مجلة الرسالة/العدد 903/القصص
مجلة الرسالة/العدد 903/القصص
الراقصة مارجو
للأستاذ نجاتي صدقي
تدب الحياة في حي الملاهي بعد الساعة الثامنة مساء فتشتد فيه الحركة وتتلألأ الأنوار الملونة في جميع أرجائه، منها ما يشير إلى الإعلان، ومنها ما هو خاص بلافتات المحال التجارية، ومنها ما يدل على الملاهي والمراقص، ويضاف إلى ذلك أنوار السيارات التي تخترق الشوارع طولا وعرضا. . . هذه هي أنوار الأرض الاصطناعية.
وأما في السماء فتنتشر النجوم الساطعة منها ما يلتقي شرفا بأضواء لبيوت الجبال الشاهقة فتهبط وإياها برفق على السفوح وتتملك المرء الحيرة في أمر هذه السماء التي تشبه ستارا من نور ينسدل على الأرض.
وذهبت ذات ليلة مع صديق إلى مرقص يقع في هذا الحي لنرفه عن نفسنا قليلا ولنمتع النظر بالمشاهد الفنية التي تقوم بها الراقصات اليونانيات والإيطاليات والمجريات وغيرهن.
وبعد أن أتمت الراقصات أدوارهن انتشرن حول الموائد وأخذن يتحككن بالحضور ويطلبن منهم السماح لهن بمجالستهم ومداعبتهم لقاء (كأس) من الخمر فقط.
ولا أدري كيف جلست مارجو إلى مائدتنا كما أنني لا أدري من الذي دعاها إلى مشاركتنا مسرتنا. . . وأخذت مكانها بيني وبين صديقي وصفقت بيديها طالبة من الخادم كأسا من الويسكي.
والراقصة مارجو هذه في الثلاثين من عمرها جميلة الصورة، وشعرها أقرب إلى لون الخرنوب منه إلى السواد، وعيناها ترسلان إشعاعا ساخرا، وفمها عنابي صغير الحجم، وشفتاها منفرجتان قليلا، وأنفها معتدل جميل الهندسة، وهي على الجملة ضحوك لعوب سريعة التعرف إلى الناس.
وعكفت مارجو تحدثنا دون تكلف وتمازحنا وتماجننا وتروي لنا النكت بلغة عربية مشوهة يلذ للمرء أن يستمع إليها طويلا.
ثم صفقت بيديها ثانيا وطلبت كأسا أخرى من الويسكي واستمرت مارغو تروي لنا النكت ونحن نضحك ثم راحت توزع علينا عطفها فتارة تميل إلى جانب صديقي وتقبله في عنقه، وتارة تميل إلى جانبي وتقبلني في وجنتي. تطوقنا بذراعيها العاريتين وتسألنا بالتناوب: أتحبني؟. فأخذتنا النشوة وكنا نقول لها معا: نحبك. . ونعبدك. . ما أنت فلأي منا تميلين ذلك أكثر؟ فتقهقه وتجيبنا أنتما الاثنان أعز لدي من روحي. . . وتغمرنا بالقبل الحارة.
ثم صفقت بيدها ثالثة وأمرت الخادم قائلة، هيئ مائدة العشاء.
وسألتنا أيمكنني العشاء معكما؟ فتحركت فينا النخوة العربية وقلنا لها لا يجوز لكي أن تطرحي علينا سؤالا كهذا. تفضلي واطلبي ما تريدينه من عشاء.
وكان العشاء مزيجا من لحم الديك الرومي والبطاطس المحمرة والخضار المشكل والسمك المقلي، والسلطات، والحلويات ثم رفعت الصحون وعدنا إلى شرب الويسكي.
ويبدو أن مارغو قد ثملت قليلا ودبت الحرارة في شرايينها فصارت تصفق بيديها بين الفينة والفينة، وتطلب كأسا من الويسكي. وأخيرا مالت علي وقالت: أي نور عيني - لقد سئمت الويسكي أتسمح لي بطلب زجاجة من الشمبانيا؟ أرجوك. فاحمر وجهي خجلا، وصعب علي أن أرى فتاة تستعطفني، فقلت لها: تفضلي واطلبي. . فصفقت مارغو بيديها ونادت بأعلى صوتها: جورجي! إيتني بزجاجة شمبانيا في صطل ثلج.
ومما أثار دهشتي ودهشة زميلي أن جميع الراقصات وأصحاب المحل والخدم كانوا يرقوننا بنظرات غريبة هي مزيج من الازدراء والشفقة.
وجاءت زجاجة الشمبانيا وأفرغناها في أجوافنا، وهنا شعرت أن زمام الأمر انتقل إلى يدي مارغو فراحت تأمر وتنهي كما تشاء. . فطلبت زجاجة ثانية من الشمبانيا. وألحقتها بزجاجة ثالثة. . والخدم يلبون أوامرها ويكدسون أوراقا مقلوبة على وجهها تحت صحن اللوز والبندق. . ولما قاربت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل صفقت مارغو بيديها وقالت: جورجي. . . هات حسابك.
فجاء جورجي مسرعا ومن ورائه أصحاب المحال والعازف على (الأوكرديون) زأخذ يجمع ويضرب وقال: - ستون جنيها وأربعة وأربعون قرشا.
فتطلعت إلى صديقي فرأيت عينيه تدوران في الحدقتين. . ثم أخرج من جيبه أربعين جنيها وأخرجت أنا المبلغ الباقي. . . وأدينا الحساب ثم قالت لي مارغو: اعطني عشرة جنيهات، خمسة فخمسة!. قلت: ولماذا؟. . قالت لا تسل!. فامتثلت لأمرها ونقدتها عشرة جنيهات خمسة فخمسة. فصرخت قائلة: جورجي. خذ هذه الجنيهات الخمسة لك. ثم نادت اليكس فاقبل العازف على الأوكرديون ونقدته خمسة جنيهات أيضاً وقالت له اعزف لنا ألحانا شجية. . وشرع اليكس يعزف (سريناد الحب) لنوبرت، (الرابسودية المجرية) للبست، و (فالد الدانوب الأزرق) للستراوير. ثم نهضت مارغو ونادت بأعلى صوتها: أوركسترا اعزفوا (فوكستروت) عنيف. . وأخذتني من يدي وقادتني إلى حلبة الرقص ولم يكن فيها أحد غيرنا، وكنت أدور معا فاقد الوعي من أثر الخمر، وأصابني دوار شديد، وكانت هي تطوقني بذراعيها وتدور، وأنا أضحك كالأبله وهي تصرخ. . أوركسترا اعزفوا بعنف. . بسرعة. . فاختلطت الأنوار في رأسي بالألحان الموسيقية وبالراقصات وبالموائد والخدم. . نم وقعت على الأرض فرفعني الخدم وأعادوني إلى كرسي. ومارغو تضحك وتترنح ذات اليمين وذات اليسار وتقول: يا لعيبك. أتقع!.
وقدمت لنا القهوة المرة فصحونا قليلا وشعرنا بأننا ارتكبنا حماقة لا مثيل لها، وشعرت مارغو بأننا أسرفت في الاستخفاف بنا، فأحبت أن تواسينا وقالت: لا تحزنا فنصيحتي إليكما ألا تقدما في مرة أخرى على دعوة راقصة إلى مائدتكما. . احضرا إلى هذا الملهى إذا شئتما، وتفرجا على المشاهد الفنية، ولكن لا تجالسا الراقصات.
ثم راحت مارغو تروي لنا قصة. . قالت: (أنني حقيرة في نظركما أليس كذلك؟. . آه يا عزيزي سامحني على ما بدا مني، أنني شقية مسكينة. . كنت في صباي على قدر وافر من الجمال فعشقني شاب وسكنت وإياه في بيت فرش بأفخر الفراش وكانت لنا سيارة وكان لنا خدم وكنت أتصرف بماله كما يحلو لي. وقضيت ثلاث سنوات وأنا أعاشر ذلك الثري فألححتعليه أن يتزوجني زواجا شرعيا فكان جوابه أن هجرني ونبذني. .
فصدمت في آمالي وشبابي وانتقمت من الحياة ومن نفسي بأن التحقت بالملاهي. . وما أناالآنإلا فتاة من فتيات الملاهي، وحياتي هذه تفسر لكما عطفي على الخادم والعازف على الاكورديون، ومنحي لكل منهما خمسة جنيهات. . انهما فقيران مثلي ومسئولان عن عائلتين كبيرتين. . لا تحزنا أيها الصديقان العزيزان. . هيا بنا الآن فقد شارفت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.
أما صديقي فقد نهض على عجل ولبس معطفه وقال أسعدتما صباحا. . واختفى وتشبثت بي مارغو وهي تقول: لا تقتف أثره. . خذ هذا مفتاح نزلي وهو يقع في شارع البوارديه رقم 13. . اذهب فانتظرني عند الباب الخارجي. أفهمت قصدي من ذلك؟ أنني لا أريد أن يشعر صاحب المحل أو الخدم أن في الأمر ما يسيء إلى سمعتي!.
واستأجرت سيارة أوصلتني إلى بيت مارغو فاستفهمت من السائق عن هذا البيت فقال لي هذا سكن بعض بنات الملاهي. . فانتظرت قليلا عند الباب الخارجي وإذا بفتاة تلقت بمعطف أبيض تحاول الدخول إلى السكن لكنها سرعان ما ارتدت على عقبيها عندما رأتني مستندا إلى الباب وأنا أدخن لفافة من التبغ. . وبعد خمس دقائق عادت هذه الفتاة وبرفقتها ثلاثة حراس، فلما صاروا بالقرب مني قالت لهم: ما الذي يدعو هذا الرجل إلى الوقوف عند نزلنا؟. . أن قلبي يحدثني بأنه يتربص بي أو بإحدى زميلاتي. . أنه أحد الناقمين علينا. . فتندم حارس مني وساءلني بلهجة شديدة: ماذا تفعل هنا لا في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل؟. فأجبته بلسان معوج، أد. . أد - تظرما. رغو!.
فقالت الفتاة للحراس. . أسمعتم. . فاقتادوني إلى المخفر عنوة وقضيت فيه ليلة ليلاء!
نجاتي صدقي