مجلة الرسالة/العدد 899/سبيل النقد الفني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 899/سبيل النقد الفني

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1950



للأستاذ ماجد فرحان سعيد

يعاني النقد عندنا حادة ترجع في الغالب إلى أن الكثيرين ممن يمارسونه حديثو العناية به أو يجهلون أصوله وخواصه. فلقد أصبح النقد عند فئة من الناس سواء أكان في مضمار الأدب أم الفن أم السياسة ضرباً من اللهو والعبث، الغاية الأولى منه عند محترفيه إظهار عيوب الآخرين والفض من شأنهم لا لشيء إلا لأن حظهم من الثقافة يسير، ولأن الله لم يؤتهم موهبة في الذوق أو سعة الاطلاع أو سداد المنطق أو صدق الشعور - وهي من أهم مقومات النقد - فجاءت أحكامهم منحرفة. ولقد قرأت قبل مدة قصيرة مقالاً قيماً بالإنجليزية حول النقد وفوائده للكاتب الأديب تايجل بولشن عرض فيه بعض الآراء الطريفة التي تربط بين النقد والأثر المنقود عرضاً وافياً متزناً حداني إلى درسه وعرضه مع بعض التعليقات لعل ذلك يجلو بعض ما ألتبس علينا من أصول النقد وأحكامه وطرائفه.

يشير الكاتب في مستهل موضوعه إلى أن النقد هو (الحكم على محاسن أي إنتاج من الفنون الجميلة أو مساوئه). وسواء أكان الحكم صالحاً أم غير صالح، فلا معدى لنا عن الإدلاء به، لأن النقد كما يقول توماس إليوت ضروري كالتنفس لا غنى عنه للإنسان.

ولئن كان النقد حكماً يصدر، إلا أنه ليس من المحتم أن يكون حكماً جائزاً لاذعاً؛ أقول هذا لأن بنا نزوعاً شديداً في هذه الأيام إلى إطلاق الكلمة كما لو كانت تعني البحث عن الأخطاء فحسب. ومع أن البحث عن الأخطاء من وظائف النقد المشروعة إلا أن البحث عن المحاسن وظيفة ثانية لا تقل أهميتها عنها.

ويصبح الناقد إذ يمارس مهمة التفتيش عن المحاسن والمساوئ حاكماً في وسعه أن يقول ما يشاء. ولكن هنالك نوعين من الحكام أولهما ذاك الذي يجلس إلى منصة القضاء. يدين الناس بالعقوبات عند ما تثبت عليهم إحدى التهم. وأما النوع الثاني فهو الحكم الذي يتجول في معرض الزهور، لم يتقاعس عن التنويه بها ومنح الجائزة لصاحبها.

والفنان عند ما يقدم للناس إنتاجه، إنما يتمنى في نفسه لو كان هؤلاء النقاد من الفئة الثانية، لأنه يكره أن يعامله الناقد معاملة الحاكم للمجرم، وإنما يتوخى دائماً يقاوم وزن لإنتاجه فينوه بفضائله ومحاسنه.

وفكرة النقد تتطلب الاستناد إلى قواعد ثابتة، نستطيع في ضوئها أن نتعرف بالشعر الجيد أو الصورة الحسنة أو الموسيقى الرائعة. ولصعوبة الاتفاق على هذه القواعد - مقاييس الجودة والرداءة - تنشأ صعوبة النقد. فهنالك طائفة من الناس تقول أن ليس في استطاعة الناقد أن يصدر حكماً صحيحاً إلا إذا استند إلى قواعد موضوعة متوارثة مع الزمن. بينما تقضي طائفة ثانية بأن متطلبات النبوغ تفرض علينا تحطيم هذه القيود وعدم إخضاع الفن لقواعد معينة. ولهذه الفكرة التي تعتبر الفن فوق القيود جاذبية ساحرة تستهوي نفراً من الناس يودون أن يصبحوا فنانين على حساب الفن دون أن يجهدوا نفوسهم بتعلمه إلى درجة الحذق والإتقان.

وتتصارع حول هذا الموضوع ذهنيتان، تنص أولاهما على أن الفن وسيلة لنقل شيء ما؛ ففي استطاعة الإنسان أن يصور أو يكتب ليرضي نزعاته الشخصية إذا شاء فحسب، وما من قانون يحرم عليه ذلك. ولكنه متى عرض إنتاجه، فإنه بذلك يحاول الاتصال بغيره من الناس لينقل إليهم خواطره أو شعوره أو أفكاره. فإذا عجز هؤلاء الناس عن فهم ما أراد إيصاله لهم، كان ذلك دليلاً ساطعاً على إخفاقه فيما حاول. ولكن لنبين بصراحة وجلاء أن قيمة الإنتاج ليست حتما في تناسب طردي مع عدد الأشخاص الذين يستهويهم ذلك الإنتاج. فما هو المحك إذاً؟ إنه الناقد الحق الذي يستحق حكمه الأخذ به. وهنا نعود من جديد إلى فكرة الأصول النقدية الثابتة.

أما الذهنية الثابتة فتصر على أن النقد الجيد أمر مستحيل، لأنه ليس للفن من قواعد. وقد يسهل اعتناق هذه الفكرة والأخذ بها لو كان الفنان يعيش وإنتاجه كنوع من الظواهر الطبيعية في فراغ تام. ولكنهما في الحقيقة ليسا كذلك، فالفنان، سواء أحب أم كره، خليفة لجميع المتعاطين الذين سبقوه في ذلك المضمار، وما إنتاجه سوى تتمة لإنتاجهم. وبحكم عدم استطاعته الإفلات من قيود الزمن، فأن هذا الفنان يبدأ في إنتاجه بخبرة الأجيال التي سبقته. ومهما حاول التنصل من ذلك، فسيظل عاجزاً عن الابتداء بنقطة العدم. وأما الأصالة التي قد يدعيها، فلا تعدو أن تكون في أغلب الأحيان تحسيناً ضئيلاً أدخله على ذلك التراث الضخم المتوارث عمن سبقوه في ذلك الفن. وفي ضوء هذا المعنى نستطيع أن نقول إن جميع الفنانين تقليديون. ولست أعني بهذا أنهم مجرد مقلدين؛ فإن جيمز جويس مثلاً فنان أصيل، مع أن آثاره تتخللها بعض الصفات التقليدية لمن سبقه من الكتاب.

أما الناقد الجيد فهو الذي يملك حاسة للنقد مرهفة يستشير بوساطتها انحدار التقليد الفني منذ نشأته. فبينما نجد الرسام مثلاً يركز جميع قواه على اللوحة التي أمامه، وعليها وحدها نرى الناقد عندما يصوب عليها أشعة نقده، لا ينظر إلى هذه اللوحة نفسها فحسب، بل يعتبرها جزءاً من الظواهر الطبعية الفنية جميعاً بين ما يقدمه الرسامون للناس من إنتاجهم كي يقيموا فيه موازنة عادلة. يقول المستر كلاتون بروك (ليست قواعد النقد قوانين يسنها البرلمان، وإنما هي في حقيقتها مجموعة أحكام الماضي) فمن شأن الناقد إذاً أن يلم بهذه الأحكام، وأن يحكم على الفنان في ضوئها. ولذلك يجب علينا أن نسلم هنا بضرورة وجود الناقد البارع وفوائده كشخص ينقل إلى الفنان تقاليد الماضي الذي هو أحد أجزائه، ويذكره دائماً بهذه التقاليد والأحكام، فيستطيع آنئذ أن يتفادى الأخطاء التي تردى فيها سابقاً.

ومن هنا تنشأ علاقة بنائية مفيدة بين الناقد والفنان. غير أن هذه العلاقة نفسها قد تكون هداية في كثير من الأحيان، وذلك عندما ينظر الناقد إلى الفنان نظرة تهكم وتسفيه وازدراء. وسبب هذه النظرة السقيمة يرجع غالباً إلى الملابسات الواقعية التي تكتب فيها أحكام الصحف الرائجة التي تجعل من المستحيل الإتيان بنقد جيد. ترى الناقد الفني مثلاً ينتقل بسرعة فائقة من معرض إلى آخر، يحاول أن يضع في خمسمائة كلمة حكماً على نتاج استغراق ثلاثة أو أربعة من الفنانين حولاً كاملاً. ثم ترى سبعة من الكتب تقدم إلى أحد النقاد فيه دفعة واحدة، ويطلب منه مراجعتها فيما لا يزيد على ستمائة كلمة خلال أسبوع من الزمن أو أقل. ومما لا شك فيه والحالة هذه أن ليس في استطاعته أي إنسان - مهما بلغ علمه أو ذكاؤه أو إحساسه - أن يقوم بعمل كهذا على الوجه الصحيح، إذ ليس من المعقول أن يفهم في عشر دقائق فهماً صحيحاً إنتاجاً شغل شخصاً آخر يضارعه ذكاء وإحساساً سنين من الجهد المتواصل. وهنا يشعر الناقد أنه لا يقوم بعمله على الوجه الصحيح، فيكره هذا الوضع ويرذله؛ والفنان بدوره ينقم منه ويزري عليه، لأنه يتقن أن الحكم الذي صدر حول إنتاجه كان سخيفاً سقيماً هزيلاً، فكيف لا يعافه ويتنكر له؟!

ولكن ليس من العدل في شيء أن ننسب هذه النقائض إلى الناقد أو إلى الفنان، لأنها عيوب نظام تجاري سارت عليه الصحف في النقد. ولكنها مع هذا وذاك عيوب سيئة، لأنها تلحق الضرر بالناقد والفنان على السواء؛ فهي تجعل الفنان يكره النقد ويحتقره، بينما ينبغي له أن يبدو لديه مفيداً قيماً. ثم إنها تحمل الناقد أحياناً على هجر النقد واللجوء إلى عمل أيسر، كأن يدلي بملاحظات عامة عابرة حول كتاب أو صورة أو عرض مفصحاً عن إعجابه بهذا أو مقته لذاك، دون أن يقيم الحجة على ما يرى. ولا يعدو هذا أن يكون تعليقاً خالياً من الدقة والتعيين؛ ولا يمكن اعتباره نقداً بالمعنى الصحيح، لأنه ليس تعليقاً على الإنتاج الفني وإنما على ذوق الجمهور. وما أشبه الناقد في هذه الحالة بصاحب الوليمة في العصور الوسطى عندما كان يتذوق أصناف الطعام قبل أن يقدمها لضيوفه ليتأكد خلوها من كل ما هو سام ومضر. وفي كثير من الأحيان نجد الناقد قد حاد عن إصدار حكمه على الإنتاج الفني، وعمد إلى مداعبة الفنان حول إنتاجه منهمكاً مرة ولاذعاً أخرى، ليضحك القراء بتلك الدعابة المستطابة لأنها لا تضر شخصياً سوى الفنان نفسه. فيغفل الفنان ذلك حانقاً لأن الناقد استخدم إنتاجه مطية لروح الدعابة عنده ولكن على الفنان قبل كل شيء ألا يعير هذا النوع من النقد المبتذل أي اهتمام. والحقيقة التي لا يمكن ابتكارها أن الفنان مهما بلغت درجة غروره أو ثقته بنفسه وعبقريته، ليظل في أغلب الأحيان يصارع شكاً مخيفاً يساوره حول إنتاجه، ولذلك كان أحوج ما يكون إلى نقد رفيق يدخل إلى نفسه قليلاً من التشجيع لأن ما يحتاجه فوق كل شيء أن يحظى إنتاجه بشيء من الجد الذي عاناه عندما شرع في خلقه. لسنا نطالب في الحقيقة إلا أن يقوم النقد بوظيفته الصحيحة، مشيداً بذكر جهود الفنان في حقل التراث الفني العظيم مهما كانت تلك الجهود متواضعة. أما إذا تناولها الناقد بالتهكم والتجريح والغض والسخرية، فإنه بذلك يدفع الفنان إلى الشك في قدرته وإمكانياته، ويحمله على الاعتقاد في قرارة نفسه بضآلة شأنه وتفاهة إنتاجه.

ولسنا نعدم وجود نفر من الفنانين الذين يتحلون بقدر وافر من روح الدعابة، ويتظاهرون بأنهم لا يقيمون وزناً للنقد اللاذع الجارح ولكنهم في الحقيقة يكرهونه ويحتقرونه، لأنه يؤذي شعورهم ويحز قلوبهم حزاً، ويوقعهم في أكثر الأحيان في هوة من اليأس المرير. ذلك لأنهم يظنون أن ما قيل فيهم، حتى ولو كان سطحياً تافهاً، يمكن أن يكون على جانب من الصحة، فهم بحكم الواقع لا يستطيعون أن يروا إنتاجهم عن كثب، ولا يمكنهم الاعتماد في ذلك إلا على الآخرين ينظرون إليه نظرة موضوعية مجردة عن كل هوى.

وإن أشنع أنواع النقد النقد السلبي الهدام الذي يترك الفنان يعاني شعوراً أليماً يظن معه أنه يحارب عالماً بأجمعه، عالماً ليس يكره إنتاجه فحسب، بل يكره الطموح الذي دفع إلى وضعه. ومن هذا النوع نقد جيفورد الشهير للشاعر كيتس فلقد أوحى جيفورد في نقده أن من الخير لكيتس أن ينقطع عن نظم الشعر جملة واللجوء إلى مهنة شريفة كأن يصبح مثلاً مساعداً لصيدلي. ويحضرني في هذه المناسبة النقد العنيف الذي وجهه ابن سينا للفيلسوف البغدادي أبي الفرج الجاثوليق حين قال: (من حق تصنيفه أن يرد على بائعة ويترك عليه ثمنه).

وفي هذه الحالة يرى الناقد أن لا شيء خير من شيء ما؛ فخير لرسام أظهر لوحة فنية لو أنه لم يرسمها. غير أن الاعتقاد الصحيح الذي لا جدال فيه لدى كل عقل مبدع، مهما استبدت به السذاجة، أن عكس ذلك هو الصحيح. ولذا كان العقل الخلاق ولا يزال وسيظل على مدى العصور في صراع دائم مع العقل الهدام.

وكي أوفى البحث حقه أقرر من جديد أن من واجب الناقد ألا ينصب نفسه حاكماً يجلس إلى منصة القضاء ينزل العقوبات بالناس كي يحول دون اقترافهم الجرائم. وأحرى به أن يكون كالداخل إلى معرض الزهور، يقابل بين أنواعها باحثاً عن الحسنات والسيئات، مظهراً إعجابه بالمحاسن ومانحاً بعض الحواجز لأصحابها، غير كاتم استياءه من هبوط المستوى حيث تغلب العيوب على المحاسن. وعليه قبل كل ذلك كله أن يؤمن بأن شيئاً ما خير من لا شيء، وأن الجهود الخلاقة مهما كانت متواضعة، خير من لا شيء، وأن الرغبة في الإبداع فضيلة في حد ذاتها، والرغبة في الهدم لأكبر جريمة لا تغتفر.

ماجد فرحان سعيد

مدرسة الفرندز للبنين

- رام الله -