ذلك - يترفع على الفقير والمسكين وذي الحاجة. . . العلم الأرضي الذي يقاس بالقرش والجنيه ويقوم بالدرهم والدينار لا تسطع فيه روحانية السماء ولا سمو الروح.
وهو - في رأي السماء - روح الجنة التي تكشف البلاء، ويد الله التي تزيح الشقاء، وبلسم النفس التي تجد الغماء.
فيا لشقاء أهل الأرض من طبيب يتعلم العلم الأرضي الذي تلتصق دواعيه - أبداً - بالتراب.
وربط المريض حبله بحبل الطبيب، وتراخى الطبيب وأهمل، والمرض يستشري ويتشبث، ومضت سنة كاملة، استحال - من بعدها - الداء الذي كان قريب البرء إلى علة ما لها من دواء. . . إلى السل. وأحس الرجل بالسل يخترم قوته على حين قد نضب معينه وصفرت يده.
وانسابت الحسرة في قلب الرجل فهو لا يجد المال الذي يدفع به المرض، ولا يجد الصحة التي يكسب بها المال. وهو يضن بصغاره الأحياء أن يصيبهم المرض الخبيث الذي تغلغل في رئته، ويشفق عليهم أن ينالهم عنت الفقر، فراح ينظر إليهم - من بعد - في رقة لا تجد متنفساً.
وجلس الرجل - ذات ليلة - إلى زوجته يحدثها حديث الداء العضال الذي كتم عنها خبره منذ أن أصابه، فإنخرطت في بكاء مر. . . بكاء المرأة تحس مرارة الفاقة ولذع العوز وفقد العائل. وترامى إلى الحكومة خبر المرض الذي يفري الرجل فقذفت به إلى الشارع.
وانطلق الرجل في شدة الهم ولأواء الألم. . . انطلق إلى الطبيب يكشف له عن ضنا نفسه وشجو قلبه فأشاح عنه بوجهه وهو يقول في غير اكتراث (الآن لا معدي لك عن أن تذهب إلى مصحة حلوان).
لا عجب فقد طرحه الطبيب بعد أن استنزف ماله وامتص وفره، طرحه لأنه نزل عن إنسانيته ورجولته لقاء دريهمات.
وألقى الرجل السلم عن يد خيفة أن تنتقل العدوى إلى أحبائه: زوجته وأولاده.
ودخل الرجل المصحة حطاماً يئن من عوز ومن ضعف. ووضع طبيب المصحة يده ثم رفعها وقد اربد وجهه وتقطب جبينه وتيقظت إنسانيته، فجلس إلى المريض الواهي يسأله ليعرف قصة رجل ضيعه طمع طبيب ليس من بني الإنسان. وأحس الرجل بالبهر والإعياء من طول الحديث فألقى بنفسه على فراش وعلى وجهه سمات الجهد والضنا. ونظر طبيب المصحة في غيظ وإشفاق ثم قال (آه، لو أن قانوناً يقول: النفس بالنفس. . .!) ثم عزم على أن يحيي موات الأمل في نفس هذا العليل المتداعي ليكون روح صبية صغار يترجون أباهم، فأصر على أن يستأصل الداء من جذوره رغم أن المريض لا يقوى على وطأة المخدر لضعفه وتهالكه. وأمسك الطبيب الطيب بالمنشار يقد ضلوع المريض وهو يرى ويسمع ويحس ويتألم ولكنه كظم صيحات نفسه فلم ينبس بكلمة.
وخرج المريض من المصحة، بعد حين، ليرى. . .
قال صاحبي (وخرج المريض من المصحة، بعد حين، ليرى الطبيب الذي غاله ماله وأسكبه من صحته وختله عن شبابه. . . ليراه ما يزال في عيادته ذئباً بين شياه، يستمتع بالأمن والسلام لأنه فوق القانون، يقتل بمشرط من القانون ويسلب بدهاء من القانون ويسرق بحيلة من القانون ويخدع بإذن من القانون. . .!)
كامل محمود حبيب