مجلة الرسالة/العدد 903/شجاعة مردية!.
مجلة الرسالة/العدد 903/شجاعة مردية!.
للأستاذ كامل السيد شاهين
مظلومون أولئك الشعراء الذين كانوا يلوذون بقصور الخلفاء ويغشون مجالسهم، ويعمرون نواديهم بالمؤانسة والمطارحة، والمهارشة والاستثارة، ثم هم لا يستطيعون أن يحبسوا ألسنتهم عن قول الحق إذا عرضت قول الحق، ولا يستطيعون أن ينكروا ذواتهم، ويفنوا في الخليفة فناء مطلقا ليرضوا غروره، وبشعوره بأنه هو ولا شيء معه، مما يمشي على ظهر الأرض، أو يسبح في جو السماء.
مظلومون أولئك الشعراء لأنهم كانوا يقدمون على الخلفاء دون أن يدرسوا نفوسهم، ويتعرفوا على ما أصابهم من الغرور الذي لا يسمح لشيء أن يقول: هاأنذا!
ولقد يحدثنا التاريخ عن كثير من الشعراء كانوا فريسة سهلة لبعض الخلفاء، وما كان لهم من جناية إلا أنهم عرفوا أنفسهم ولم ينكروها، وتحدثوا عنها دون تحرج أو مخشاة، فأصابهم من ذلك ما أصابهم من إهانة وحرمان، أو ضرب وإعنات، أو هلاك وإتلاف.
وفي الحق، إن الخلفاء كانوا بذلك ينشرون النفاق على أشنع صورة وأبشع وجه، وكانوا يحبذون الملق في أوسع مدى، وبأقوى أنواع الاستحثاث؛ حتى صارت صحيفة الشعر العربي ربداء دكناء بشعة، وصار قوامه الملق المزري، والتزلف المقيت وحتى كاد يخرج عن حدود الشعر، بعدم انبعاثه من الشعور وبانبثاقه عن نبع الطمع والملق، لا عن إعجاب بالممدوح، أو حب صحيح له.
لقد فهم الشعراء أنهم حين يسعون إلى الخلفاء، ينبغي أن تتوجه عيونهم وعقولهم، وأن تتوجه ألسنتهم وقلوبهم، وان تتوجه شهادتهم وأحكامهم، ينبغي أن يتوجه ذلك كله إلى مرضاة الخليفة، وإشاعة السرور في نفسه، وإدخال المرح على قلبة، وإلا فليس هناك إلا السطوة المردبة والبطشة الكبرى.
هذا الفرزدق بن غالب، وقومه من تميم من هم، حيث العدة والعديد، والبذل والجود، والشهامة والأنفة، دخل على سليمان بن عبد الملك فرغب إلية سليمان أن ينشده، فظن الفرزدق أنه يريد شعرا صادقا، فأنشده:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة، من جذبها بالعصائب إذا استوضحوا نارا يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
ماذا دهاك - يا فرزدق - فتذكر غالبا أباك، وتثني على كرمه هذا الثناء الحر، لقد غاظ ذلك سليمان بن عبد الملك فبرم بالفرزدق، وتغير لونه، وأشار إلى نصيب أن ينشده فأنشده حتى أرضاه، مدحا كذوبا مزورا، وخرج نصيب يحمل سني الجوائز، وخرج الفرزدق صفر اليدين، ليقبض جوائزه من أبيه الجواد، كما سخر منه بذلك سليمان.
وربما كان الخذلان والحرمان أهن ما يلاقي شاعر تحدثه نفسه أن يظهرها أمام خليفة جائع إلى كذاب التمداح، وربما كان الفرزدق من عشيرته الباذخة المجد ما يحميه من صولة سليمان إذا ما فكر سليمان أن يصول عليه، وربما كان لسياسة أميه في الرفق ولتحلم مندوحة عن السطو والتهور.
ولكن يحدثنا التاريخ كذلك أن هشام بن عبد الملك، دخل عليه - إسمعيل بن يسار فاستنشده فقال:
إني وجدك ما عودي بذي خور ... عند الحفاظ، ولا حوضي بمهدوم
أصلي كريم ومجدي لا يقاس به ... ولي لسان كحد السيف مسموم
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب ... من كل قوم بتاج الملك معموم
جشاجح، سادة، بلج، مرازية ... جرد، عتاق، مساميح، مطاعيم
ويستمر إسماعيل يغالي بنفسه، ويعرف لقومه حقهم. وهشام يتقدم قومه غيظا منه، ويغلي صدره حفيظة عليه، ويفكر ويطول تفكيره في البطش به. ثم يجبه بهذه القولة المائنة الشائنة، الظالمة الغاشمة (أعلى تفخر؟ وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاح قومك؟!) ثم لا يطفئ غضبته، ويهدئ ثائرته، إلا أن يأمر بغطسه في الماء، حتى لتكاد روحه أن تخرج ثم تخرجه الزبانية - وهو يشر - لينفي من وقته إلى الحجاز.
وربما زعم بعض المؤرخين أن هذا إنما هو أخذ على يد الشعوبية، وكسر لهذه العصا الأعجمية التي ترتفع في وجه العرب، وظني أن هذا يصح كعذر يتخذه الذين يجنحون لتبرئه هشام وحمل عمله هذا على بعد النظر السياسي، ولكن ماذا ترون في قولة هشام: أعلى تفخر، وتتمدح بأعلاج قومك: ماذا نرى إلا هشاما كبر عليه أن يرى الشاعر نفسه شيئا وأن يثبتها في حضرة الخليفة الجليل، وقد كان الخليفة ينتظر من الشاعر أن يصرف كل مديح إليه، وينسى للناس كل فضيلة بين يديه.
وإذا وقف الأمر بإسمعيل بن يسار عند الغط في الماء والنفي إلى الحجاز، فلقد أتى الفخر في حضرة الخلفاء على نفس بشار، وأورده مورد الهلكة. ولقد يقول القائلون: إن بشار قضت عليه الزندقة، ويذهبون في ذلك مذهبا ينطلي على عامة الناس وربما أيدوا مذهبهم ذاك بما روى عن واصل بن عطاء، من استعداء على بشار حيث يقول (أما لهذا الأعمى المشنف، المكنى بأبي معاذ من يقتله، والله لولا أن الفيلة سجية من سجايا الغالية لدست إليه من يبعج بطنه في جوف بيته. . .) فما كان يحمل وصلا أن يقول هذه القولة الهائجة المهيجة في حق بشار لولا ما لمسه من زندقته وتحريضه على الفسوق، وإغرائه بالمناكر.
ولقد يسلم مثل هذا القول من النقد لو كان بشار وحده من بين شعراء عصره هو الخارج عن حدود الله، البائح في الغزل المتهالك، المغري للشباب بالفسوق والفجور. إذن لسلمنا واسترحنا وأرحنا. ولكنه كان يضطرب في بغداد مع بشار من هم أشد من بشار مجونا، وأكثر منه غلوا في إفساد الشباب، وذكر السوءات وأبعد مدى في العكوف على اللذات، وكانوا يغدون ويروجون ويعمرون المجالس ويغشون الخلفاء فلا يعرض لهم أحد بشر، ولا يحرص عليهم أحد بقتل أو بمج، فهذا حماد عجرد. وهذا أبودلامة. . يشربان ويطربان، ويقولان في الشراب وفي الدين وفي اللذة ما يقولان، مجاهرة ومعالنة، ثم يغدوان في أمان من الخليفة، وأمان من الخلفاء جميعا وربما انقلبا بكريم الهدايا، وسني الجوائز وقشيب الثياب.
ولقد يسلم هذا القول في بشار. لولا أن العلماء كثيرا ما يكونون (مخالب القطط) التي يتخذها الخلفاء والملوك، يهيئون لهم، ويسايرون أغراضهم، كما يشاء الملق وحب الدنيا، تغريرا بالعامة، وإيقاعا بالبسطاء، فإذا ما أثاروا وصل الحفائظ على بشار، فلما يرى من أحتضائهم، ودالتهم على الخلفاء. وقد حق علينا أن نبدي ما أبرم الخليفة ببشار، فحمله على أن يسطو به هذه السطوة النكراء، حتى يلفظ روحه تحت بطون السياط.
لقد كان بشار عجب مفرط، واعتزاز بالنفس، وإقدام على القول، فإذا بدت له صفحة الكلام نطق، لا يجمجم ولا يتوقف ولا يراجع نفسه، ولقد عرف لنفسه حقها بين يدي الخليفة، كما عرف لها حقها بعيدا عن قصر الخليفة. ولم يعتد الذلة والبذل ماء الوجه حتى في السؤال والاستماحة. فهو دائما العزيز الكريم، وهو أبدا الأبي الأشم.
وأنه لعند المهدي ذات يوم إذ سأله: فيمن تعتد يا بشار؟، فقال: أما اللسان والزي فغريمان، وأما الأصل فعجمي، كما قلت في شعري: -
ونبئت قوما بهم جنة ... يقولون من ذا وكنت العلم
ألا أيها السائلي جاهدا ... ليعرفني، أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر ... فرومي، وأصلى قريش العجم
حتى قال:
فأني لأغني غناء الفتى ... وأصبى الفتاة فما نعتصم
وكان أبو دلامة حاضرا، وكان الملق كذلك حاضرا، فقال كلا!، لوجهك أقبح من ذاك، ووجهي مع وجهك!. قال بشار: ما رأيت رجلا كاليوم أصدق على نفسه، وأكذب على جليسه منك. والله أني لطويل القامة، عظيم الهامة، تام الألواح، للعين فيه مراد. ثم يسأله المهدي: من أي العجم أصلك؟ فيقول: من أكثرها في الفرسان، وأشدها على الأقران. أهل طخارستان!
ليت شعري ما يكون شعور الخليفة على هذا الذي يتزيد ويتعالى، ويحدث عن نفسه وقومه هذا الحديث الغالي أمام خليفة لا يرى فيالأرضيدا فوق يده ولا أحدا مع ذاته.
ولكنها نحيزة بشار في ذهابه بنفسه ومعرفة حقها.
ولم يكن طنزه بخال الخليفة وسخريته منه إلا ضربا من احترام النفس. فقد حدثوا أن يزيد بن منصور الحميري، دخل على المهدي وبين يديه بشار ينشده شعرا، فلما فرغ بشار أقبل عليه يزيد، وقال له: يا شيخ! ما صناعتك؟ فقال بشار ساخرا: أثقب اللؤلؤ!، فضحك المهدي ثم قال لبشار: أغرب ويلك أتتنادر على خالي! فقال: وما أصنع به، يرى شيخا أعمى ينشد شعرا، ويسأله ما صناعته؟.
إذن لم يهتم بشار لاستنكار الخليفة، ولكنه مضى في تبرير سخريته وهزئه من خال الخليفة، ولعمري ما يكون هذا إلا من نفسه مرة لا تلتوي ولا تتعوج، ولكن ذلك ولا شك تارك من السخيمة عليه في نفس الخليفة ما هو تارك!
هذا الحفاظ المر والخلق الوعر، ولا يصلح قط للاتصال بالخلفاء والاحتكاك بهم. لأنه يورث الذل والعتب، بل يورث الانتقام من الخليفة إذا ما عرض كرامة الشاعر للجرح والثلم. وإن الخليفة لتنفلق نفسه دون بشار يوما، وأن بشار ينشده فيحرمه الخليفة، فينطلق الشاعر إلى بيته فيتفتق ذهنه عن هذه القصيدة الحلوة المرة، الغافرة اللامزة النازلة من الشعر الحر بأرفع منزل:
خليلي إن العسر سوف يفيق ... وإن يسارا في غد لخليق
وما كنت إلا كالزمان: إذا صحا ... صحوت، وإن ماق الزمن أموق
خليلي إن المال ليس بنافع ... إذا لم ينل منه أخ وصديق
وكنت إذا ضاقت على محلة ... تيمعت أخرى ما على تضيق
ثم يختمها بهذين البيتين الرفيعي الشأو الآخذين بذؤابة الإحسان:
وما خاب بين الله والناس عامل ... له في التقى أو في المحامد سوق
ولا ضاق فضل الله عن متعفف ... ولكن أخلاق الرجال تضيق!
وتمتلئ نفس الخليفة سخيمة على بشار، فما يكاد يشي به يعقوب بن داود إلى المهدي، حتى يتذرع هذا باسم الزندقة، ويأمر به فيضرب بالسياط حتى تنقطع أنفاسه.
فيالك من شجاعة تورد صاحبها المتالف، وتحمله على أوعر المراكب ولو قد أبصر بشار لقد نجا!
كامل السيد شاهين
مبعوث الأزهر إلى السودان