مجلة الرسالة/العدد 902/الإسلام في الجزائر البريطانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 902/الإسلام في الجزائر البريطانية

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 10 - 1950



للأستاذ بدوي عبد اللطيف عوض

من العسير معرفة تاريخ وصول الإسلام إلى الجزائر البريطانية على وجه التحديد، وأكبر الظن أنه يرجع إلى نحو عشرات من السنين خلت.

ويمكن تلخيص قصة مجيء الإسلام إلى تلك البلاد فيما يلي. منذ أكثر من ستين عاما رغبت شخصية غنية من كبار الإنجليز في بناء جامعة للطلاب الهنود، ومعبد للهندوس، ومسجد للمسلمين، ومنزل لهم جميعا في إحدى ضواحي لندن التي تسمى (ووكنج) ولكن المشروع لم يتم منه إلا بناء المسجد، والمعبد.

ثم ظلت تلك الأبنية غير مستعملة، وقد تحول المعبد أخيراً إلى مصنع. أما المسجد فظل أمره مهجوراً.

ومنذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما حضر إلى لندن محام هندي مسلم يدعى (خواجا كمال الدين) فسمع بقصة المسجد المهجور، فعزم على الاستقرار في لندن، وتعمير هذا المسجد، وتنظيم جالية إسلامية هناك، وزاده حرصا على ذلك ما كانت تتيحه له ظروفه المالية من رخاء وثراء، يسرا له أن ينجح في هذا المشروع العظيم.

لقد أثمر مجهودات (خواجا كمال الدين) وكان لها آثار شتى ظهرت في هذه الحياة الجديدة، فقد جاءت الإرساليات الإسلامية الأولى إلى إنجلترا وتوالت الوفود تثرى، فنشروا الإسلام، وكانوا النواة الأولى لتكوين وحدة دينية نظامية لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء هذه البلاد.

حقيقة لقد صادف المسلمون بادئ الأمر عقبات كثيرة، وإمعان في المناوأة لا من الحكومات وولاة الأمر هناك، ولكن من رجال الكنيسة الذين كثيرا ما تناولوهم وتناولوا الدين الإسلامي بالتجريح والطعن فيه، لكنهم اعتصموا بالصبر الجميل، وتذرعوا بقوة الإيمان الصادق.

كانت الصورة المعروفة عن الدين الإسلامي لمعظم العامة من الإنجليز، هي أن الإسلام لا يعرف إلا الانتقام والسيف لاقناع الشعوب والأمم باعتناقه، حتى أن البسطاء، والسذج منهم ظنوا أن هذه الوفود والإرساليات الإسلامية الأولى التي نزحت إلى الجزائر البريطانية، قد جاءت لخطف نساء الإنجليز وأولادهم وأن هذا بعض ما قصد إليه المسلمون.

كان من جراء ذلك أن رفض بعض المحال التجارية والمطاعم في تلك الضاحية (روكنج) أن يتعاملوا معهم مما اضطر المسلمين وقتا ما أن يستحضروا طعامهم وحاجاتهم من لندن.

ولكن سرعان ما تبددت هذه الخرافات بفضل جهود الإرساليات الإسلامية الأولى التي كشفت للإنجليز والشعوب المختلفة هناك حقيقة الدين الإسلامي، وذلك بالخطابة والقاء المحاضرات العامة، وإذاعة النشرات، والكتب الإسلامية. هيأت المقادير حينذاك شخصية عظيمة من كبار رجال الإنجليز البارزين اعتنقت الإسلام، وقدت جماعة المسلمين تلك هي شخصية (اللورد هادلي) الذي اعتنق الإسلام عن حق وصدق ويقين، حين ظهر له أن هذا الدين دين الأمانة والصدق، وعلو النفس، وحب البر، والرحمة، وأنه الدين الذي يرتفع بالقلوب والأرواح لتتصل بالله ليعبدوه مخلصين له الدين، ولينبذوا عبادة ما سوى ذلك، مما يجعل القلوب والنفوس أشد من الأصنام تحجرا وقسوة.

زاد هذا الحادث الفذ في مكانة المسلمين، وازدهرت الحركة الإسلامية بإسلام (اللورد هادلي) واكتسبت كثيراً من القوة والنفوذ؛ فتكونت الجمعية الإسلامية البريطانية برئاسته لنشر الإسلام وتعريف الإنجليز وسكان الجزائر الإنكليزية أحوال المسلمين وتاريخهم وعقائدهم، وأهاب الرجل ومن معه من المسلمين بمن اتصل به من الناس أن يدركوا ما في الإسلام من جلال وخطر وسمو عن كل وضيع، وتعال عن كل دون، وأنه الدين الذي تتجه سياسته إلى توفير الطمأنينة لمن يتبعونه، وكفالة حرية الرأي لهم في عقيدتهم، وأن المسلم والنصراني، واليهودي سواء في حرية العقيدة والرأي، والدعوة إليه، وأن الحرية وحدها هي الكفيلة بانتصار الحق على الباطل، وتقدم العالم نحو الكمال.

لفت هذا أنظار الإنجليز وغيرهم إلى الدين الإسلامي، وأعلمهم أن الخرافات التي تحيط به في أذهان الناس ورؤوسهم لا نصيب لها من الحق والصحة. وتبع ذلك أن أعتنق الإسلام كثير من الشخصيات البارزة الإنجليزية وغيرهم، وانتقلت الدعوة من دوائرها الضيقة المحدودة إلى أوسع منها، وفشا ذكرها، وذاع أمرها، في كل الجزائر الإنجليزية بعد أن كانت حبيسة بين نعض المدن والولايات.

استمر الإسلام والمسلمون يزدادون انتشارا وعددا، ولم يمر يوم إلا أسلم فيه بعضهم لله وجهه، وكان الفقراء والعمال أشد الناس على الإسلام إقبالا، حين عرفوا أنه يدعو إلى الحب والمروءة والتسامح، والحرية العزيزة على النفس إعزاز المرء حياته.

حقيقة أن الهجرات الإسلامية المتوالية من مختلف الأقطار الإسلامية إلى تلك البلاد طلباً للعلم أو الرزق أو التبشير، وحقيقة أن الطريقة الموفقة التي أنتهجها الدعاة في الدعوة إلى الإسلام، وعدم ما عسى أن يوجد في مثل هذه الظروف والأحوال من أنواع الأذى وضروب المقاومة، كل أولئك كان ذا اثر كبير في إقبال الناس على دين محمد واتباعهم إياه، وتقدم المسلمين والدعوة الإسلامية خطوة جديدة واسعة، فقد كان الدعاة يعتمدون حقا على أسمى الطرق التي وصلت إليها الإنسانية في سبيل تحرير الفكرة، تلك الطريقة التي تلزمك أن تمحوا من نفسك كل رأي وعقيدة سابقة لك فيما تريده من بحث ودرس وتمحيص، ثم تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم الاستنباط الناتج من هذه المقدمات العلمية، حتى تصل إلى النتيجة العلمية الخاضعة بالطبع لهذا البحث والتمحيص.

إنفسح المجال أمام المسلمين، وأخذوا ينشرون تعاليم دينهم في جميع الجهات التي نزلوا فيها، فتركت هذه التعاليم في النفوس أعمق الأثر حتى لقد أقبل كثير من السكان في على الإسلام.

والمسلمون في هذه البلاد يتكونون من شعوب وجنسيات مختلفة، الهنود الأندنيسيون، الأتراك، البولنديون، العرب، المصريون، الإنجليز، الإيرانيون، الشاميون، الأفريقيون، مثل تنجانيقا، ونيجريا، وساحل الذهب وغير ذلك كأهل الملايو، والمغارية، والصينيون.

لكن معظم هؤلاء جميعا يتكون من الباكستانيين، إذ بلغ عددهم حوالي ثلاثين ألفا في إنجلترا، أما العرب فهم نحو أربعة آلاف مسلم، منهم نحو ألفين يقيمون في (كاردف) وهؤلاء الكاردفيون لهم مسجد لإقامة الصلوات والشعائر الدينية وجمعية إسلامية لتنظيم أحوالهم.

أما عدد الإنجليز الذين أسلموا إسلاما حقيقيا في الجزائر البريطانية فحوالي أربعة آلاف نسمة معظمهم من العسكريين والعمال الذين قضوا شطراً من حياتهم في الأقطار الشرقية.

أما المصريون المقيمون فيم قلة، إلا إذا حسبنا أولئك الذين نزحوا إلى تلك البلاد في عمل تجاري، أو طلبا للعلم وهؤلاء يبلغون ألفا أو يزيد.

كذلك توجد جاليات إسلامية في مانشتر وليفربول، وجلاسجو والمدن الأخرى الهامة مثل أكسفورد وكمبردج وهؤلاء يختلفون قلة وكثرة.

وأيا ما كان الأمر، فعدد المسلمين جميعاً غير معروف بالضبط ولذا كان تقديرهم غير دقيق، لأنه لم يحدث أن أجرى لهم تعداد أو إحصاء سابق، إلا أنه يمكن القول بأن عددهم اليوم حوالي ستين ألفا من الأنفس، وأن هذا العدد في ازدياد مطرد كل سنة، نتيجة للراغبين في الإسلام، ونتيجة لتزاوج المسلمين بغيرهم من الأجنبيات اللاتي يرحبن كثيراً بأن يكن على دين أزواجهن.

ويحمل بنا في هذه المقام أن نتحدث عن الجمعيات أو المراكز الإسلامية في الجزائر الإنجليزية بشيء من الإيجاز.

المركز الثقافي الإسلامي:

هو أهم المنشآت الإسلامية بإنجلترا، وهو يشغل قصرا من أفخم القصور وأكبرها في لندن وفي أحيائها العظيمة ويلاحظ فيه بذخ الرباش وفخامة الأثاث وبه حديقة واسعة الأرجاء، غنية بورودها وزهورها وأشجارها الفارعة وبهذه الحديقة ملعبان للتنس. .

وهو كذلك المكان الأول الذي يلقي فيه المسلمون المقيمون في إنجلترا ويستقبل الشخصيات الإسلامية الوافدة إلى لندن، فيهيئ لهم أسباب الراحة والاستقرار ويتيح لهم فرصة الاجتماع بالمسلمين المقيمين هناك.

والمركز الثقافي الإسلامي بلندن جزء من المشروع العظيم الذي شجعه، وما يزال يشجعه صاحب الجلالة مولانا الملك (فاروق الأول) أيده الله بروح من عنده، فقد افتتح جلالته اكتتابا عام 1940 بعشرة آلاف جنيه لإنشاء مركز إسلامي، ومسجد بلندن.

وتوالت التبرعات بعد ذلك من ملوك الدول الإسلامية وحكوماتها. ولما وضعت الحرب الأخيرة أوزارها أنشئ هذا المركز الإسلامي وزوده جلالة الفاروق أعزه الله بآلاف الكتب الإسلامية، ولا يزال في كل مناسبة يزوده بمختلف المؤلفات الدينية النفسية، ويوليه عنايته ورعايته.

ورئيس المركز الإسلامي هو فضيلة الأستاذ الدكتور علي حسن عبد القادر أحد علماء الأزهر الممتازين، وقد تخرج في جامعة برلين، ولندن، وهو واسع الثقافة والإطلاع.

وقد استطاع بما عرف عنه من جد ونشاط ومثابرة أن يعد هذا المركز إعداداً طيباً وأن يجعله مركزا ثقافيا ممتازا.

ولما اتسعت أعمال المركز الإسلامي وتشعبت النواحي، وأزداد النشاط فيه، وذاع أمر الدعوة بين الإنجليز وغيرهم، بما جعل أمر الإسلام ينتشر ذكره في تلك البلاد، وأصبح المسلمون في حاجة إلى مزيد من العناية والتوجيه؛ لما كان الأمر كذلك رغب الأستاذ الدكتور علي عبد القادر ورغب معه رئيس الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى وبعض كبار المسلمين هناك إلى المسؤولين في مصر أن يزودوا المركز الإسلامي ببعض الأساتذة من علماء الأزهر، لنشر الإسلام، وتنوير المسلمين في شؤون دينهم، فلبى الأزهر هذه الرغبة الطيبة، وسمع لها، وقرر مجلسه الأعلى في نوفمبر سنة 1948 إيفاد أثنين من مدرسي كلية أصول الدين في بعثة دراسية إلى لندن هما فضيلة الأستاذ سليمان دنيا، وكاتب هذا المقال.

وأسند إليهما حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر العمل في المركز الإسلامي على تأدية رسالة الأزهر وإعلان دين الله وإعلاء كلمة الحق معه في هذه البلاد.

وقد حققت هذه البعثة بعض رجاء الإسلام والوطن والأزهر فيها، فنظمت بالتعاون مع فضيلة الأستاذ الدكتور علي عبد القادر النشاط الديني والثقافي في المركز الإسلامي، وبرز هذا النشاط في صورة كانت موضع الارتياح والاغتباط من الجميع في الحفلات التي يدعى إليها المسلمون وغيرهم من مختلف الأديان والأجناس.

كذلك فتحت المكتبة العامة للمركز الإسلامي أبوابها للزائرين في مواعيد مختلفة للاطلاع والانتفاع بكتبها القيمة وفنونها المختلفة.

والصلوات المفروضة أقبل عليها المسلمون كذلك في كثرة لم تعرف من قبل، ولا سيما في أيام الجمع التي يعتبرونها أعيادا لهم، يتبادلون فيها أنواع الأحاديث الشيقة وأسباب الأخوة الخالصة.

ونأمل أن يواصل الأزهر جهوده وبعوثه حتى يتمكن من تأدية رسالته على أكمل وجه وأفضله، بفضل رعاية حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك (فاروق الأول)

حقا لقد سر المسلمون كثيراً إذ وجدوا في قلب لندن مكانا إسلاميا، بل جامعة إسلامية يتزودون بالعلوم الإسلامية ويبسطون فيه مشاكلهم الدينية، ويتشاورون فيما يطرأ عليهم من الأمور.

وسروا كذلك إذ وجدوا داراً تقام فيها المراسيم الإسلامية، ويعتنق الإسلام كل من يرغبه، وتعقد فيها الزيجات الإسلامية. وتحل المشاكل الزوجية.

مسجد لندن:

وأحسب أن المسلمين ستفيض نفوسهم بالغبطة وتمتلئ قلوبهم بالمسرة إذا رأوا مسجداً مشيداً بجانب المركز الثقافي الإسلامي، يكون مثابة للناس وإليه تكون وجهتهم في أمورهم وعبادتهم، وليؤدوا فريضة فرضها الله على الناس جميعاً.

إن الأرض الفضاء التي تبرعت بها الحكومة الإنجليزية بناء المسجد والتي هي بحق في أجمل مناطق لندن لا تزال فضاء.

إن المبالغ التي جمعت من الاكتتاب قد أنفق بعضها في تنظيم المركز الإسلامي وتأثيثه، والباقي قليل لا يكفي لبناء المسجد وتشييده.

إنه من الخير، والخير العظيم حقا أن تتضافر الجهود وتتعاون الحكومات الإسلامية، ومن أشرب قلبهم حب الخير والبر، على المشاركة في بناء مسجد لندن وأن يكون بناؤه عظيما وأن تكون عظمته لافتة أنظار الملايين من الناس الذين يمرون به ويزورونه، نريده مسجداً فخما، على طراز المساجد العظيمة التي شيدت في عصر المماليك، وعصر الأسرة العلوية الملكية (عصر النهضة العربية الحديثة) لأنه سيكون منارة الإسلام وقبلة المسلمين في العاصمة البريطانية بل في عاصمة الدنيا الحديثة.

إذا كانت مصر قد فكرت في إنشاء المركز الثقافي الإسلامي، ومسجد لندن، وساهمت بمعظم المبلغ الذي جمع من الاكتتاب، وإذا كانت مصر قد نجحت في تنفيذ فكرة المركز الإسلامي بفضل صاحب الجلالة مولانا الملك، وأن هذا النجاح قد أتاح لها مكانة رفيعة، ومقاما كريما في الأوساط الدينية والعلمية بإنجلترا؛ إذا كانت مصر قد فعلت ذلك، فأجمل بها أن تتم هذا المشروع العظيم، وأن يخصص القائمون بالأمر في ميزانية الدولة من المال ما يكفي لبناء هذا المسجد والإنفاق عليه حتى يستمر في أداء رسالته على أفضل وجه. وأكمل سبيل. وحتى تتناول الحياة فيه من صورة النشاط الديني والثقافي ما يوازي بينها وبين سمو الفكرة وتحقيق المثل الأعلى للإسلام والمسلمين في تلك البلاد.

البقية في العدد القادم

بدوي عبد اللطيف عوض

أستاذ في كلية أحوال الدين وعضو بعثة فؤاد الأول الأزهرية

بإنجلترا والملحق بالمركز الثقافي الإسلامي بلندن