مجلة الرسالة/العدد 907/ما رأيت وما سمعت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 907/ما رأيت وما سمعت

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 11 - 1950



في سوريا ولبنان

للأستاذ حبيب الزحلاوي

- 5 -

يستوي عندي غضب الغاضب ورضى الراضي. ولست أبالي بأولئك الحكام الذين أزعجهم فأقلقهم، وأثارهم فأغضبهم كلامي المستمد من الحقائق، وهي جارحة. وقد قلتها للشعب،

لا لمأرب ذاتي، ولغاية حزبية، بل أردته لسبب واحد هو (ضرورة إيقاف الشعب على الحقيقة) وهذا أول واجبات الكاتب.

صحيح أن الحقائق نسبية، وأن ليس كل ما يعلم يقال، والأصح من ذلك أن تكون الحقائق مجردة، والأذهان مهيأة، والخطط واضحة مبسوطة لمن كان حاله ووضعه كحال السوريين واللبنانيين ووضعهم على التخصيص، وحال ووضع شعوب دول الجامعة العربية بالنسبة لما هي منكوبة به من احتلال واقعي ومن تدخل وبسط سيطرة ونفوذ هو بمثابة احتلال مبرقع.

وإيقاف الشعوب العربية على الحقائق السياسية فرض محتوم وواجب مقدس، لا على الحاكم المسؤول الذي يريد أن يسير بأمته في طريق الإصلاح والتقدم والاستقرار فقط، بل هو أيضاً فرض محتوم وواجب مقدس على الكاتب الذي يعاون الحاكم بقلمه، وعلى قادة الرأي من الرجال العاملين والذين بمؤازرتهم، وعلى ضوء آرائهم يسير الحاكم بخطى وطيدة مع الشعب لتحقيق رسالته. بهذا تكون الصلة وثيقة، والروابط قوية بين الحاكم والمحكوم. أما إذا كان الحاكم غير ديمقراطي بالنزعة، وكانت له قواعد وقوانين دستورية كما هو الحال، وكان ممن يلبس الوجه البشوش والثغر الباسم للأجنبي المستقوي الطامع، ويطاطيء له الرأس كما هو الواقع، ويلبس للشعب جلد الأسد الهصور المكشر عن أنيابه، يعمل بالسر عكس ما يقول ويعلن، وكانت له صحافة طيعة المراس لينة العجينة، يتسابق كتابها في إيقاد أقلامهم فيجعلون منها نارا هادئة تحرق البخور العطر للحاكم وتظليلا للشعب كما هي الحقيقة، فقل السلام والرحمة على ذلك الشعب المسكين، وأعلم أن نكبته بحكامه وصحافته أظلم وأدهى من نكبته بالمستعمر الطامع، وأن مصيره بعيد عن الغاية التي أوهموه أنه صائر إليها.

وقف فلان من صديقه الحاكم يقول له في معرض الحديث (أن الحاكم القوي بعمله لا يخشى صاحبة الجلالة، محلية كانت أو غير محلية، ووددت لو يزداد في عهدك عدد الأقلام المعارضة فتكون لك خير نبراس للهدى) فيؤمن الحاكم النير الذهن ويعد بأن يشجع الصحف المعارضة ليسترشد بها، وإذا بهذا الحاكم النير الذهن يوعز إلى زبانيته في قلم مراقبة المطبوعات أن تنزع من صحيفة الرسالة الصفحات التي فيها مقال (ما رأيت وما سمعت في سوريا ولبنان)

من هو الحاكم؟ الحاكم في حكومة جمهورية فرد من أفراد الشعب توفرت لديه الكفاية من موهبة وعلم وعزيمة؛ ينتخبه نواب الأمة للعمل في خدمة الشعب. والحكام الذين تداولوا مقاعد الرياسة في سورية على نوعين، نوع اختارته السلطة الأجنبية المحتلة، وفرضت رياسته على الشعب فرضا كالشيخ تاج الدين الحسيني ومحمد علي العابد وسواهما، ونوع اصطفته الأمة، وولته الرياسة تولية شرعية دستورية لا غبار عليها كالسيد شكري القوتلي، وكل حاكم يعتلي مقعد الحكم سواء أكان رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزارة صنم تعبده الجماهير وأصحاب الغايات والأغراض.

عبادة الأصنام صفة أصيلة في الطبيعة الشرقية وهو يلائم مزاجها ويدغدغ سريرتها.

وعبادة الأصنام تماثل عبادة الموتى، وكل ميت سواء كان عزيزا علينا أو غير عزيز، تسمو قيمته بعد الموت، ويجل قدره، ويصبح له شخصية وأن كان إمعة، وتاريخاً وأن كان نكرة،

سمعت فيما سمعت في سوريا أحاديث الناس في الحكومة القائمة، سمعت شكوى من نصرتها فئة من الشعب على فئة من الشعب، وسمعت حمدا لها لموقفها الحازم في لبنان تصفي مشكلتها معه في المصالح المشتركة، وسمعت انقساما في الرأي حيال موقفها من الجيش يزجرها عن الإقدام عن الانضمام إلى العراق وشرق الاردن، وسمعت ثناء على نشاطها في السعي للسير قدما في بناء ميناء اللاذقية وإزالة العراقيل التي تؤخر استلام القرض السعودي، وفي موقفها تصد الحكومات العربية عن التدخل في شؤونها الداخلية، وسمعت أشياء كثيرة عن الحكومة القائمة تؤيد قول أبن الوردي القائل:

أن نصف الناس أعداء لمن ... ولي الأحكام هذا إن عدل

وسمعت الإطناب في امتداح أعمال الوزير السابق السيد خالد العظم لدقته في تصريف الأمور الإدارية على أكمل وجه، وسمعت نقدا لعدم على قدرته الجمع بين دقة الإدارة ودقة السياسة، وسمعت من يعطف عليه ولم أرى من بكى بعده عن الحكم.

ورأيت ناسا يبكون حسني الزعيم، لا لصفات فاضلة فيه، بل لأنه كان يريد أن يعمل، ولأن الشعب قد سمع أن صلاح الشعوب متوقف على وجود (مستبد عادل) وكان مرجوا أن يكون الزعيم ذلك (الرجل المنتظر) ولكنه ذهب فليرحمه الله، وليحسن إليه.

وسمعت من يهلل للسيد شكري القوتلي ويتحزب له، ويطالب بعودته إلى الحكم، ورأيتهم يغسلون آثامه بدموعهم، ويطهرونه من الخطيئات بنيران قلوبهم، ويغتفرون له ما تقدم من جرائمه وما تأخر من أجرامه، ونسوا أنهم هم الذين هللوا يوم أسقطه الزعيم من أريكة الرياسة، وهم الذين كبروا يوم سجنه الزعيم في سجن اللصوص والقتلة، وهم الذين طلبوا رأسه، وهم الذين نصبوا الزينات في شوارع البلد ونشروا ألوية الفرح ابتهاجا بسقوط شكري القوتلي الذي فعل كذا وكذا وكيت وكيت.

كل حاكم في كل بلد صنم يعبده الناس ويرجمونه، ومن سخرية الزمن أن عباد الحكام ينقلبون إلى كافرين ومجرمين، وان أتباع الحاكم يتطورون ساعة سقوط الحاكم إلى زبانية ومجدفين ثم لا يلبث غضبهم أن يؤول إلى رحمة وشفقة بالحاكم الصريع، يقيلون عثاره، ويمسحون دموعه، وينشفون عرقه، ويضمدون جراحه، ويواسون آلام نفسه، ثم يهملونه وينسونه.

هذه صورة لمصير كل حاكم في كل شعب، وفي كل زمان، ولكن هذه الصورة لا تنطبق على حال السيد شكري القوتلي بدليل أنه بعث بعد أن مات، وتقمص بعد أن فنى وأضمحل.

وأنا أقول إن الذي يهوى ويسقط لا تقوم له قائمة. وأن الصيحات التي نسمعها هنا وهناك، فينة بعد فينة، إن هي إلا صراخ صبية في ريعان الصبى ترملت بعيد الزواج معناه الإعلان الصريح عن حياة جديدة مع زوج جديد، أما الزوج الميت فلا يبعث.

الرئيس القوتلي في نظري هو من آخر من يستأهل الرحمة من كافة طبقات الشعب، لا لأنه السيد شكري القوتلي صاحب الصفحات المسطورة في تاريخ الجهاد الوطني منذ انبثاق هذا القرن، ولا لأنه صاحب الجلد القوي والعزيمة الجبارة في محاربة العثمانيين ومقاتلة الفرنسيين والاستعانة عليهم بالألمان تارة وبالإنجليز تارة أخرى، ولا لأنه كان (الحركة المستديمة) كما كنا نسميه، وأذ كان يقطع آلاف الأميال متنقلا بين الشام ومصر والحجاز والرياض واليمن في العمل المتواصل لاستقلال سورية وإزاحة نير الفرنسيين عنها، ولا لعشرات من الحسنات تسطرها الوطنية له بحروف من الفخر، وبرغم هذه الحسنات وسواها مما يعرفه له كل سوري؛ أقول أنه إلا يستأهل الرحمة ولا الغفران لأنه أجرم في حق نفسه، ثم في حق وطنه ثم في حق دستور بلاده؛ ولذلك يحسن أن يستمع إلى نصيحة الأمة تقول له بمودة وإشفاق (اذهب أيها الإنسان إلى منفاك لأنك لعبت دورك ففشلت).

الحكم الدستوري تقليد لا تخليد، ولكن السيد القوتلي وهو أول رئيس جمهورية لسورية المستقلة، قد عبث بالدستور، وسخر نواب الأمة فجعلهم يفتعلون له مادة في صلب القانون الأساسي تبيح إعادة انتخابه للرئاسة أكثر من مرة. فهذا العبث الصارخ جرأ الأمة على الاستهانة بدستورها وعلى تحويره وتبديله كلما طاب لشيطان من الشياطين إشباع شهوته من الحكم، وهذا العبث الإجرامي هو الذي مهد السبيل للانقلابات الثلاثة. وهو الذي حمل ضباط الجيش على ذبح بعضهم بعضا. وهو الذي بذر بذور فتنة أسال الله أن تختنق في مهدها. وهو الذي ألقى (خيوط الحرير في الشوك) وقال لأعدائه أن يتشبثوا بمطالبة الحكومة القائمة بإلغاء الدستور، ومحو القوانين التي سنها النواب للمحاكم، واعتبار ما قام على الفاسد فهو فاسد، وإعادة ما كان أيام حكمه السعيد إلى ما كان عليه، وأن يسرحوا النواب ورئيس الجمهورية ويتبعوهم ليعود فخامته إلى مقر حكمه، وصولجان ملكه.

قليل من العقل يا رجال دمشق. قليل من الرصانة التي عرفتم بها، لا تضيعوا الوقت في مماحكات أفلاطونية وعنعنات لا طائل تحتها، إن سورية لا تموت وهي ما برحت تنجب الرجال؛ فلا تعبدوا الأصنام ولا تبكوها إذا هوت وانطرحت في الرغام،

حبيب الزحلاوي