مجلة الرسالة/العدد 897/تحقيقات حول صدر وسدر على الطريق المهجور

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 897/تحقيقات حول صدر وسدر على الطريق المهجور

مجلة الرسالة - العدد 897
تحقيقات حول صدر وسدر على الطريق المهجور
ملاحظات: بتاريخ: 11 - 09 - 1950


بين مصر والشام

للأستاذ أحمد بك رمزي

(لقد أنهت مصر الحروب الصليبية وكان من الخطأ ترك الاتصال قائما بينها وسائر بلاد الشام)

مؤرخ أوربي

(أن إسرائيل سيقدر لها أن تعيش وتنمو وتغير التاريخ وحوادث الزمن، حينما تعزل مصر عن بقية الأمم العربية: أي إذا عزلت القاهرة عن دمشق وبغداد ولو بممر لا يزيد عرضه على كيلو مترين)

أحمد رمزي

1 - وردت عين سدر ووادي في خرائط ملحة المساحة في الطبعة الأولى والثانية، كما وردت بالاتفاقات التي عقدتها الحكومة المصرية مع شركات البترول وفي القوانين التي عرضت على البرلمان لإقرارها بواسطة الحكومة المصرية فلم ينتبه أحد من رجال مصلحة المساحة ولا رجال القانون إلى تحقيق هذا الاسم وضبطه ضبطاً علمياً يتفق مع مكانة مصر وأثرها في العالم العربي إلى أن صحح في الخريطةمصر الصادرة باللغة العربية فنحمد لمصلحة المساحة هذا الاهتمام.

2 - ويظهر أن بعض الأسماء العربية الواردة بخرائط مصلحة المساحة كانت مترجمة ترجمة حرفية من اللغة الإنجليزية التي وضعت من الأصل هذه الخرائط فيها، فجاء الناقلون إلى العربية - وهم ليسوا أهل اختصاص فوضعوها بأخطائها دون عودة إلى المراجع العربية ودون ضبط للأعلام والأسماء.

3 - والذي أعلمه هو أن صحة الاسم (صدر) لا (سدر) وجاء ذكر صدر في معجم البلدان لياقوت جزء 3 صفحة 375: (قلعة حراب بين القاهرة وأيلة) أي العقبة ويظهر من كتب القدماء توالي استعمال (عين صدر) و (وادي صدر) وهي واقعة على طريق يبدأ من عيون موسى إلى عين الروبت أو (الرييثة) ثم ينتهي الطريق إلى منبع وادي صدر وهو الذ كان على مر الحصن الذي أشار إليه ياقوت في معجمه وهو حصن قديم لا تزال بقاياه مرسومة على الخرائط تحت أسم يسير الطريق منه إلى نخل.

4 - ويظهر أن هذا الطريق - وهو يقع جنوبي طريق الحاج العام والمعروف على الخرائط - هو الذي يمر بوادي صدر وكان يستعمل للذهاب إلى العقبة علاوة على الطريق المطروق المعروف، فقد جاء في السلوك صفحة 58 سنة 570 هجرية أن صلاح الدين أقام ببركة الجب وهي معروفة في شمال القاهرة ثم سار منها على صدر التي أشرنا إليها متجها إلى آيلة في سبعمائة فارس - ويقصد إخفاء حركاته فقد جاء كتاب الروضتين نقلاً عن (أن صلاح الدين زحف من البركة ورحل إلى بلبيس ونزل جنوباً إلى صدر ثم إلى آيلة) فلم يسلك طريق الحج المعتاد وإنما سلك هذا الطريق البعيد عن الأنظار والرقباء حتى يطمئن إخفاء حركاته وهو في طريقه إلى الشام ليقرن حملته المفاجأة، وفعلاً أناخ على بصري بالشام ثم على مدينة صرخة ثم إلى الكسوة وهي من ضواحي مدينة دمشق إجابة للرغبة أبديت له بعد وفاة نور الدين الشهيد رحمه الله.

5 - وأرجح أن هذا الطريق الذي لم يكن يطرق إلا هو نادراً هو الذي سلكه أبو الطيب المتنبي في خروجه هارباً من كافور الإخشيدي ليلة عيد الأضحى سنة 350 هجرية. فقد أعد ما هو في حاجة إليه وأخذ يظهر الرغبة في المقام، وتظاهر لمن من الرقباء أنه سيسلك طريق الشمال بدليل مدحه لعبد العزيز يوسف الخزاعي زعيم خزاعة النازلة ببلبيس بقوله:

جزى عرباً أمست ببلبيس ربها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيون

فلفت أنظار الرقباء بمديحه هذا إلى طريق بلبيس فأقامت العيون عليه هناك وكتبوا إلى عمالهم بالحرفين - الشرقي الغربي والجفار - أي سيناء - وغزة والشام وجميع البوادي حتى يقطع طريقه ويقبضوا عليه وأتجه هو إلى الطريق البعيد عن الأنظار عيون موسى ووادي عين صدر فوصل إلى نخل، ودليل على ورود موقع الرثنة ضمن المياه التي مر بها أبو الطيب المتنبي قبل وصوله إلى نخل وبذلك نجح في إخفاء طريق هربه فلم يعرف له أثر حتى قال بعض أهل البادية: (هبه سار فكيف محا أثره) وقال بعض المصريين) إنما أقام حتى عمل طريقاً تحت الأرض).

6 - والرثنة تشبه الرتمة: يقول عنها قاموس الكتاب صفحة 475 أنها محطة نزلها بنو إسرائيل واسمها مأخوذ من الرتم الذي ينبت بالبداية. ونلاحظ أن هناك مكانا آخر باسم الرتمة في سيناء، غير هذا الموقع ولا أجزم بأن الرتمة والرثنة مكان واحد والمسألة تحتاج إلى تحقيق علمي واسع. ولكني أميل إلى الظن بأن الرثنة التي جاءت في ديوان أبو الطيب المتنبي هي الرييثة التي ذكرها الإدريسي في نزهة المشتاق طبعة ليدن كمحطة في الطريق بين عجرود المعروفة وآيلة - التي هي العقبة - وليس لدينا على الخرائط المتداولة عند وادي صدر سوى عين روبت أو رويث وهي على المنحدر الذي يوصل إلى عين صدر وقد تكون الرثنة هي الرييثة حرفها النساخ وقد تكو الرييثة هي رويث.

فكأن أبو الطيب المتنبي سلك طريقاً كان معروفاً ببعده عن الرقباء. وقد ركب الهجن من الفسطاط وأشاد بمدحها ولهذا يقول:

ضربت بها التيه ضرب القما ... ر إما لهذا وإما لذا

7 - بين يدي كتاب صحراء سيناء الذي وضعه لورانس مع (ليوراند وولي) البريطانيين عن نتيجة أبحاثهما في هذه الصحراء وهو يتضمن معلومات أثرية وتاريخية عن المنطقة الواقعة بعد الحدود المصرية، لا تقل أهمية عن الكتاب الشائق الذي وضعه الدكتور عباس مصطفى عمار ع أهمية شبه جزيرة سيناء وفي كل منهما دراسة عميقة عن أحوال هذه المناطق ومسالكها وكل منهما يكمل الآخر، وليس لي ما أزيد على تقديري للكاتبين سوى شادتي بعبقرية رجلين عظيمين الأول: صلاح الدين الأيوبي والثاني الظاهر بيبرس. فلقد كان لكل منها الفضل الذي لا ينكر في فهم استراتيجية الحروب الصليبية كما يفهمها رجل عبقري فذ ففي كل مرحلة ومفترق طرق أقيمت الحصون والقلاع التي لا تزال بقاياها موجودة وفي كل حملة أستعمل أحدهما طريقاً وعبد آخر وأخذ خصمه بالمفاجأة والعمل الحاسم.

فهل لنا أن نتساءل اليوم: واللجنة السياسية بجامعة الدول العربية منعقدة: هل نبه أحد من الناس الأنظار إلى أن هذا الركن من العالم حيوي لنا وعليه يستند تاريخنا القادم؟. . . لا أظن

وإنما أعتقد وأجزم بأن رجال الدولة اليهودية كانوا على علم بأهمية الطرق والمسالك وكانوا على حق في اهتمامهم بأراضي النقب وفي وصولهم إلى خليج العقبة وأن الذي وضع خريطة فلسطين سنة 1917 بشكلها المخروطي أي الذي يبدأ متسعاً في الشمال وينحدر ضيقاً إلى الجنوب حتى البحر الأحمر قد كان يستوحي من مملكة أورشليم الصليبيين هزت الكيان العربي والإسلامي والتي لولا أن قدر لنا في التاريخ أمثال صلاح الدين وبيبرس لبقيت في الوجود إلى اليوم.

8 - أننا لا نطمع في أمثال هذه العبقرية الفذة في التاريخ وإنما نطلب إلى الدول العربية أن تفهم جيداً أن مواجهة الحاضر مشاكله لا تكفي لإيجاد الحلول المطلوبة بل أن أخطر سياسة هي المرتجلة أو المعتمدة على الذكاء الفطري. . . الذي يرسم لنا الديبلوماسية التي ألفناها وهي ذات العبقرية في ترتيب الدسائس بين مصر والدول العربية والاستفادة من الأهواء والغرائز) ونقول أن حل المشاكل الكبرى يتطلب قبل كل شيء دراسة علمية وتوجيهاً معتمداً على الحقائق التاريخية والجغرافية والتاريخ الحربي لمصر وللعالم العربي. فإذا كانت السياسة والاقتصاد (صنوان) لا يفترقان، فأن استخلاص الحقائق الكبرى من دروس الماضي هو الذي يضع الزعماء والقادة في الصف الأول بين زعماء العالم وتنير لهم السبيل لحل المشاكل الكبرى. أننا نأسف أن نلفت النظر إلى هذه الحقائق، المرة بعد المرة فتذهب صيحتنا هباء ورحم الله أبا الطيب المتنبي الذي علمنا الطرق وجغرافية مسالك الجزيرة فقد بح صوته أيضاً حتى قال:

وما فكرت قبلك في محال ... ولا جربت سيفي في هباء

أحمد رمزي

المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي