مجلة الرسالة/العدد 905/من أدب التاريخ
مجلة الرسالة/العدد 905/من أدب التاريخ
سفارة موسيقية
من مصر إلى مراكش
للأستاذ محمد سيد كيلاني
كان عام 1904 نهاية التنافس الاستعماري بين إنجلترا وفرنسا فعقد بين الدولتين اتفاق ودي بمقتضاه تسيطر إنجلترا على مصر في نظير اعترافها لفرنسا بحق السيطرة على مراكش. وقد قلقت النفوس في مصر ومراكش من جراء هذا الإنفاق واضطربت الخواطر وسادت الكآبة وعم الحزن. وبينما كان الناس متجهين بعواطفهم نحو مراكش، يرقبون في جزع شديد ما سوف يقع على هذا الشعب المسكين من بطش الاستعمار الفرنسي وجبروته إذا بصحيفة المؤيد تطلع على الجمهور بعددها الصادر في 9 مارس سنة 1904 تحت العنوان المتقدم بالنبأ الآتي:
(هذه السفارة ليست من حكومة مصر بل من رعايا دولة الغرب الأقصى في مصر إلى مولاي عبد العزيز سلطان تلك الدولة وهي مؤلفة من ثمانية أشخاص بين مغن ومغنية وموسيقى قد اتفق معهم حضرة الحاج محمد شقرون وكيل دولة الغرب الأقصى سابقا في مصر على السفر بالمرتبات التي تقررت لهم وهي المذكورة بإزاء أسمائهم ولولا أن أحد محرري الجريدة شاهد بعينه أوراق السفر في الدرجة الأولى والعقود المختصة بذلك ما صدقنا الخبر الذي يراه كل إنسان ملم بأحوال دولة الغرب الأقصى، ومشاكلها المالية والسياسية الآن في غاية الغرابة.
وقد استلمت جوقة الطرب المصرية جوازات السفر وتذاكر الوابور في الدرجة الأولى لجميعهم وأجرة ثلاثة أشهر مقدما على الحساب الآتي:
المرتب الشهري بالجنيهات
الأسم
الصنعة
45 علي الرشيدي
عواد
65
مرسي بركات
قانوني ومغني
25
فربد شلهوب
كمنجاتي
30
محمود حمدي
مغن
20
محمد السيد
مغن
145
نظيرة سلطانة
عوادة ومغنية
60
لطيفة سلطانة
مغنية
وربما كانت هذه الجوقة أكبر وفد مصري ذهب إلى بلاد مراكش بألطف معنى من معاني التواد والتواصل بين الأمم وبعضها، فعسى أن تكون هذه السفارة فاتحة خير بين المملكتين وعسى أن يتعود مولاي عبد العزيز بعدها على رؤية الوفود تأتيه من البلاد المشرقية فينتفع منها لكل أرب بعد هذا الطرب).
وما كاد الناس في مصر يقرئون هذا الخبر حتى وقفوا أمامه متعجبين مندهشين وثارت خواطر الغيورين على صالح المسلمين ضد سلطان مراكش وشرع الكتاب ينشرون المقالات ناقدين مسلك السلطان نقدا عنيفا مرا، حاملين عليه حملة قاسية، وقد اضطلعت صحيفتا اللواء والمؤيد بعبء تلك الحملة التي ساهم فيها مصطفى كامل بقلمه ونفث من روحه عبارات حماسية رائعة ضد السلطان عبد العزيز وكال له التوبيخ والتقريع ووفي الكيل. وإلى جانب ما في هذه المقالات من نقد وتجريح ترى مقالات أخرى يغلب عليها روح التهكم والسخرية ومثال ذلك ما جاء في المؤيد بتاريخ 28 مارس من تلك السنة وهو: (يظن أن أنباء صدى جوقة الطرب وصلت إلى عظمة مولاي عبد العزيز سلطان مراكش في الوقت الذي وصلت فيه إلى عظمته أنباء بوادر الاتفاق الإنكليزي الفرنساوي بشأن مراكش. وقد ذكر لنا ثقة أن مكاتب البلاط المراكشي في مصر بعث إليه يقول إن الاتفاق قد تم مع أحسن جوقة طرب مصرية كل فرد من أفرادها صفوة أهل فنه. فمتى وصلت إلى الحضرة السلطانية المراكشية وصدع موسيقارها وغنى مغنيها قالت الحضرة الشريفة على الدنيا كلها السلام.
أما مكاتب التيمس في طنجة فقد بعث لجريدته يقول إن أنباء بوادر الاتفاق الإنكليزي الفرنساوي بشأن مراكش قد وصلت إلينا وأرسلت إلى سلطان المغرب، وكبار الأهالي ينتظرون بقية التفاصيل انتظار الظمآن للماء. . . الخ)
صدى جوقة الطرب:
تحت هذا العنوان أفسحت المؤيد مكانا للشعراء فأخذوا يتبارون في نظم المقطوعات وكلها تفيض بالهجاء الموجع والنقد المؤلم والتهكم والسخرية وإظهار الأسى والحزن على ما وصلت إليه أحوال البلاد المراكشية. قالت صحيفة المؤيد (وجاءتنا مقطعات كثيرة من بعض أفاضل الشعراء في هذا الباب فمنعنا عن نشرها غلو أصحابها في الألفاظ الموجهة لسلطان الغرب.
فعلى الذين يجودون بأدبهم على القراء من هذا المعنى الجديد أن يراعوا مقام من يتعلق به الكلام، ولكل مقام مقال.)
وهذه العبارة تكفي للدلالة على الأثر السيء الذي تركته في النفوس تلك السفارة الموسيقية التي أقام بها سلطان مراكش فرحا في وسط المآتم والمحازن التي كان يقيمها أفراد شعبه.
ومع ذلك فإن الشعر الذي نشر في ذلك الوقت يفيض بالأسى والحزن ويعرب عن حقد شديد على هذا السلطان العابث. ومثال ذلك قول حافظ إبراهيم:
عبد العزيز لقد ذكرتنا أمما ... كانت جوارك في لهو وفي طرب
ذكرتنا يوم ضاعت أرض أندلس ... الحرب بالباب والسلطان في اللعب
فاحذر على التخت أن يسري الخراب له ... فتخت سلطانة أعدي من الجرب
وفي هذه الأبيات يقف الشاعر حزينا متحسرا لتلك الحال التي ذكرته بما كانت عليه الأمور في بلاد الأندلس من اختلال، متوقعا لمراكش نفس المصير الذي لاقته بلاد الأندلس من قبل نتيجة لانغماس ملوكها في اللهو واللعب، وإهمالهم لشؤون الملك حتى ضاع من أيديهم فناحوا بعد ذلك عليه كما تنوح النساء ولم يجدهم ذلك نفعا وذهبت البلاد من أيديهم. وقد حاول حافظ أن يسوق هذه الذكرى المؤلمة لسلطان مراكش لعله ينتفع بها ويقلع عن غيه ويعمل لما فيه صالح رعيته قبل أن يغرقه الطوفان.
وقال آخر:
قالوا الخليفة في فاس أحق بها ... من فرع عثمان فرع الفضل والحود
فقلت إن صدقت دعواكم النمسوا ... خليفة الله بين الناي والعود
شر الخلافة ما قد بات صاحبه ... ما بين (مرسي وشلهوب ومحمود)
وبين (سلطانة) لا بين سلطنة ... تلهية عن كل تدبير وتسديد
يا مرخيا لهوى النفس العنان أفق ... واشفق على رمق باق به تودي
هلا نهاك اتفاق (الدولتين) غدا ... عن اتفاق مع القينات والغيد
وهذه الأبيات تمتاز بأنها تتناول حال سلاطين تركيا وحال سلاطين مراكش بالموازنة. والشاعر هنا يرد على من يريدون نقل الخلافة من سلاطين تركيا إلى سلاطين مراكش الذين يدعون الانتساب إلى الرسول فيسفه آراءهم ويخطئ أفكارهم ويقول لهم انظروا إلى هذا السلطان المراكشي الذي يريدون تنصيبه خليفة للمسلمين فهو عاكف على اللذات منغمس في الشهوات منفق المال بغير حساب على المغنيات. ومثل هذا السلطان لا يصلح بالطبع لأن يشغل منصب الخلافة. ثم ختم هذه الأبيات بالوعظ والتذكير والتوبيخ والتقريع الذي ساقه إلى السلطان في غير رفق ولا لين.
وقال أحمد الكاشف:
من كعبد العزيز أقوى على الده ... ريلاقي الخطوب سمحا لعوبا
زلزلت أرضه فغنى على زا ... زالها ناعم الفؤاد طروبا
وفي هذين البيتين سخرية مرة وتهكم شديد. فالشاعر يظهر العجب من شدة بأس السلطان وقوة احتماله. فهو لم يجزع للخطوب ولم يتحرك للحوادث الجسام التي أحاطت به، بل قابل الشدائد باللهو واللعب. ولما زلزلت الأرض تحته لم يفزع ولم يخف بل جلس على أنقاض هذه الزلازل يستمتع بالغناء والرقص والخمر.
وقال:
لا تلوموا خليفة الغرب في اللهو فما غيره عزاء لنفسه
نظر الخطب وهو لا بد منه ... فتحاشاه في مجالس أنسه
ربما مثلت له حبب الكأ ... س شهابا فظنه بعض بأسه
وفي البيتين الأولين يصور الشاعر السلطان في صورة من يهرب من الحزن والغم إلى مجلس أنس ليبعد عن نفسه متاعب الأحزان وآلامها، ويجد في الخمر والغناء عزاء لنفسه وتسلية لها حتى لا تسترسل في الهموم فتهلك. وفي البيت الأخير يسخر الشاعر من السلطان سخرية مرة ويتهكم منه تهكما قاسيا مضحكا. وقال:
عبد العزيز علام تلهو بالصبا ... لهو المؤمل أطول الآجال
وإلى م تسمع مطربيك وقد علا ... صوت النذير بأعجل الأهوال
فلقد أجرتموه ثلاثة أشهر ... هلا أجرتموه ثلاث ليالي
وفي هذه الأبيات لا نسمع سوى التوبيخ والتعنيف والتقريع الشديد المؤلم؛ والتحذير والترهيب من سوء العاقبة.
وقال آخر:
إيه عبد العزيز أي شهاب ... أنت في ظلمة القضاء المخيف
يرسل الخطب كل يوم نذيرا ... فتراه بالناظر المكفوف
كيف يصغي إلى النذير فؤاد ... ملأته (سلطانة) بالعزيف
أنت كالقدر تبلغ النار منها ... فتغنى كالواله المشغوف خطر حاضر وآخر آت ... وحتوف نذيرة بحتوف
وعدو إلى اغتيالك ظام ... ظمأ الصب للمى المرشوف
هو في حومة وأنت بأخرى ... بين بيض كبيضه وصفوف
فالدم الراح والجنود سقاة ... وقراع الظبا رنين الدفوف
فانظر إلى ما في هذه الأبيات من الصور والمعاني وعبارات الهجاء اللاذع كما في قوله (أنت كالقدر. .) وإلى ما فيها من التهكم والسخرية، والموازنة بين حالة الفرنسيين الذين كانوا يجسدون في امتلاك مراكش وما يقابل ذلك من غفلة السلطان وقعوده عن الذود عن بلاده، واشتغاله بتوافه الأمور وركونه إلى اللهو واللعب. وأنه لم يجد أمامه ما يفعله بإزاء تلك الخطوب التي حاقت ببلاده سوى إنفاق الأموال الطائلة على المغنيات في الوقت الذي اضطربت فيه الأحوال المالية في بلاده اضطرابا مهد للفرنسيين السبيل لبسط حمايتهم على البلاد وإذلالها.
وقال أحمد نسيم:
ليتني قادر على اللهو يوما ... فيه يشجى الفؤاد نقر الدفوف
عن عبد العزيز في كل خطب ... هذه عيشة الفتى الفيلسوف
لم يستطع أحمد نسيم وكان أجيرا لسلطات الاحتلال في مصر في ذلك الوقت أن يقول أكثر من هذا. وماذا يقول وهو الذي كان يشيد بفضل الاحتلال البريطاني ويسبح بحمده؟ والاتفاق الودي أثر من آثار هذا الاحتلال. وفيه اعترفت فرنسا لإنجلترا بمركزها في مصر كما أطلقت بريطانيا يد فرنسا في مراكش. فأحمد نسيم اعتبر سلطان مراكش فيلسوفا يعيش عيشة الفلاسفة. وهو يحض السلطان على سماع الغناء والانغماس في اللذات في أوقات المحن والخطوب. فإن هذا العمل في نظر أحمد نسيم شاعر الاحتلال من الأعمال المحمودة التي تليق بالفلاسفة في نظر هذا الشاعر هم الذين يتركون شعوبهم تموت جوعا، بينما هم ينغمسون في الشهوات دون حسيب أو رقيب.
وقال إمام العبد:
لاموا الفتاة وما سرت بطبولها ... غلا لتوقظ أمة نعسانه
لما رأت سلطانهم في نشوة ... راحت ثدير شؤونهم (سلطانة) ومن قال الإمام العبد إن الأمة المراكشية كانت نعسانة، وأنها كانت في حاجة إلى العود والقانون لتستيقظ على أنغامهما؟ أما قوله إن السلطان كان في نشوة فهذا صحيح. أما قوله (راحت تدير شؤونهم سلطانه) فخطأ محض؛ لأن الفرنسيين لم يقفوا متفرجين بل كانوا قابضين على ناصية الأمور بيد من حديد.
على أنك لن تجد من الشعراء من قال فأضحك وأبي بالنكتة اللاذعة التي اشتهر بها الحشاشون غير إسماعيل صبري فإنه قال:
يا المراكش وفد الغناء أني ... من مصر يسعى لمولاكم على الراس
لا تنكروا نكتة في طي بعثته ... فالعود أحسن ما يهدي إلى (فاسي)
ففي كلمة العود تورية. فهي بمعنى الآلة الموسيقية المعروفة وبمعنى عود البخور. وكذك في كلمة (فاسي) تورية فهي إما نسبة إلى مدينة فاس أو اسم فاعل لا يخفى معناه. وهكذا تناول إسماعيل صبري الموضوع على هذا الوجه المضحك. وقد بقيت صحيفة المؤيد تنشر هذه المقطوعات مدة من الزمن ثم أقفلت الباب فجأة منوهة بما يصلها يوميا من الأشعار، ذاكرة أنها نشرت ما فيه الكفاية.
ولكن هذه الحملة التي شنها الكتاب والشعراء لم تغير من موقف سلطان مراكش ولم تترك في نفسه أثرا. فقد جاءت الأخبار بوصف حفلات الغناء والرقص التي أقيمت في البلاط السلطاني، كما وردت الأنباء بالهدايا والتحف التي وهبها السلطان لضيوفه.
محمد سيد كيلاني