مجلة الرسالة/العدد 899/ذكرى عالم مصلح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 899/ذكرى عالم مصلح

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1950



محمد رشيد رضا

لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الجليل عيسى

في أواخر العقد التاسع من القرن الثالث عشر الهجري وفد على مصر رجل عظيم، ومصلح كبير، هو السيد جمال الدين الأفغاني، وسرعان ما ألتف حوله عدد كبير من رجالات مصر وشبابها على اختلاف درجات ذكائهم وتباين ثقافاتهم، فصار ينفخ فيهم من روح اليقظة والحمية الإسلامية، والعزة والكرامة ما فتح عيوناً عمياً، وآذاناً صماً، مما اعتبره الباحثون عود ثقاب أشعل به ناراً على المستعمرين والظالمين.

وكان من بين رواد مجالسه الطالب النابغة الشيخ محمد عبدة الأزهري، فلم يكد يتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني. حتى ألهب منه استعداداً للثورة على القديم البالي، وأيقظ فيه طموحاً إلى الحرية والاستقلال، فأطلق عقله من عقال كاد يقضي عليه كما قضي على كثيرين من رجالات الأزهر وشبابه الذين لم تتح لهم فرصة الاتصال بمثل هذا المصلح الكبير، أو لم يهيئهم استعدادهم للانتفاعبهذه المبادئ السامية.

لازم الشيخ محمد عبدة الرجل العظيم ثماني سنوات كاملة (وهي المدة التي أقامها السيد جمال الدين في مصر) إلى أن غادر البلاد سنة 1296 هجرية إلى الهند، وأخذ يطوف في العالم مطارداً من قطر إلى قطر حتى استقر به المقام في الآستانة حيث وافته منيته سنة 1314 هجرية.

وكان لتعاليم الأستاذ السيد جمال الدين الأثر الكبير في نفس الشيخ محمد عبده فلم تهدأ ثورته، ولم يخفه نفي أستاذه، بل أزكى فيه روح الثورة والخروج على كل مبدأ ظالم إلى أن نفي هو أيضاً. وبعد مضى ست سنوات عليه منفياً رجع إلى مصر.

وكان بعد رجوعه من منفاه أشد ثورة من ذي قبل، فأخذ يؤدي رسالة إصلاحه في الأزهر، وفي خارج الأزهر بجرأة وشجاعة، أزكاهما النفي والتشريد، وكان أوسع ميادين جهاده دروسه التي كان يلقيها في الأزهر على كبار الطلاب والنابهين من رجالات مصر الذين أشربوا حب الحرية والاستقلال.

وفي هذا الوقت، في سنة 1315 وفد على مصر شاب لبناني من (القلمون) إحدى ق جبال لبنان الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط من شريفة، وكانت سنة إذ ذاك نحواً من ثلاث وثلاثين سنة، هذا الشاب هو السيد محمد رشيد رضا.

نزح هذا الشاب إلى مصر بعد أن حصل على قسط كبير من التعليم في بلده على يد بعض العلماء الأحرار المفكرين الذين اتصلوا بالسيد جمال الدين الأفغاني، وتفهموا شيئاً من مبادئه.

جاء إلى مصر كما يحي كثير غيره من أبناء الأقطار الإسلامية للإفادة من الأزهر الذي ورث سمعة كبيرة في العالم الشرقي، ولما اتصل هذا الشاب بعلماء الأزهر وتفقدهم لم يعم عليه الأمر كما عمى على كثير غيره، ولم يتحير أو ينحرف عن الهدف، ولم يطل به المقام حتى أدرك بنور بصيرته، وثاقب فكره، وطيب استعداده أن الشيخ محمداً عبده هو الضالة المنشودة، وأنه العلم المصلح الوحيد الذي يمكن الاستفادة منه، فعكف على ملازمته، وشغف بالسماع منه، في الدرس وفي غير الدرس، في المسجد وغير المسجد.

وبالرغم من كثيرة المستمعين للشيخ محمد عبده، وتفاوت درجاتهم في الذكاء والتحصيل، فإن أحداً منهم لم تعمل فيه آثار الشيخ أقوى مما عملت في السيد محمد رشيد رضا، فكانوا على ضروب وأنواع كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الخباري عن أبي موسى الأشعري، قال : (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. . . الخ).

كذلك كان تلاميذ الأستاذ الشيخ محمد عبده. منهم من لم ينفع غيره ولم ينتفع في نفسه، لأنه مجدب الطبع، سبخ التربة، ومنهم من نفع غيره فنقل مبادئ الشيخ لغيره وأن كان هو لم ينتفع بها أو قل انتفاعه، ومنهم من انتفع في نفسه وعم نفعه غيره. فكان كالأرض الخصبة التي شربت من الماء وأنبتت الزرع فأفادت الناس.

والسيد محمد رشيد كان من هذا النوع الأخير، فقد حرص على أن يسجل آراء أستاذه التي يلقيها على الطلاب في الدرس، والتي تصدر عنه في المجتمعات، والتي يراسل بها أصحابه، أو يرد بها على مستفتيه في أمور الدين والدولة حتى صار شبيهاً بشريط تسجيل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة لأستاذه إلا أحصاها.

ومع عظيم هناء هذا العمل الجليل الذي سجله السيد رشيد، والذي لولاه لذهبت آثار الشيخ عبده، وتبخرت أفكاره كما ذهب مع الريح كثير من آثار غيره من كبار علماء الأزهر، نقول مع هذا: إن هذا التلميذ لم يكن مسجلاً لأفكار شيخه فحسب، بل كان مع ذلك مناقشاً وممحصاً وموجهاً كما هو الشأن في التلميذ الذي كانت تعده العناية ليقوم برسالة شيخه بعد موته، وليكون امتداداً لحياته ووصياً على تركته الخالدة.

قال السيد رشيد يتحدث عن نفسه.

(إني طلبت العلم بوازع من نفسي لتكميلها بالمعرفة والعمل لا لأجل الانتفاع في تحصيل مال أو جاه، وقد عرض على الدخول في الحكومة أصحاب النفوذ فأبيت). وذكر في موضع آخر سبب ذلك فقال:

(أحمد الله أن حفظني من الابتلاء بالمناصب، ومن الامتحان بخدمة الحكومات، ومن فتنة حب المال والجاه، فإن أهون رزايا كل من هذه الفتن أن تصد عن قول الحق وتغرى بالسكوت على شيء من الباطل، وقد تبلغ بالمفتون أن يخذل الحق وينصر الباطل، ويوالي الظالمين، ويحارب المصلحين، وأن يبيع دينه بدنياه، بل قد يبيع دينه بدنيا غيره).

لكل ذلك مكث مدة عمره الطويل ثابتاً في الدعوة إلى الله على بصيرة، وإلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، بتفسير كتاب الله على طريقة السلف الأول، وإحياء سنة رسوله، وسيرة السلف الصالح. وهو في كل ذلك لم يعتمد على ملك ولا حكومة، أو جمعية، أو حزب، بل كان في كل أولئك ليس معه معين إلا الله، يكتب ويراجع ويحقق ويصحح ويتفقد الصحف والمجلات المحلية والخارجية، ويتصفحها كل يوم فإذا وجد ما لا يصح السكوت عليه بادر عليه في المنار أو الصحف الكبيرة، كالأهرام. والمؤيد. والمقطم. واللواء.

كل ذلك كان يقوم به وحده. فحقاً إن السيد محمداً رشيداً كان أمة، ولعلك تدهش إذا علمت أن كل هذه الأشياء من إخراج المنار بإتقان ومثابرة بضعة وثلاثين عاماً، وغير ذلك مما تقدم من صنع رجل واحد، فإنه عندما جاور ربه حاولت هيئات كبيرة وجماعات محترمة أن تخرج للناس مجلة تسد فراغ المنار فلم يستطع أحد منهم على كثرتهم.

وإذا علم أيضاً أن العقبات التي طالما وقفت في طريق المصلحين وهي كثيرة. من عبودية الناس لما يألفون، ومن حب الشهوات الذي يغري المترفين بالراحة والدعة، والصد عن المصلح. - وكثرة الجماهير دائماً جاهلة تجري وراء صاحب المال أو السلطان - إذا علم أن كل أولئك صادفت السيد رشيداً، علم أنه كان يحارب وحده في ميادين كثيرة، يحارب قوماً قعد بهم استعدادهم عن اللحاق به، فصاروا بتأثير الغيرة والحقد لا يألون جهداً في محاربته. وأقوى أسلحتهم التي يبرزونها إذا عجزوا عن الحجة هي الرمي بالزندقة والإلحاد، وهي قذائف لا تكلف صغير النفس فاقد الحياء إلا أن ترسلها من فمه فتتلقفها آذان العوام فينصرفوا من حول الداعية.

وهذا سلاح قديماً حورب به الأنبياء والمصلحون. ألم يقل ورقة بن نوفل للنبي : ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي، وقد ذاق البخاري والغزالي، وابن خلدون، وابن تيمية، وغيرهم مرارة ذلك ولكن كانت العاقبة للمتقين.

فخلد الله لهم لسان صدق في الآخرين، وأهال على خصومهم تراب النسيان. وكان السيد رشيد يحارب أيضاً في ميادين أخرى، زنادقة وملحدين، وجهلة مخرفين، وعلماء جامدين مقلدين، وسلاطين جائرين، وحاكمين ظالمين.

حارب كل هؤلاء في ميادين فسيحة، كان أفسحها مجلة المنار التي أتخذ منها منبراً عالياً يدوي منه صوته في جميع بقاع الأرض، في جاوة، وسومطره، والهند، والصين شرقاً، إلى أوربا وأمريكا غرباً، فلم تبق في الأرض بقعة فيها مسلم أو من يعرف العربية إلا دخلها المنار. فكان المنار مدرسة تتلمذ فيها عدد كبير من المسلمين ونبغ بفضلها رجال مصلحون ظهرت آثارهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبرز منهم في الصفوف الأولى رجال عظماء لهم في حركات الاستقلال الأخيرة في الأمم الشرقية مواقف مشهورة.

والذي يتتبع تاريخ هذا العالم الجليل يقف على سر نجاحه فيما عالج من أمور، ذلك أنه كان يحمل بين جنبيه قلباً قوياً، وعزيمة صادقة، وإيماناً لا يتزعزع، ووراء كل ذلك رغبة شديدة في إتقان ما هو بصدده.

والرغبة الصادقة هي سبب كل النجاح، لأنها الحافز على مواصلة العمل، والشعور باللذة فيه، والجد في إتقانه حتى يرضى بذلك نفسه.

ولما كان الحديث عن السيد رشيد لا يتسع له هذا المقام الضيق، فإني تارك الإفاضة فيه للكتب التي تعرضت لأعماله وهي كثيرة موسعة.

وأكتفي اليوم بذكر حادثة واحدة وقعت لي أنا شخصياً ومعي ثلاثة من كبار علماء الأزهر؛ ذلك أنه في أصيل يوم من عام 1924 ميلادياً زارني بالمنزل ثلاثة من علماء الأزهر، توفي اثنان منهم إلى رحمة الله، وبقي واحد؛ وبعد قليل خرجنا أربعتنا نسير نحو السيدة زينب، وبينما نحن في الطريق ذكر أحدهم حديثاً نبوياً فقال آخر أظن أن هذا ليس حديثاً، ولم يستطع الأول أن يثبته، وكنا وقتئذ قاربنا ميدان السيدة.

ولما كنت أعلم أن كثيراً من علماء الأزهر في ذلك الحين، خصوصاً الكبار منهم، كانوا يحيطون السيد رشيد بهالة من الشك في تدينه وعلمه، رغم أنهم لم يجالسوه أو يختبروا علمه أو حتى يكلفوا أنفسهم قراءة كتبه، أردت أن أحتال عليهم حتى يلتقي الجمعان، وكانت مكتبة المنار ومطبعتها بجوار السيدة زينب، وكان لي بالسيد صلة معرفة، فقلت لهم: يمكنني الآن أن أعرف لكم هذا الكلام أهو حديث أم لا؟ فتعالوا معي إلى مكتبة قريبة منا، وكانوا لا يعرفون أنها للمنار. فلما دخلنا من الباب الكبير أسررت لصبي من الخدم: هل السيد موجود بالمكتب؟ قال نعم. فقلت له: أستأذن لجماعة من علماء الأزهر. فرجع يحمل الإذن. فصعدنا للدور الذي فيه السيد، غرفة مكتب واسعة، محاطة جدرانها بالكتب المنضدة في خزائنها بترتيب بديع. وهو رحمة الله رابض على مكتب كبير يرتدي عباءة حجازية على قباء أبيض. فقابلنا هشاً مرحباً. وقدم التحية، فعرفوا عندئذ أنه رشيد رضا، فسكت لحظة حتى إذا أنس أصحابي نوعاً ما عرضت عليه الموضوع، فكان في لمح البصر جوابه: إن هذا حديث صحيح رواه البخاري في بين، باب كذا عن فلان، وباب كذا عن فلان، ورواه مسلم في باب كذا عن فلان بتغيير يسير هو كذا.

فلما خفت أن يخرجوا مرتابين في صحة ما يقول: تلطفت في سؤاله أن يعطينا الأجزاء والصفحات لنقرأ ألفاظ الحديث وتفهمها على مهل، فكان بالسرعة الأولى واضعاً الأجزاء بين أيدينا كأن الأحاديث كانت في طبق أمامه يلتقط منها ما يريد، فقرأنا الحديث في كل باب وإذا به كما قال: فوجموا ونظر بعضهم إلى بعض، وكان المغرب قد حلت صلاته فدعا بحصير للصلاة، وعزم عليهم ليتقدم أحدهم إماماً، فرجوته أن يصلي هو فأمنا، ووالله لا زلت أذكر وأتلذذ بتلك الصلاة وتلك القراءة، قرأ بخشوع وخضوع فبكى وأبكانا. ولما فرغت الصلاة خرجنا من عنده وكأنما على رءوسنا الطير.

وبعد أن سرنا في الطريق إلى منازلنا قلت لهم: ماذا رأيتم اليوم؟ قال أحدهم رحمة الله: ما هكذا كنا نسمع عن الرجل، كنا نسمع غير ما رأينا، فإذا هو مسلم صالح. فقلت وما رأيكم في علمه؟ فسارع أحدهم وهو الذي على قيد الحياة الآن قائلاً: وأي فضل له في هذا وهو منقطع لهذا العمل نحو ثلاثين عاماً؟ فقلت ولأي شيء منقطع أنت والدولة تدر عليك من المال ما يكفيك ويكفي من تعول، لتتفرغ لمثل ما تفرغ له هذا الرجل الذي لا يساعده أحد بفلس لينفقه على نفسه وعلى عياله؟ فبهت الرجل.

فرحمة الله عليك يا سيد رشيد، حفظت كتاب الله وحافظت عليه، وشغلت حياتك كلها في خدمته، فكلن جزاؤك في الدنيا أنك لم تفارقها إلا وكتاب الله بين يديك وتحت ناظريك تقرأ كلام ربك، وفاضت روحك وهو على صدرك. ألم يكن من علامات قبولك ورضا ربك عنك أن آخر آية من كتاب الله سطرت شرحها بخطك، ولم تطبع إلا بعد موتك هي قوله تعالى:

(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين).

فسلام الله عليك في المسلمين الأولين. وسلامه عليك في الصالحين المصلحين.

عبد الجليل عيسى