مجلة الرسالة/العدد 9/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 9/الكتب
في النقد
للدكتور طه حسين
سلمى وقريتها: كتبته باللغة الفرنسية (مدام أمي خير)
أهل الكهف: كتبه باللغة العربية (توفيق الحكيم)
ليختصم أنصار الجديد وأنصار القديم، ما وسعتهم الخصومة وما وجدوا من أنفسهم قوة على احتمال أثقالها، والمضي فيما تحتاج إليه من الجهاد. فان الزمن يمضي في سبيله رغم خصامهم وصلحهم. وهو لا يمضي وحده ولكنه يدفع أمامه قوما منا، ويجر وراءه قوما آخرين. وهو منته بأولئك وهؤلاء إلى حيث يريد هو من التغير والتطور والتجديد، لا إلى حيث يريدون هم من الوقوف والجمود والإسراف في المحافظة على القديم كل القديم. .
ولقد خطر لي هذا بعد أن فرغت من قراءة ما ينشره أصدقاؤنا في (الرسالة) حول التجديد وأنصاره، وحول المحافظة وأصحابها. وقد فرغت أيضاً من قراءة طائفة من هذه الكتب الكثيرة التي أظهرتها الشهور الأخيرة، والتي تجتمع أمامي تزداد من يوم إلى يوم، وتلح عليّ في أن أفرغ لها وأجلس إليها وأنظر فيها، فأنصرف بها عما يحيط بي من ظروف الحياة التي أعمل فيها كل يوم.
نعم فكرت في هذا، وقد فرغت من قراءة بعض هذه الكتب، فإذا نحن نختصم في الجديد والقديم، ونسرف في الخصومة، ونغلو في التفسير والتأويل، على حين يدفعنا الزمان في طريق التجديد دفعا لا سبيل إلى مقاومته، أو يجرنا في هذه السبيل جراً لا سبيل إلى الإفلات من قوته. ولكني وقفت عند ظاهرة لعلها تستحق أن يقف عندها النقاد والمفكرون، وهي هذا الشكل العقلي الفني الذي تأخذه الصلة بين الشرق والغرب في هذه الأيام، فقد كنا منذذ حين نتأثر بالغرب ونسعى إليه ونقتبس منه ونريد أن ننقله إلينا إن صح هذا التعبير. وكان هذا السعي يفني شخصيتنا أو يكاد يفنيها، فإذا نحن غربيون في تفكيرنا وتعبيرنا وحياة عقولنا وقلوبنا. وإذا حظوظنا تختلف من هذه الغربية قوة وضعفا. منا من يحسن التقليد، ومنا من يسيئه. وكان ضعف شخصيتنا هذا يبغضنا إلى المحافظين من أهل الشرق ويزهدهم فينا. وكان يثير في نفوس المجددين من أهل الغرب حبا لنا يشوبه العطف والاشفاق، وكنا نضيق ببغض أولئك وحب هؤلاء، ونتمنى لو نقف من أولئك وهؤلاء موقفا طبيعيا لا حرج فيه ولا تكلف ولا ضيق.
كذلك كانت حال كتابنا وشعرائنا في هذا العصر الحديث حين كانوا يريدون التجديد أو يذهبون إليه. ولكن الأمر تغير في هذه الأيام فقويت شخصية الكتاب والشعراء حتى آمنت بنفسها وآمن بها الناس من حولها في الشرق والغرب جميعا، وأصبح كتابنا وشعراؤنا ينشئون النثر ويقرضون الشعر فلا يزور عنهم كثير من المثقفين حقا في الشرق، ولا يرفق بهم أهل الغرب، وإنما يحبهم أولئك فيقرئونهم ويخلصون لهم النصح والنقد والتشجيع، ويقدرهم هؤلاء فيدرسونهم ويقيسون الآماد التي قطعوها في سبيل التجديد والاتصال بالحضارة الغربية والتمكين لهذه الحضارة في بلاد الشرق دون أن تفنى شخصياتهم أو يصيبها الضعف والفتور.
وأغرب من هذا الذي تراه حين نقرأ ما يكتبه (جيب) و (كمفمير) وغيرهما عن كتابنا وشعرائنا، انك تلاحظ في هذه الأيام، أن من أهل الشرق من يتمثلون الغرب حتى كأنهم من أهله فيتحدثون إليه بلغته ويفكرون كما يفكر، ويشعرون كما يشعر، ويشاركونه بهذا في إنتاجه الأدبي الخالص، ويصدرون كتبهم حيث يصدر الغرب نفسهكتبه في لندن أو باريس. وإذا هذه الكتب تصل إلينا من عواصم الغرب فنتلقاها كما كنا نتلقى الكتب الغربية من قبل، وتتناولها صحفنا بما تتناول به كتب الغرب من نقد وتقريظ، وترى بعض أهل الشرق يتمثلون الغرب ويسيغونه ويهضمونه إن صح هذا التعبير، ويذيبونه في أنفسهم، ويغلبون شخصيتهم عليه ويغذون قوميتهم به. ثم يتحدثون إلينا بلغتنا مهذبة، ويفكرون معنا بطرائق تفكيرنا مصفاة، قد أضيفت إلى ثروتها ثروة أخرى فأخصبت وأتت ثمراً نحبه ونستعذبه ونستزيد منه فنلح في الاستزادة.
وكذلك يتصل الشرق بالغرب اتصالا عقليا وفنيا بعد أن كان الاتصال بينهما ماديا تقليديا، وكذلك نتقدم في التجديد خطوات واسعة قيمة مغنية حقا، فنضيف إلى ثروة الغرب كما يضيف الغرب إلى ثروتنا.
وأنا أريد أن أتحدث إليك الآن عن كتابين يمثلان هذه الحال التي وصفتها من الاتصال المتكافئ الكريم بين الشرق والغرب. فأما أحد هذين الكتابين فقصة كتبت بالفرنسية. وأما الآخر فقصة كتبت بالعربية، لأول الكتابين قصص خالص، والآخر قصص تمثيلي؛ أول الكتابين لسيدة لبنانية هي السيدة أمي خير، والثاني لكاتب مصري هو الأستاذ توفيق الحكيم.
أما كتاب مدام خير فهو: (سلمى وقريتها)، سمعنا عنه منذ أكثر من عام وتحدثت إلينا صاحبته، بخلاصته وقرأت علينا بعض فصوله في محاضرة ألقتها مدام خير منذ عام في قاعة من قاعات الكونتننتال حيث يجتمع أصدقاء الثقافة الفرنسية في يوم الجمعة من كل أسبوع أثناء الشتاء. وكنا قد أحببنا ما سمعنا من هذا الكتاب ومن الحديث عنه، ومنينا أنفسنا ساعات لذيذة نقضيها معه بعد أن يتم طبعه ويعود إلينا من باريس في ثوبه الفرنسي الجديد. ولكني شديد الاحتياط، أسيء الظن بنفسي ورأيي ولا اطمئن إلى هذه الأحكام العجلى، ولست أخفي أني أسأت الظن بما أحسست من رضى عن هذا الكتاب في العام الماضي، وأشفقت أن يكون مصدر هذا الرضى براعة مدام خير في المحاضرة وحظها من حسن الإلقاء، وقدرت إن الخير أن انتظر حتى يصل إلي الكتاب فأقرأه بعيداً من صاحبته ومن صوتها العذب وحديثها الجميل.
ووصل إليّ هذا الكتاب منذ أسابيع، فخلوت إليه ساعات ولست أخفي أني رضيت عنه رضى كثيراً وأعجبت بفصول منه إعجاباً عظيما، ووقفت عند فصول أخرى وقفة من يشعر بشيء منالرضى لا إسراف فيه.
موضوع الكتاب ظاهر من عنوانه، فهو قصة فتاة لبنانية وتصوير للقرية التي عاشت وماتت فيها. والمؤلفة تنبئنا بأن كتابها صورة فوتوغرافية لسلمى وقريتها. وقد يكون هذا حقاً بل هو حق. وهو في الوقت نفسه مصدر فضل الكتاب ومصدر شيء مما يلاحظ عليه. وكم كنت أود لو أن هذا الكتاب لو يكن صورة فوتوغرافية، بل كانت صورة فحسب، صورة من عمل الإنسان لا من عمل الآلة الفوتوغرافية، صورة تظهر فيها شخصية الكاتبة ظهوراً واضحاً نأنس إليه ونستعين به على إساغة هذه الحقائق التي يشتمل عليها الكتاب. ولكن القصة كانت كما أرادت مدام خير صورة فوتوغرافية، فامتازت بالصدق وامتازت بالدقة، وفقدت شيئاً كثيراً من الحياة والتأثير.
ليست القصة غريبة ولا طريفة، وإنما هي شيء مألوف نكاد نقرءه في كل كتاب (استغفر الله) نكاد نقرءه في كتب كثيرة ألفت في القرن الماضي، ونكاد نجده في كل كتاب من كتب الأدب العربي حين يتحدث عن العشاق الذين يضنيهم الحب حتى يسلمهم إلى الموت. فقد أحبت سلمى فتحي من قرية مجاورة لقريتها في شمال لبنان. مرض أبوها وقامت أمها على تمريضه وانفردت هي بالذهاب إلى المزرعة فلقيت فيها هذا الفتى الغني الموسر المثقف بعض الشيء. فمال الفتى إليها ومالت هي إليه ثم تحدثا ثم عرف كل منهما أمر صاحبه. ثم ملأ الحب قلب الفتاة وملك عليها نفسها، ثم بريء الأب من مرضه وانقطع لقاء المحبين فكانا يختلسان ساعات يلتقيان فيها. ثم ظهر الأب على بعض الأمر. فضرب الفتاة وذهب يعاتب الفتى ويعرض عليه الزواج. فاعتذر وأرسله عمه إلى مصر يلتمس فيها الثروة ويبدد فيها حبه على ضفاف النيل، وأصاب الفتاة حزن عميق كان الأمل يخففه حيناً ويضاعفه أحيانا. ثم كان اليأس. وزوجت الفتاة من شاب كان يكلف بها. فحاولت أن تخلص له وجدّت في ذلك ولكنها لم تستطع أن تخلص من حبها القديم فيضعف قلبها وجسمها عن الوفاء بحبها الأول والإخلاص لحب زوجها فيأخذها مرض، ما يزال بها حتى ينقذها من هذه الحياة.
فأنت ترى أن ليس في القصة شيء غريب مبتكر، ولكن جمال القصة مع ذلك شيء لا سبيل إلى الشك فيه، ومصدره فيما يظهر هذا التصوير الفوتوغرافي الذي ينقل إليك قرية من قرى لبنان. وما فيها من حياة نحب سذاجتها، ووداعتها، وجمالها الطبيعي الذي لم يفسده التكلف، ولم يشوهه الإغراق في الحضارة. والذي يمتزج فيه الإيمان الخالص الحر بالحياة الخالصة الحرة. نعم ونحب في هذه الحياة التي يملؤها النشاط المنتج في فصل العمل، وتملأها الراحة الهادئة في فصل السكون، ولعلنا نحب أيضا هذا النوع من العشق الذي ينبعث من القلب الإنساني في غير تكلف ولا ترف ولا تأثر بفلسفة العقل وتهالكه على البحث والتحليل والاستقصاء. ثم نحن نحب بعد هذا كله وفوق هذا كله هذه الصور الفوتوغرافية لطبيعة لبنان في أشكالها المختلفة. لهذه الجبال الشاهقة يكسوها الجليد إذا كان الشتاء، ويزينها الربيع بالشجر المخضر. ولهذه الوديان التي يجاهدها الإنسان جهاداً عنيفاً ليستخرج منها القوت الذي يستعين به على الحياة، وحب اللبنانيين القوي الصادق الساذج لطبيعتهم وجبالهم وأوديتهم، حتى انهم ليفتتنون بها فتنة تجعلهم جميعاً شعراء.
والغريب من أمر هذه القصة أنها ليست صادقة في تصوير موضوعها وحده، بل هي صادقة في تصوير ناحية من نواحي الكاتبة نفسها، أريد بها ناحية المهارة الفنية، ففي أولها شيء من الضعف والبطء واستقصاء اللغة، كأن الكاتبة تجاهد نفسها بعض الشيء، حتى إذا مضت في القصة مرحلة أو مرحلتين أصبح قلمها طيفاً وألقت إليها اللغة الفرنسية أعنتها واستقاد لها الأسلوب الفرنسي فانطلقت حرة سمحة كأنها قد أتمت التمرين. لهذا كان آخر الكتاب خيراً من أوله. ولهذا كان من حقنا أن نثق بأن الكتاب الذي ستصدره مدام خير سيكون خيراً من الكتاب الذي أصدرته. وإذا لم يكن بد من أن ألاحظ بعض العيب فقد آسف لأن شيئاً من التهاون في اللغة لم يبرأ منه الكتاب فقد استعملت ألفاظ عامية مبتذلة لا ينبغي ان توجد في كتاب أدبي إلا أن تدعو إليها النكتة. ولعل من أوضح الأمثلة لذلك ما يوجد في صفحة 72 و140. وجملة القول أننا مدينون لمدام خير بساعات لذيذة قيمة قضيناها مع هذا الكتاب الممتع ولكن أملنا أكثر جدا من رضانا. فلنشكر لها جهدها الأول ولنهنئها به، ولننتظر من جهودها المقبلة خيراً كثيراً.
أما قصة (أهل الكهف) فحادث ذو خطر، لا أقول في الأدب العربي المصري وحده. بل أقول في الأدب العربي كله. وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط. وأقول هذا مغتبطا به مبتهجا له. وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول أن فناً جديدا قد نشأ فيه وأضيف إليه، وإن بابا جديدا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن.
نعم هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصراً جديداً. ولست أزعم أنها قد حققت كل ما أريد للقصة التمثيلية في أدبنا العربي، ولست أزعم أنها قد برئت من كل عيب، بل سيكون لي مع الأستاذ توفيق الحكيم حساب لعله لا يخلو من بعض العسر. ولكني على ذلك لا أتردد في أن أقول أنها أول قصة وضعت في الأدب العربي، ويمكن أن تسمى قصة تمثيلية حقاً، ويمكن أن يقال إنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له. ويمكن أن يقال إنها قد رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة. ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربي من الأجانب سيقرءونها في إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة. بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد أجانب يستطيعون أن يقرءوها إن ترجمت لهم، فسيجدون فيها لذة قوية وسيجدون فيها متاعاً خصباً، وسيثنون عليها ثناء عذبا كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب الأوربيين.
أهذه القصة مصرية؟ أهذه القصة أوربية؟. . ليست مصرية خالصة ولا أوربية خالصة، ولكنها مزاج معتدل من الروح المصري العذب والروح الأوربي القوي. وقد يكون من العسير على غير الفنيين أن يفرقوا بين هذين الروحين اللذين تتألف منهما القصة.
ولكن الذين لهم مشاركة قوية في الأدب العربي والأجنبي يستطيعون أن يتميزوا هذين الروحين حين يجدون في القصة سهولة النفس وعذوبتها، وحين يشعرون بهذا العبث الخفيف الذي يضطرهم إلى الوقوف من حين إلى حين وهم يقرءون، وحين يجدون ألفاظاً وجملا تصور النفس المصرية الآن كما صورتها في أزمان مختلفة منذ كان للمصريين أدب عربي، ثم حين يجدون هذا التفكير العميق الخصب الدقيق الذي يلح في التعمق ويغلو في الدقة، ويأبى أن يترك حقيقة من الحقائق عرضة للشك أو هدفا للغموض، إلا أن يكون الكاتب قد تعمد ذلك وأراده وأبى أن يرسل نفسه فيه على سجيتها مراعاة لبعض الظروف.
كل هذا يمكن النقاد من أن يتبينوا في هذه القصة روحاً مصرياً ظريفاً وروحا أوربياً قوياً. ولنقف وقفة قصيرة عند موضوع القصة وشكلها.
فأما موضوع القصة فلم يخترعه الكاتب وإنما استكشفه، وفرق ظاهر بين الاختراع في الأدب والاستكشاف. ولعل الاستكشاف أن يكون أصعب في كثير من الأحيان من الاختراع، وهو في قصتنا هذه صعب عسير. موضوع القصة موجود في القرآن الكريم، وهو قبل أن يوجد في القرآن كان معروفاً في القصص المسيحية التي لها حظ من التقديس. ويكفي أن تعلم أنه حديث أهل الكهف الذين أشفقوا من اضطهاد ملك رومي للمسيحيين ففروا بدينهم من هذا الملك الظالم وأووا إلى الكهف فناموا فيه ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا. ثم بعثهم الله عز وجل فأنكروا الناس وأنكرهم الناس فعادوا إلى كهفهم وفيه قبضهم الله إليه.
وأنت تعلم أن هذه القصة قد قصها الله في القرآن في آيات كريمة هي أعذب وأسمى ما نعرف من آيات البيان العربي، وأنت تعلم إن من العسير أن تستغل مثل هذه القصة في أدبنا العربي الذي لم يتعود في العصر الحديث أن يستغل الكتب الدينية استغلالا فنيا كما تعود الأوربيون أن يلتمسوا في الكتب المقدسة موضوعات للقصص والشعر والتمثيل والنحت والنقش والتصوير الموسيقى. فإذا استطاع الأستاذ توفيق الحكيم أن يلتمس موضوع قصته في القرآن أو في قصة فصلها القرآن وأن ينشئ في هذا الموضوع أثراً فنياً بديعاً كان خليقاً أن يهنأ بشجاعته وبراعته معا.
فموضوع القصة إذن شرقي عرفته أحاديث المسيحيين وفصّله القرآن الكريم. ولم يعرفه الأوربيون إلا من هذه الطريق، ومؤلفنا إذن كغيره من المؤلفين الأوربيين الذين يلتمسون الموضوعات لقصصهم التمثيلية أحياناً في التوراة والإنجيل. ولكن مؤلفنا كغيره أيضاً من المؤلفين الأوربيين لم يحك حكاية ما عرفته أحاديث المسيحيين وما جاء في القرآن، وإنما بعث في أهل الكهف حياة أخرى فيها قوة وفيها خصب وفيها فلسفة تمكنها من الاتصال بالحياة الإنسانية العامة على اختلاف العصور والبيئات من أنحاء غير الناحية التي عنى بها القرآن وعنيت به الأحاديث المسيحية. وهو يدخل في هذه الحياة عناصر جديدة لم تدخلها القصة القديمة أهمها عنصران: عنصر الفلسفة، وعنصر الحب. فالفرق عظيم جداً بين هؤلاء الأشخاص كما يصورهم القرآن وكما تصورهم أحاديث المسيحية الشرقية في سذاجة لا حد لها ووداعة لا حد لها وإيمان لا حد له ولا غبار عليه، وبين هؤلاء الأشخاص كما يصورهم الأستاذ توفيق الحكيم وقد تعقدت حياتهم فتعقدت عقولهم أيضاً. ففقد اثنان منهم هذه السذاجة المطلقة والوداعة المطلقة والإيمان المطلق ولم يحتفظ بهذه الخصال منهم الا شخص واحد، هو يمليخا الراعي، وبهذا النحو من التصوير الجديد لهؤلاء الأشخاص استطاع الكاتب أن يجعلهم أبطال قصة تمثيلية حديثة. ولو قد احتفظ الكاتب لهم بخصالهم الأولى لما استطاع أن يتجاوز بهم أبطال قصص الأسرار التي كانت تمثل في القرون الوسطى أمام الكنائس. فالكاتب مستكشف لقصته في ظاهر الأمر ولكنه مخترع لها في الحقيقة قد خلق أشخاصها خلقا جديدا وأدار بينهم من الحوار الفلسفي ما لم يكن يخطر لأحد منا على بال. وقد يكون من العسير أن تحقق الفلسفة التي أراد الكاتب أن ينتهي اليها، ولكن هذا العسر نفسه مزية من مزايا الكاتب وفضيلة من فضائله. فهو ليس متعصبا ولا متأثراً بالهوى، وهو لا يريد أن يفرض عليك رأيا بعينه من مذاهب الفلسفة وإنما يريد أن يثير في نفسك التفكير في طائفة من الآراء والمذاهب. وهو دقيق متواضع لا يحب أن يعلن رأيه في صراحة مخافة أن يتابعه ضعاف الناس في غير بحث ولا تفكير. فهو يكتفي إذاً بأن ينبهك إلى طائفة من المسائل يحسن أن تفكر فيها وان تلتمس لها الحل لعلك تظفر به أو تنتهي إليه. ما الزمن؟ ما البعث؟ ما الصلة بين الإنسان والزمن؟ ما الصلة بين الحي والأحياء؟ بأي الملكتين يستطيع الناس أن يحيوا وان ينتجوا في الحياة؟ بهذه الملكة التي نسميها القلب والتي بها نحب ونبغض، أم بهذه الملكة التي يسميها العقل والتي بها نفكر ونحلل ونلائم بين الأشياء؟
كل هذه المسائل خليقة أن تفكر فيها وان تقف عندها فتطيل الوقوف، والكاتب يثيرها في نفسك ويصطنع لذلك فناً بديعاً نادرا فيه قوة مؤثرة وفيه رفق شديد. ليس هو معلما ولا أستاذاً ولكنه صديق يتحدث معك ويسايرك ويلفتك إلى ما قد تمر به دون أن تقف عنده أو تنظر إليه. لا أعرف كاتبا عربياً كان حسن السيرة مع قرائه كالأستاذ توفيق الحكيم. فقد أكبرهم حقا وأرشدهم حقا. ونفعهم في غير إذلال ولا تيه ولا كبرياء.
والحب هذا الحب الذي أدخله الكاتب في هذه القصة في غير تكلف ولا عناء وفي غير مصادمة للشعور الديني، والذي استطاع الكاتب أن يصوره صورتين قويتين تبلغ إحداهما من القوة حدا لا نكاد نجده إلا عند أشد الكتاب والشعراء الأوربيين عناية بالعشق وآماله ولذاته على اختلافها وتنوعها. وتبلغ إحداهما الأخرى بالحب قوة صوفية طاهرة بريئة من كل شائبة لا نكاد نجدها إلا عند كبار المتصوفة والقديسين.
أعترف أني معجب ببراعة الكاتب في غير تحفظ والى غير حد. والحياة الواقعة التي يحياها هؤلاء الناس العاديون الذين لا يتفكرون في أكثر من أعمالهم اليومية والذين لا يذوقون الفلسفة ولا يحسنون تصورها والحديث فيها كيف صورها الكاتب فأتقن تصويرها في شخص الملك ومن يحيط به من أهل القصر والمدينة. وهذا الإيمان المختلط الذي يمتاز به قوم يصطنعون العلم ولكنهم في حقيقة الأمر أنصاف متعلمين، فيهم سذاجة ولكنهم يريدون أن يكونوا أذكياء. وفيهم حب للحياة وحرص عليها ولكنهم يريدون أن يظهروا وكأنهم يؤثرون الإيمان على الحياة. ما أبرع الأستاذ توفيق الحكيم حين صوره في شخص المؤدب غالياس!
أظنك لا تريدني على أن ألخص لك القصة فهي مطبوعة تستطيع أن تقرأها بل يجب أن تقرأها فما ينبغي لمثقف في الأدب العربي أن يجهل هذا الأثر الأدبي البديع.
ولكن وكم أنا آسف للكن هذه. وكم كنت أحب ألا احتاج إلى إملائها. ولكن في القصة عيبان. أحدهما يسوؤني حقا ومهما ألم فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم، وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة. هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورط فيه كاتب ما فضلا عن كاتب كالأستاذ توفيق الحكيم قد فتح في الأدب العربي فتحا جديداً لا سبيل إلى الشك فيه. أنا أكبر الأستاذ، وأكبر قصته، وأكبر (الرسالة) عن أن أقف عند هذه الأغلاط القبيحة التي يمس بعضها جوهر اللغة ويمس بعضها النحو والصرف ويمس بعضها الأسلوب وتركيب الجمل. ولا أتودد في أن أكون قاسيا عنيفا وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يلغي طبعته هذه الجميلة وان يعيد طبع القصة مرة أخرى بعد أن يصلح ما فيها من الأغلاط. وأنا سعيد بأن أتولى عنه هذا الإصلاح إن أراد. ولعل ما سيتكلفه من الطبعة الثانية خليق أن يعضه وأن يضطره إلى أن يستوثق من صوابه اللغوي فيما يكتب قبل أن يذيعه بين الناس.
أما العيب الثاني فله خطره ولكنه على ذلك يسير لأن القصة هي الأولى من نوعها كما يقولون. هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب حتى نسي أن للنظارة حقوقا يجب أن تراعى فأطال في بعض المواضع، وكان يجب أن يوجز. وفصّل في بعض المواضع وكان يجب أن يجمل، وتعمق في بعض المواضيع وكان يجب أن يكتفي بالإشارة. ولعله يوافقني على أن من الكثير على النظارة أن يستمعوا في الملعب لهذه القصة الجميلة جدا، الطويلة جدا التي تقصها برسكا على غالياس وهي تودعه وقد اعتزمت أن تموت في الكهف مع عشيقها القديس.
هذا العيب عظيم الخطر لأنه يجعل القصة خليقة أن تقرأ لا أن تمثل. وأنا حريص أشد الحرص على أن تمثل هذه القصة، واثقا كل الثقة بأن تمثيلها سيضع يد الأستاذ على ما فيها من عيب فني وسيمكنه من اتقاء هذا العيب في قصصه الأخرى ومن إصلاحه في هذه القصة.
أما بعد فأني أرجو مخلصا أن تترجم قصة مدام خير إلى اللغة العربية وان تترجم قصة الأستاذ توفيق الحكيم إلى اللغة الفرنسية لتؤدي القصتان ما ينبغي أن تؤدياه من تحقيق الصلة الصحيحة المنتجة بين الشرق والغرب.