مجلة الرسالة/العدد 907/الألعاب العربية
مجلة الرسالة/العدد 907/الألعاب العربية
للأستاذ محمد محمود زيتون
- 3 -
رأينا في المقال السابق كيف التقت التربية البدنية بالتربية الدينية عند مبدأ الإخاء حيث تسود الألفة بين المتلاعبين.
ويحرص النبي عليه الصلاة والسلام على أن يكون الناس في جدهم ولهوهم إخوانا وزملاء فهو القائل (تآخوا في الله أخوين أخوين).
والقائل (لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده) ولهذا كان المسلمون في شتى مراحل الدعوة المحمدية أخوين أخوين.
وخرج عمر بن الخطاب يوما في سفر فقال لمن كان معه (ألا تزاملون) وزامل بين كل اثنين.
وحول هذا المحور من الإخاء دارت الألعاب الإسلامية فكان دورها حلقة ذات مكانة مرموقة في تعاليم الإسلام؛ ذلك الدين الذي الآن من عنفوان عمر حتى قال (ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي فإذا التمس ما عنده كان رجلا) وكذلك حقا كان عمر مع أولاده الصغار فقد كانوا يركبونه ويسحبونه ويسوقونه وهو أمير المؤمنين وفاتح الأمصار، وما كان أسعده بهذه اللحظات من اللهو البريء الذي هو اللعب المشروع من غير تناقض مع وقار الخليفة وجلال الخلافة، فلما دخل عليه أحد الولاة ورآه على هذا النحو الذي ذكرناه أستنكره منه وعندما سأله عما يفعله هو في بيته قال بما يفيد جفوته مع أهله فعزله أمير المؤمنين.
ومن هذا الباب أيضاً ما قاله علي بن أبي طالب (سلوا هذه النفوس ساعة بعد ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد) وهل تكون هذه التسلية إلا باللهو واللعب الذين هما جلاؤهما وصقالها؟
وفي هذا يقول أبو الدرداء الصحابي الجليل (أني لأستجم نفسي ببعض اللهو ليكون ذلك عونا لي على الحق).
ولما كان من أغراض التربية الكاملة تهذيب النفس بترويض الأعضاء على الفنون والصناعات فإن القائمين على شؤون التعليم قد رفضوا دروس الأشغال في المدارس، وبهذا اللون من التربية اليدوية اتسمت حياة النبي الكريم.
سئلت عائشة: كيف كان النبي إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان ألين الناس وأكرم الناس؛ وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان ضاحكا بساما.
وسئلت. ما كان يصنع في بيته: فقالت: ما يصنع أحدكم: يرقع ثوبه ويخصف (يخرز) نعله ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة؛ وكان يعمل عمل البيت وكثر ما يعمل الخياطة.
وكان رسول الله (ص) يضمر الخيل ليسابق بها، وهو الذي جعل للسباق حدودا لا يتعداها لهو المؤمن إذ قال (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) وما أرفع الغاية التي ينشدها نبي الإسلام للمؤمنين إذ يقول لهم (الهوا والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم غلضة) وتلك من غير شك غاية التربية البدنية، وما أنبلها من غاية.
وتقول عائشة أيضا: كان رسول الله يخصف نعليه وكنت أعزل
وسواء كانت هذه الصناعات اليدوية الصغرى مقصودة لذاتها أو لمجرد اللهو وسد أوقات الفراغ أو مقصودة للكسب المادي فإن كلا الأمرين شريف ومشروع وإن كنا لا نزال نعتقد أنها من ألزم اللزوميات لكل الناس ولا سيما ذوي الهيئات. ونحن نعلم عن مستر تشرشل وقد كان ولا يزال من مديري دفة السياسة البريطانية بل العالمية أنه من المغرمين بالرسم وكثيرا ما يذهب إلى سويسرا لرسم المناظر الطبيعية بريشة الفنان بحيث يستجم لنفسه في مهمته السياسية وما أثقل أعباءها.
وعندنا نحن من النماذج الإسلامية ما يزاحم الرءوس الكبار بما كان لها من أثر فعال في تغيير وجه التاريخ تغييرا شاملا؛ فهذا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وقد عرف عنه أنه كان يذهب وحيدا بعيدا في صيد الوحوش الكواسر وطالما طالع أهل مكة بقوامه الفارع وشبابه المتوثب وهو يتقلد سيفه يتنكب قوسه وينتضى في يديه السهام ويختصر الحراب.
وكان عمر من المهتمين بالتربية عن طريق الأشغال اليدوية والألعاب الرياضية إذ يقول (من خط وخاط وفرس وعام فذاكم الغلام) وبهذا لم يهمل هذا النوع من الأشغال الذي يسمى بالإنجليزية (هوبة). وكان رسول الله يشجع على توجيه الصغار نحو مشاهدة الطبيعة وتأمل الأحياء؛ فقد دخل على أم أنس بن مالك فوجد ابنها أبا عمير حزينا مغتما فقال لها: (يا أم سليم ما بال أبي عمير حزينا؟) قالت: يا رسول الله مات نغيره (عصفوره) فتلفت النبي إليه وقال: (أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان كلما رآه قالها له مداعبا.
ولا شك أن نوع اللعبة تحدده الغريزة الجنسية. كما أنها تستجيب لغريزة حب الاستطلاع، ثم هي مجال طبيعي يتعرف فيه الناشئ على خصائص الحيوان، وفيه تمتد آفاق الخيال، وتتكشف الانفعالات والعواطف نحو الحياة والأحياء في أبسط صورة.
وغريزة اللعب هذه ملازمة للإنسان من المهد إلى اللحد لا تبرح سلوكه ولا ينفك عنها نشاطه.
فلا تعارض بين اللعب والسن مهما يكن من هيبة ووقار.
فقد دخل النبي على عائشة وعمرها تسع سنين، وكانت لعبتها في يدها، ومعها صواحبها في أرجوحة بين نخلتين، فأنزلتها أمها من الأرجوحة لتزفها إلى رسول الله.
ولم تنس عائشة لعبها بعد أن أصبحت زوجة فهي تقول (قدم رسول الله من غزوة تبوك أو حنين فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع. قال: وما هذا الذي أرى وسطهن؟ قلت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قلت. جناحان. قال: جناحان؟! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك حتى بدت نواجذه)
والإسلام يقر اللهو البريء الذي لا يفسد الطبع ولا يصرف عن الجد، وما أصدق روح الإسلام في بيت البارودي إذ يقول:
سواي بتحنان الأغاريد يطرب=وغيري باللذات يلهو ويلعب
إلى ما في هذه القصيدة من اعتزاز بالدأب على طلب العلا، وافتخار بنفس أبية لها بين أطراف الأسنة مطلب، ولها مع الوحوش صراع، فلا عجب إذا أصغرت هذه الهمامة كل مأرب.
واستقبلت جويريات بني النجار رسول الله بالمدينة بالأناشيد والمعازف؛ كما أخذ الأحباش يلعبون بالحراب بين يديه، وأخذت جاريتان تضربان بالدف في بيته فلم ينكر عليهما ذلك حتى إذا دخل أبوبكر منعهما فقال له النبي: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا.
وذهبت عائشة يوما إلى عرس في بيت للأنصار فلما رجعت سألها النبي: (أهديتم الفتاة إلى بعلها؟) قالت: نعم. قال: (فبثتم معها من يغني؟) قالت: لا. قال: (أر ما عملت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم=فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا_ء لم نحلل بواديكم
والعرب تطلق كلمة (المقلس) على الرجل يلعب بين يدي الأمير إذا قدم المصر.
والمداعبة والمضاحكة مما يدخل في باب اللهو واللعب بغية التسلية والترفيه، كما كان يفعل النبي، فقد قال لعجوز: (انه لا يدخل الجنة عجوز) فحزنت، ولكنه لم يلبث أن تلا عليها قول الله تعالى (عربا أترابا) فضحكت واستبشرت. لأنها سترتد في الجنة صغيرة السن عذراء حسناء، وذلك ما تتمناه المرأة للطبع المركب فيها.
وليس المزاح من المداعبة في شيء، لما له من أسوء الأثر في النفس، لهذا نهى النبي عنه. ويروى أن رجلا أخذ نعل رجل فغيها وهو يمزح فذكر ذلك للنبي فقال: (لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم) وقال في حديث آخر (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا) كما نهى عن المزاح بالسلاح فقال: (لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان يترع في يده فيقع في حفرة من النار).
وكان الإسلام حريصا على صيانة السباحة من الابتذال، فحرم على النساء أن يسبحن عاريات حتى لا تكون فتنة.
ولما دخلت الحمامات بلاد العرب وضع رسول الله حدودها فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام) وقال (شر البيوت الحمام ترفع فيه الأصوات وتكشف فيه العورات) ودخلت نسوة من الشام على عائشة فقالت لهن: أنتن اللاتي تدخلن نساءكن الحمامات. سمعت رسول الله يقول: (ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)
ويوم أن سار العرب في حماماتهم على هدى التعاليم الإسلامية صانوا كرامتهم، وشهد لهم جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) فقال (حمامات الشرق أفضل من حمامات الغرب صحة وراحة؛ وهي عدا ذلك محل للاجتماع والمحادثة ولا تقل شأنا عما كان لها أيام الرومان)
والخلاصة أن الإسلام عندما اقر البريء من العاب العرب وشذب بعضها لم يهدف إلى اكتناز العضلات وصلابة العود، ولم يقصد إلى إطالة العمر، ولم يدفع إلى المضارة على الضعيف بالتذرع بحجج أوهى من نسيج العنكبوت مثل (شعب الله المختار) وإنما وضع الرياضة البدنية موضع الاعتبار بأن جعلها (تربية) ذات غرض نافع وهدف رافع.
كان عصر إسيرطة يعد الفتيان للحرب كفاية تقصد لذاتها، وكان أبناء الرومان يقاسون زمهرير الشتاء وذل النفس لينشئوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، أما الأسبان فقد جرت دماء الوحشية في عروقهم إذ اتخذوا من (مصارعة الثيران) مسلاة وملهاة، كلما رأوا اللاعب ينجو من غدر خصمه (الثور) عاجله بطعنة من خنجره فيخر مضرجا بدمائه.
والحق في جانب العرب في الحكم لهم بارتفاع الغريزة عما يشينها من حيوانية صارخة وشهوة عارمة، فهم قد عرفوا رياضة الإنسان وترويض الحيوان، فلما طالعهم الإسلام أحل الله لهم صيد البر والبحر وحثهم على الرفق في الأمر كله، ونهاهم عن المثلة ولو بالكلب العقور فكانوا طرازا نادرا في البطولة والرجولة.
طيروا الحمام الزاجل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. وأطلقوا الصقور بين يدي نبالهم تنقض على الصيد المباح، وامتلكوا نواصي الخيل. واعتلوا صهواتها. فأكرموا غاية الإكرام وركبوا سفينة الصحراء تشق بهم الوهاد والنجاد. وتربصوا للأسود الضارية والأفاعي الحاوية، فصرعوها في كهوفها، فتطهرت السبل من أذىالإنس والجن.
وكانت العاب العرب في جملتها وتفصيلها مسايرة لمطالب الطبع البشري، فلم يقهروا الغريزة قهرا، - ولو أرادوا لفعلوا - ولم يهربوا من الطبع الغلاب، بل واجهوا الحياة بما هو في الإمكان للسير بها قدما نحو الشرف والرفعة، حتى إذا لم يعد في الطاقة مكان، استسلم المرء للواقع المرير، وفي القلب الكسير حسرة على الماضي القوي، والشباب الصبي، فذلك قول شيخ العرب، وقد ذوى عوده، وانطوى ظله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا=أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به=وحدي وأخشى الرياح والمطرا
من بعدما قوة اعز بها=أصبحت شيخا أعالج الكبرا ولو شاء العربي أن يرمز إلى الحياة الجامحة فإنما تكون نفسه أقرب ما يسعفه إلى غرضه، بل تكون (الناقة) أقرب إليه والى الحياة من نفسه؛ فهي محور الأرض والسماء، ومرصد الشاهد والغائب، ومدار القوي والضعيف، ومقياس الشرف والصفة، ورمز العافية والضياع. ولهذا كان اغلب التعبيرات العربية عن النفس مشتقة من الناقة التي هي سفينة الحياة. وطالما كنى بها العربي عن نفسه في كل مظاهر الشعور.
فكان العقل من قولهم: عقل البعير، والعقل والعقال ما يعقل؛ والعائلة هي العاقلة أي القبيلة لأنها تعقل البعير في أداء الدية عن المعتدي الأثيم من أفرادها. وما أبرع تورية النبي لصاحب الناقة إذ قال (اعقلها وتوكل)
والعربي يرخى لنفسه العنان كما يفعل بناقته ثم يأخذ شكيمتها ويكبح جماحها. ويزجرها عن هواها، ويثنيها عن غربها وشموسها ويأخذ بناصيتها، ويمتلك سنامها، وتميل نفسه إلى ولده متأثرا بحنين الناقة إذا طربت في أثر ولدها، وإذا أناخها فبركت، فإنما هي نفسه التي ينيخها فتبرك. وكذلك حين يسوقها ويقودها ويحثها ويحدو لها فهي ذلول لا شرود، ما دام في يده خطامها يشد عليها زمامها، فيلزمها غرز الفضيلة وتنص به في ركاب الفضلاء، رائدة الخير لها، ينتجه صادرا وواردا.
تلك هي حياة العربي الذي يتخذ من الناقة سفينة إلى معالي المثل ومكارم الأمور، حتى إذا نفض يديه من حطام دنياه لم يكن له فيها ناقة ولا جمل، لا تخدعه فيها خضراء الدمن.
ولعمري إن الإنسان الذي يتوصل إلى ما بلغه العربي من مجد لأحق بالتمجيد والتخليد، وحسبه شرفا أنه سلك كل وعر، وامتطى كل صعب، حتى ألان الدنيا لأرادته. فكانت طوع أمره، وراض بدنه لنفسه، وروض جوارحه للمعالي، فكان صاحب السيادة.
ومفتاح هذا الظفر أنه اتخذ من الجمل مطية لكل غرض؛ فأصبحت الحياة بسيطة لا تعقيد فيها، وصار من المألوف المعروف عنه أن يقول (فلان يتخذ الليل جملا).
وانه لمجتمع كريم ذلك الذي يدرك فلسفة الحياة في كلمتين هما:
(الغاية والوسيلة) ويدرك حقيقة البطل في صورة فيها الجسم الجميل، والنفس الكاملة، والغرض السامي.
ولا شك أن الألعاب العربية في هذا الغرض الذي أبديناه قد أوفت على الغاية، واختارت المسلك القريب، فزاحمت بذلك أصحاب الحضارة، وأثبتت أصالتها وعراقتها كلما تعرضت للمقاييس النزيهة مما نعرفه، ولم نعرفه بعد.
محمد محمود زيتون
(ممنوع النقل والنشر والترجمة إلا بأذن الرسالة)