مجلة الرسالة/العدد 904/معاني الهجرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 904/معاني الهجرة

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 10 - 1950


للأستاذ واصف البارودي

نحن اليوم في سنة 1370 من هجرة محمد بن عبد الله، النبي العربي، المختار من ربه، الخالق المنعم، لدخول قدس أقداس الحياة السرمدية. . . فاطلع على أدق أسرارها خفاء في الأزل، وعلى ألطف معانيها خلودا في الأبد، وأكتشف ما في الحياة من نواميس تتحقق بها سعادة الإنسان بتحقق إنسانيته، فردا ومجتمعا، في دنياه وآخرته!. . .

1369 سنة مضت على هجرة محمد بن عبد الله، باعث نهضة العرب ومحقها، وهو المصطفى من رب العالمين، جلت حكمته، لحمل رسالة إلهية تنير ظلام الأفئدة، وتهز كيان الأرواح في الأجساد، فتتجه النفوس، في أتباعها طائعة مختارة، إلى ما تقتضيه تلك النواميس الإلهية، نواميس الحياة، من إيمان وثبات وإقدام، وعزم وتضحية وإخلاص، تنعم بها إنسانية الإنسان في تحقيق ذاتيتها!. . .

نحتفي اليوم بذكرى مرور 1369 سنة على هجرة محمد بن عبد الله، العربي المتحرر، بإرادة علوية قديرة، ليكون الهادي لطريق الحق الذي يتحرر في سلوكه عباد الله، من قيود الوثنية الظالمة، ومن طغيان أوثان المستعبدة - أوثان الحجر وأوثان البشر وأوثان النفوس، وقد اتبع ما أوحاه إليه ربه في كتابه الحكيم - قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.

(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي. . .) هذا ما أمره به ربه! فلا مندوحة له إذن عن تحمل أعباء الرسالة وفق نواميس الحياة البشرية. . سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا!. . .

الدعوة دعوة إلى الله، والدين دين الله. . ومهمة صاحب الرسالة تبليغ تلك الدعوة، وتثبيت أركان ذلك الدين!! فهل يتم له ذلك، وهو بشر، إلا بالصبر على الأذى وبتحمل المكاره، أولا، ثم بالجهاد، في أوسع معانيه - من جهاد نفس، تثبيتا للجنان في مواقف الضعف والهوان، وجهاد قتال، دفاعا عن الحرية، وحماية للحق الذي يجب أن يصان؟. . .

رسالة النبي رسالة تجدد وتحرر. وقد تسامت رسالة محمد بن عبد الله في الدفاع عن حرية الإنسان إلى درجة أبت معها أن تكره أحدا على إتباع الدين، وقد تحمل صاحبها ما تحمل في سبيل الدعوة إليه، وفي سبيل نشره وتثبيت أركانه في القلوب!. . فأوحى إليه رب صريح قوله - (لا إكراه في الدين). . . فتقررت بذلك حرية العقائد بين البشر، ما دامت العقائد تحترم الحرية، وما دامت متحررة في طغيان الأوثان ومن قيود طاغوتها.

وقد كان محمد بن عبد الله، صاحب هذه الذكرى، خير قدوة للبشر في التحرر، وخير معاني أوضح معاني الحرية على حقيقتها، في التفكير وفي الشعور وفي النزوع، قولا وعملا. ولم يكفه هذا، وقد تحمل في سبيله أنواع الأذى والآلام، بل عقد النية على الجهاد في سبيل الدفاع عن حرية الإنسان، فهاجر هجرة الجهاد.

والجهاد، ليس هو، في حقيقته، مطلق الحرب والقتال! وإنما هو حرب في سبيل الله دفاعا عن مثل عليا، من حق وخير وجمال، الله جامعها. وهو قتال لا هوادة فيه، صونا للحرية من أن تشوه حقيقتها، أو أن يعتدي على قدسيتها طغاة الأوثان. فليس التعدي على حقوق الغير جهادا، وليس في الضغط على حرية الإنسان، في تفكيره وشعوره ونزوعه، وفي التعبير عنها، أي معنى للجهاد؛ وإنما هما قتال عدوان وطغيان أوثان!

فالجهاد الذي تغذيه المثل العليا، المتحررة المحررة، هو من المعاني الأولى التي تتضمنها هجرة الرسول العظيم وصحبه الميامين. فما وجدت في القرآن الكريم آية ذكرت فيها الهجرة، إلا ذكر معها الجهاد في سبيل الله. فقد ورد، مثلا في سورة البقرة، قوله تعالى - (أن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، أولئك يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم) وهكذا في سورة آل عمران والأنفال والنحل والحج. ففيها جميعها آيات بينات تقرن الهجرة بالجهاد وتنص دائما على أن تكون في سبيل الله، أي في سبيل المثل العليا، والله جامعها، لتحرير البشر من تحكم الاغيار ظلما واستعبادا!. . .

فالهجرة إذن هجرتان - هجرة جهاد في سبيل الله وهجرة سعي في سبيل الدنيا للذة والاقتناء. والنية هي قوام التميز بين الهجرتين. وقد أوضح ذلك نبي الهجرة في قوله - (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.

فليست هجرة السعي وراء الكسب أو العيش هجرة جهاد؛ وليست هجرة الالتجاء هجرة جهاد؛ وإنما تكون هجرة الجهاد بتبييت النية، وبالتكتل الصادق، والاستعداد الصحيح للدفاع عن حرية الإنسان في حياته، وللتضحية في سبيل حرية المواطن ' في بلاد ورثها عن آبائه وأجداده، ولمحاربة طغيان الأوثان، ومكافحة الظلم والاستعباد.

ولهذا كان على من يرغب في هذه الهجرة أن يستبقها بهجرة روحية، هي هجرة النفس إلى ربها، تحقيقا للآية الكريمة - (فآمن له لوط، وقال إني مهاجر إلى ربي، إنه هو العزيز الحكيم) وبهذه الهجرة يتحقق الإيمان الصحيح، دون التواء ولا نفاق.

وأنت إذا تأملت في آية الهجرة التي وردت في سورة البقرة - (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله). لوجدت أن الهجرة قد ذكرت بين حالتين - حالة الإيمان وحالة الجهاد. فالهجرة إذن، في حقيقة معناها نتيجة طبيعية للإيمان تستلزم الجهاد. وهي هجرة رياضة روحية، تتصل بها الروح بربها لتنقذ من قيود التقاليد البالية، ومن تعسف طغيان الأوثان، على أنواعها، وهجرة نشاط عملي يتنقل بها الإنسان إلى حيث يتسنى له الاستعداد للجهاد الذي تستلزمه، إنقاذا للحرية الإنسانية التي أرادها الخالق لعباده.

ولا فرق بين أن يكون المكان بعيدا أو قريبا، فالشأن كل الشأن في وجود الأنصار الصادقين، وفي التكتل والانسجام في إيمان صحيح، وبنية خالصة. وهذا ما جرى للرسول الأعظم وصحبه الميامين، تحقيقا لرسالته الإنسانية، المنسجمة مع حكمة الله في نواميس الحياة.

فليست أهمية هجرة الرسول في الانتقال من بلد إلى بلد، وإنما تتجلى أهميتها وتبرز أدق معانيها السامية في اختيار الوقت الملائم بعد تركيز عقيدة الإيمان، وتثبيتها في نفوس نساء ورجال، يتكونون بها تكونا إنسانيا جديدا، فيولدون ولادة ثانية، يتحررون معها مما يرسفون فيها من قيود التفكير والشعور، وينقذون بها من إرث الاستسلام لطغيان الأوثان: أوثان النفس في داخل كيانها، وأوثانها في صلتها مع كون هو خارج عن وجودها الذاتي، أي مع محيطها. أولئك النساء وأولئك الرجال هم أناس يعرفون كيف يبيعون نفوسهم في سبيل الله، أي في سبيل العقيدة التي انعقدت عليها قلوبهم في صميم الأفئدة، وفي سبيل المبادئ والمثل العليا التي تستلزمها تلك العقيدة. وبذلك وحسب تستكمل الأمم نهضتها وتحقق أمجادها. .

إن الإسلام وقد كان الحافز القوي للعروبة في وثبتها لتحرير البشرية، وفي نهضتها لتكوين حضارة إنسانية محررة، تصل الأجيال في ماضيها وحاضرها ومستقبلها؛ إن هذا الإسلام كان في زمن الهجرة، عند مفترق الطريق. فأما وثوب وتقدم، واعتلاء ومجد، وإما إنكماش وتقهقر وتلاش وفناء!. . . فالوضع كان إذن، بالنظر إلى المسلمين العرب، أو العرب المتجددين، وضع موت أو حياة. فجاءت الهجرة محكا يميز الخبث من الطيب. ويفرق بين النفاق والإخلاص. ولا قيام لمبدأ قويم، ولفكرة صحيحة، إلا بجهود المخلصين من المؤمنين! فلا يتعلق أمر النجاح على الكمية، وإنما على الكيفية وحدها يتوقف النجاح في الجهاد.

فمعنى الهجرة أوسع مدى من أن يحصرها حديث، ولعلها تتلخص في إستلزام الجهاد لفكرتها بعد إيمان صحيح وعقيدة راسخة؛ ونجاحها في حسن اختيار الوقت الملائم مع الاستعداد التام للحوادث، وفي اكتشاف المؤمنين المخلصين والمؤمنات المخلصات، وفي الاعتماد على هؤلاء مهما قل عددهم؛ ولا اعتبار للكمية في الحياة. والهجرة مع ذلك كله عزم وإقدام وثبات وتضحية وإخلاص.

فهل لنا، وندائي للمواطنين في البلاد العربية جمعاء، مسيحيين ومسلمين. . . هل لنا وقد استدار الزمن وأصبحنا في وضع يجب فيه أن نتعاون جميعا على نهضة وطنية قومية صادقة، أن نستمد من معاني الهجرة قوة نستعيد بها المجد الضائع؟. . . أم سنظل على زهونا في ترديد الألفاظ وتبادل المجاملات، نتسابق في حلبة الإطناب في الأقوال، والافتخار بما نقول؟. . . كأني بنا وقد أصبحنا نرى أن لا واجب علينا بتجاوز حدود هذه الأقوال، والزهو بما فعل الأقدمون!. . . وقد أصبح الذكي العبقري فينا من يعرف كيف يستغل تلك الذكريات العظيمة لمصالح خاصة حقيرة، بالنسبة لما يجب أن يتحقق بها في ذات إنسانية الإنسان، من معان ومن أمجاد!. . .

اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد بن عبد الله، وعلى صحبه الميامين، من مهاجرين وأنصار، وقد أمرتهم بالهجرة، فأجابوا داعي الله. اللهم اهدنا سبيلك، ووفقنا لتفهم حقيقة التحرر في معاني تلك الهجرة التي غيرت وجه التاريخ! وأرشدنا للعمل الصالح لنا ولجميع البشر، لتهنأ الإنسانية بالسلام والطمأنينة والسعادة! وأنقذنا، اللهم من قيود عقولنا، ومن استسلام نفوسنا، حتى ندرك معنى قولك، وقولك الحق، في كتابك المنزل -

(إن الله لا بغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

صدق الله العظيم!. . .

بيروت

واصف البارودي

المفتش الأول في وزارة التربية الوطنية