مجلة الرسالة/العدد 899/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 899/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1950



من القصص التركي الحديث

الحلة العسكرية

للكاتب القصصي التركي الأستاذ ق. تان كور

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

لم يكن الجيش الذي أحرز النصر الحاسم قد رايل (بوزيوك) بعد، وكان أهل قرى (أفيبنار) و (قرة كوس) و (جاس دره) وبقية القرى المجاورة يذهبون إلى (بوزويوك).

وكانت قوافل أولئك القرويين التي ازدحمت بهم الطرقات مكونة من النساء والفتيات والشيوخ الذين جاوزوا الستين من أعمارهم. ولم يكن بين تلك الأمواج الزاحفة إلى (يوزويوك) فتى واحد بلغ العاشرة لأن أولئك الفتيان كانوا في ميدان القتال منذ أسابيع.

فقد خفوا إلى ميدان القتال ليكونوا في مؤخرة جيش عصمت باشا ليساعدوه.

وكان في الصفوف الأمامية من ميدان القتال خطيب أجمل فتيان قرينه (جاس درة) زهرة الشقراء.

إن زهرة قد فارقت خطيبها (عمر) منذ بدء معركة (إبنونو) الأولى، وكان اندماج خطيبها مع الأبطال المجاهدين يهز أعطافها ويجعلها تتيه عجباً وغروراً، ولكن إلى جانب ذلك ألمها وحسرتها على فراق خطيبها ممضاً محزناً أيضاً.

أن هذا الفراق قد كسا خديها الورديتين شحوباً، وجعل لونهما مثل لون شعرها الذهبي الأصفر.

وكانت طول أيامها، وفي جميع ساعات يقظتها دائمة التفكير في (عمر) فإذا نامت رأته في منامها. وإذا نظرت في صفحة الماء تمثل لها. وكانت تحس في داخلها احساسات غريبة، وكانت كأنها تسمع أصواتاً تناديها قائلة: اقطعي أملك من عمر! ها هم أولاء أهل قرية (جاس درة) وقد انحدروا في الطريق، وها هي (زهرة) الشقراء بينهم، إنها اليوم نشوى طروب، كانت تمازح شيوخ القرية، وترسل ضحكاتها طليقة رنانة حيث ينتشر صداها في ذلك السهل المنبسط الفسيح.

إن خديها استعادتا لونهما الوردي الجميل، كما أن عينيها عاد إليهما بريقهما ولمعانهما السابق، وكانت ترتدي ثوبها الأصفر الجميل الذي يناسب شكلها، ويبرز بديع جمالها. كل ذلك لأنها.

- بعد ساعات معدودة - سترى حبيبها (عمر).

كان الجو في ذلك اليوم صحواً، والسماء زرقاء صافية، وكانت الشمس قد بلغت أقصى ارتفاعها إلا أنه كانت الريح تهب عاصفة هوجاء زعزعاً، وكانت الأرض كأنها تدور مع الريح في كل اتجاه، وكان البرد قارساً شديداً.

كان الميدان الفسيح الذي صفت فيه الخيام حلقات يموج بأولئك الذين انتشروا أمام الخيام يحتفلون بالعيد، وكانت الطبول تدق من غير توقف، وتنشد أناشيد قرية (يانيق). وكان آلاف الناس الذين جاءوا من قرى ومدن البلقان يشتركون في الأعياد ويهنئون بذلك النصر المبين في ميدان الجهاد.

وعند الظهر تماماً دوت ثلاثة أبواق معاً، فسكن كل شيء في الميدان، ثم نادى (باش جاويش) بصوت مرتفع:

(المدنيون إلى هذا الجانب، والعسكريون إلى هذا الجانب الآخر وليتقدم المختارون إلى جانبي).

كان قد صدر أمر قائد المعركة المظفر عصمت باشا أن يعطي كل متطوع في الجيش من شباب القرى المجاورة إذن يوم يقضيه بين أهله، على أن يعود في اليوم التالي إلى الجيش.

وكان (الباش جاويش) سيكلف مختار كل قرية أن يتلو قائمة أسماء شباب قريته، وكل من يقرأ أسمه يخرج من صفوف الجيش إلى صفوف المدنيين ويعتبر مأذوناً يوماً واحداً على أن يكون في مقر القيادة في اليوم التالي.

وعند الشروع في هذه العملية كان أهل قرية (جاس درة) قد وصلوا وانضموا إلى المدنيين من أهل القرى المجاورة المتجمعين في جهة اليسار، وبين هؤلاء القرويين الذين وصلوا أخيراُ (زهرة) الشقراء.

واستغرقت عملية القراءة الأسماء كاملة، وكان الميدان قد خلا إلا قليلا، وخفت جلبة الجماهير من المدنيين فيه إذ لم يكن قد بقي فيه إلا أهل قرية (جاس درة)، وإلا أمهات أو آباء أو إخوان بعض المتطوعين الذين قرأت أسماؤهم ولم يظهروا.

في هذه الأثناء تقدمت فتاة قروية جميلة، وعليها ثوب أصفر جميل حتى صارت بجانب (الباش جاويش) وقالت:

وأين متطوعوا قرية (جاس درة)؟

وعند ذلك سمعت من جانب العسكريين أصوات تقول:

هنا. هنا، فقال لها (الباش جاويش) أين مختار قريتكم يا بنيتي؟ وأين قائمة الأسماء؟ فأجابته قائلة:

إن مختارنا أيضاً في الجيش، فالتفت الباش جاويش إلى (الأونباشي) الواقف إلى جواره وقال له: أعلنوا في صفوف المتطوعين: كل من كان من قرية (جاس درة) من الشبان فليأت إلى هنا حالاً. وبعد نحو دقيقة واحدة كان نحو عشرين شاباً قد أقبلوا إلى حيث كان الباش جاويش واقفاً، والتفوا حول (زهرة) الشقراء التي كانت هناك وهم يتصايحون:

أيتها الفتاة زهرة، مرحباً بك يا زهرة. كيف حال القرية أيتها الأخت؟

وكانت كأنها لا تسمع شيئاً مما حولها وهي تكرر كلمتين اثنتين لا تنفرج شفتاها عن غيرهما: أين عمر؟ أين عمر؟ عمر. عمر. وفي تلك الأثناء كان أهل قرية (جاس درة) قد اختلطوا بأولئك الشبان يعانقونهم، ويتبادلون معهم القبلات مع دموع الفرح والابتهاج، وكان الذين التقوا بأمهاتهم أو إبائهم أو أخواتهم لم يأبهوا - أول الأمر - للحال المحزنة التي كانت عليها فتاتنا الصغيرة (زهرة) الشقراء، ولم يكن بقي حولها من تعرفه سوى الباش جاويش والأونباشي، والحاج صادق.

كانت عينا صادق قد ابتلتا بالدموع، وكان لسانه كأنه محبوس في حلقه، فلم يتمكن من قول شيء، وبصعوبة استطاع أن يلفظ كلمتي: أختي. زهرة.

وهنا كان قلب زهرة الشقراء قد انسحق ألماً وحسرة، ولم تعد تملك السيطرة على دموعها، فرفعت يديها كما يفعل المبتهلون الذين يطلبون المدد من السماء - وصاحت: (عمر. عمر. أين أنت؟).

وبينما صادق يحاول التحدث مع زهرة وإعطاءها كتاباً أخرجه من جيبه مع منديل يماني. كان الباشا جاويش قد وصل إلى زهرة الجميلة. ورفعها من على الأرض وضمها بين يديه كما بفعل الأب الحنون، وقلبها بين عينيها وهو يقول:

لا تبكي يا عزيزتي. أن البكاء لا يليق بالفتاة التركية، إن حبيبك عمر وقع في ميدان القتال شهيداً، ولكن التي نالها عمر لا ينالها كل أحد، واسمعي حتى أشرح لك المسألة:

وكان القرويون والشباب قد تجمعوا وكونوا حلقة ضيقة، وساد بين الجميع صمت رهيب، فأخذ الباش جاويش رأس زهرة بيده اليسرى وأشار بيده اليمنى إلى مسيل ماء ضيق يلوح من بعيد كأنه خيط دقيق رمادي اللون وقال: هل ترين مجرى الماء الذي أمامنا، فقد كنا بعد ظهر أمس نطارد العدو النازل حول ذلك المجرى، وكان - على ما علمت بعد ذلك - عمر معنا، وانتهينا من هذه العملية، إلا أنه كان بقي على الجانب الآخر من النهر جنديان من جنودنا فوقع في أيدي فلول جيش العدو، وكانا يصرخان صراخاً مؤلماً وهما يجودان بأنفسهما بين أيدي العدو. في تلك الأثناء خاض أحد جنودنا الماء من جديد واجتاز النهر، وذهب لنجدة أخويه في الجندية، وفجأة وعلى غير انتظار - لا أدري كيف حصل ذلك - ظهرت بعض فلول جيش العدو هناك، وصار هذا الجندي الباسل الذي ذهب لنجدة أخويه - وذانك الجنديان معه - صار هؤلاء الجنود الثلاثة محاطين بقوة كبيرة من جيش العدو، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الدفاع عن أنفسهم ضد قوة تفوقهم أكثر من عشرين مرة. فصاروا يقاتلون ويدافعون عن أنفسهم كالأسود الضارية. وكان قتال مرير تساقط فيه الأعداء مثل سنابل القمح حصدت بمنجل حاد.

إلا أن أحد أبطالنا المقاتلين ببسالة كان قد وقع على الأرض فجأة فرأيت ضابطاً من ضباط الأعداء يلقي بنفسه عليه. وعند ذلك تحامل جندينا على نفسه، وبذل كل ما في وسعه من جهد، وأمسك بيد ذلك الضابط، وعض إصبعه حتى قطعها، ويظهر أن ذلك الضابط فقد وعيه من شدة الألم، فلم يأبه للحربة التي في يده، وكأنه نسي طريقة القتال بالحراب، وأخرج مسدسه، وأفرغ كل ما فيه من رصاص في رأس ذلك الجندي الباسل.

ثم علمت هوية ذلك الجندي الشجاع - فق كان أشجع أفراد فرقتنا وأكثرهم إقداماً - إنه كان خطيبك عمر).

ثم واصل الباش جاويش تلك المشاهد أمامه، فقال:

(كان بطل (جاس دره) عمر مستلقياً على ظهره، وعيناه الواسعتان محملقتين في اتجاه الميدان، كان قد فارق الحياة).

بعد أن سكت الباش جاويش هدأت نفس زهرة قليلاً، وانقطع صوت بكائها أيضاً، وعند ذلك وقف صادق أمامها ومد يده إلى زهرة وقال:

زهرة خذي هذا الكتاب الذي كان عمر أعده قبل المعركة بيومين ليرسله إليك، ولم يرسله. وهذا المنديل الأصفر الذي معه فهو هدية إليك. فتناولت زهرة آثار خطيبها الشهيد كما تتناول كتاباً مقدساً، ثم دستها في صدرها، ومرت عدة دقائق في صمت رهيب، ثم رفعت زهرة رأسها ونظرت إلى الباش جاويش نظرة توسل، ومدت إليه يدها بالكتاب الذي كاد يتمزق، وفهم الباش جاويش غرض زهرة من هذه الحركة، فقال: هاتي يا بنيتي حتى أقرأه لك.

هذا الكتاب الذي أعده عمر ليرسله إلى حبيبته، ولم يقدر له الوصول إلى القرية. لم يكن طويلاً، فقد قرأه الباش جاويش بنظرة سريعة ألقاها عليه، فامتلأت عيناها بالدموع. ويظهر أن هذا الجندي الذي كان قبل لحظات ينصح زهرة ويقول لها: لا ينبغي للفتاة التركية أن تبكي) - لم يستطع لن يغالب دموعه فمد الكتاب إلى الأونباشي الذي بجانبه قائلاً: أقرأه على زهرة.

إن هذا الكتاب القصير المكون من عدة أسطر المبدوء بكلمة: (زهرتي) كان يبين بوضوح أي بطل شجاع كان ذلك القروي التركي، وأي قلب كبير الآمال كان يحمل بين جنبيه (زهرتي) إني في شدة الشوق إلى رؤيتك، وألمي لفراقك لا حد له ولا نهاية.

في اليوم الذي نخرج العدو من هذه التربة - تربة الوطن - سنتزوج، وسأكون يوم عقد زواجنا في حلتي العسكرية. أن عمر الجاس دره صار الآن الأونباشي عمر. وإلى الآن لم ألبس الحلة العسكرية. ذلك لأن الملابس العسكرية غير متوفرة. وأخبرنا القائد أننا جميعاً سنعطي الألبسة العسكرية في القريب العاجل.

أمس لبست حلة أحد رفاقي الجنود العسكرية، فقالوا لي: إنها منسجمة عليك جداً يا عمر. وسأرى هل تقولين أنت أيضاً مثل ذلك يا زهرة؟ ابقي سعيدة. سلامي إلى كل أهل القرية).

من ذلك اليوم لم تظهر زهرة الشقراء في القرية، لأنها لم تكن قد عادت إليها، إذ ماذا عسى أن تساوي قرية (جاس دره) بدون عمر؟! بعد انتهاء معركة (اينونو) بالنصر الحاسم ذهب بعض الجنود البواسل من هذا الميدان للاشتراك في معركة التحرير في (إزمير)، فتحدث بعض هؤلاء أنهم رأوا في الصفوف الأمامية في المعارك الأخيرة في ميدان (انينونو) امرأة قادمة من إحدى قرى (يوزويوك) تلبس حلة عسكرية وتقاتل قتال الأبطال المستبسلين.

فقد استولت زهرة الصغيرة على الحلة العسكرية التي لم يتمتع حبيبها عمر بفرحة ارتدائها، واشتركت في القتال انتقاماً لخطيبها، وقاتلت حتى استشهدت في ميدان الجهاد كما استشهد خطيبها وحبيبها من قبل.

(حلب)

برهان الدين الداغستاني