مجلة الرسالة/العدد 895/اللغة العربية والإسلام وفي الداغستان
مجلة الرسالة/العدد 895/اللغة العربية والإسلام وفي الداغستان
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
بقية ما نشر في العدد الماضي
وفي عهد الخليفة العثماني مراد الثالث لجأ كثير من أمراء وأعيان هذه البلاد إلى السلطان العثماني يطلبون منه تخليص البلاد من طغيان الفرس الإيرانيين الذين كانوا يبسطون سلطانهم على تلك الجهات، ومذهبهم الشيعي الذي كانوا يحاولون فرضه على أهل البلاد بالقوة في تلك الأيام، فجرد مراد الثالث فوات كبيرة على تلك البلاد استولت عليها في أواخر القرن العاشر الهجري 986هـ (1578م).
وهنا بدأت صفحة جديدة في تاريخ هذه البلاد، فقد نبه احتلال العثمانيين لها أطماع الروسيين في الشمال أو إيقاظها من جديد لأن أطماع الروسيين في تلك الربوع قديمة. وحفزت الإيرانيين في الجنوب لاسترداد مركزهم وسلطانهم في تلك الربوع، فصارت مسرح أطماع هذه القوى الثلاث الجبارة تتنازعها هذه مرة وتلك مرة أخرى، وبعد معارك طاحنة، وحروب كثيرة طويلة، وبعد مد وجزر استمر أكثر من قرنين استقر الأمر هناك للروسيين في سنة 1221هـ و 1806م حين احتلها القائد الروسي الأمير (كينياز سبيانوف) وبسط سلطان الدولة الروسية على تلم الجهات، وقد قتل هذا القائد الروسي في تلك السنة بيد أحد أهالي الداغستان غيلة.
وقامت الثورات الوطنية في كثير من الأنحاء بمساعدة الإيرانيين تارة، وبإيعاز العثمانيين مرة أخرى، وأنفة من أهل البلاد أن يخضعوا للروس تارات.
ولكن كل ذلك لم يغير من احتلال الروس شيئاً، فبقيت البلاد في قبضتهم من ذلك التاريخ.
وقد تولى أكبر تلك الثورات وأحكمها تنظيماً الأمير المجاهد (سورخان خان) الذي جمع جميع علماء وأعيان وأشراف (غازي قمون) وسائر أنحاء الداغستان وكتب معهم عهداً وميثاقاً وطنياً دينياً لمقاتلة العدو الغازي المحتل، والمحافظة على أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا هو نص ذلك الميثاق الوطني الديني، وقد كتبوه - يوم كتبوه - باللغة العربية الفصحى:
(هذا بيان للناس من هذا اليوم، وهو اليوم الأول من ربيع الأول من السنة الث والعشرين بعد الألف والمائتين.
إن الأمير الكريم (سورخاي خان) والقاضي صنفور القمقي وسائر أئمة بلدة (غموق) ورؤسائهم، وكبرائهم وعرفائهم وخواصهم وعوامهم تعاهدوا على أن يتعاونوا على البر والتقوى، وعلى أن يكونوا في أمر المقاتلة مع العدو سواء. واتفقوا على أن يكون دية كل قتيل من أهل الولاية خمسة وعشرين (توماناً) من فضة روسية أو قيمتها من غيرها، سواء كان القتل واقعاً قبل هذا البيان أو بعده وعلى أن يكون ثور فدية من سل سيفاً أو خنجراً أو سكيناً على مسلم، أو صاحب مثل الشخص المذكور لإعانة، وإن لم يسل هذا الصاحب شيئاً من المذكورات، وكذا الفدية ممن اشترى عرقاً، أو نبيذ عنب، وممن أعطى أو أخذ مالاً بقراض فاسد. كأن يدفع قروشاً إلى آخر سنة مثلا ليأخذ منه عند تمام السنة مع القروش رباً: كيل حب أو شيئاً آخر.
وهذا المذكور مما مضى به الحكم، وجف به القلم، فمن بدله لا يسمع قوله، ولا يمدح فعله)! هـ.
وبعد عقد هذا الميثاق الوطني الديني قام الأمير (سورخاي خان) بمحاولات جدية للوقوف أمام سيل جحافل الروسيين التي انتشرت في كل مكان، ولكن على غير جدوى، ولا طائل، فقد كان الأمر أخطر مما كان يقدر، فتم للروس الفتح، وبسط السلطان واضطر الإيرانيون أصحاب السلطان الأسمى على البلاد إلى موادعة الروسيين، وعقد الصلح معهم.
فاجتمع الجنرال (أنشق ريتشجوف) القائد الروسي الجديد في الداغستان، وممثل إيران أبو الحسن الشيرازي في مكان يقال له (كلستان) في (قره باغ) في الثاني عشر من تشرين الأول سنة 1228، وعقدا معاهدة صلح عرفت فما بعد (كلستان) وتنازلت الدولة الإيرانية بمقتضاها من كل حق لها في كورجستان وطالش وقره باغ وكنجة، وشكر، وشروان، وباكو، وقوبة، وجميع الداغستان، ولكن هذا لم يفت في عضد (سورخاي خان) فقد ظل يعمل ويجمع الجوع لقتال الروس الغزاة.
وفي سنة 1235 أصدر القائد الروسي في الداغستان الجنرال (يارمالوف) أمره إلى الجنرال (كينياز مدتوف) أن يتوجه مع جيش روسي كبير، ومن انضم إليه من جنود بعض الأمراء المحليين الموالين للروس مثل (أرسلان خان) حاكم (كورة) إلى جهة (غازي قموق) لقتال (سروخاي خان).
والتقى الفريقان في قرية (جراغ) في قتال شديد واستبسال، ولكن جموع (سورخاي خان) التي كان جمعها هناك لم تقو على الوقوف أمام قوات الروس، فتراجع إلى (غاري قموق).
وفي سنة 1236 تقابل الجنرال (مدتوف) مع (سورخاي خان) مرة ثانية بين قريتي: (جراع) و (خوشراك) إلا أن أنصار (سورخاي خان) أصيبوا في هذه المرة أيضاً بالانكسار واضطر هو ومن بقي معه من الجيش إلى الانسحاب إلى (غازي قمون) حيث أحذ منها أهله وعياله، ثم اسحب منها إلى جهة (عندال) في منطقة (آوار).
ودخل الجنرال (كينياز مدتوف) إلى (غازي قمون) بغير قتال ولا سفك دماء، وأعلن بين الأهليين ضم إقليم (غازي قمون) إلى إدارة حاكم (كورة) الجنرال (أرسلان خان) على شرط الطاعة للدولة الروسية.
وأما (سورخاي خان) فإنه توجه إلى طهران في بلاد العجم، وبعد محاولات كثيرة استغرقت نحو خمسة أعوام قضاها في إيران رجع إلى الداغستان مع حملة عسكرية قوية لقتال الروسيين من جديد.
ففي سنة 1342هـ اجتاز (شماخي) إلى (عندال) ومنها توجه إلى قرية (ثغراك) ولكنه انتقل إلى رحمة الله في (ثغراك) قبل أن يستطيع عمل شيء جدي، ودفن فيها رحمه الله. وأما أولاده فقد تركوا تلك الجهات نهائياً، وهاجروا إلى الدولة العثمانية بعد وفاة والدهم.
يقول مرزا حسن القداري في كتاب أثار داغستان: كان المرحوم (سورخاي خان) عالما فاضلا قوي المعرفة بالعلوم العربية.
وبعد دخول هذه البلاد تحت حكم الروس بمقتضى معاهدة كلستان) أو معاهدة داغستان المعقودة بي الإيرانيين والروسيين سنة 1816م أخذ الروسيون يجرون عليها أنظمتهم الإدارية العامة، ويحتلون بجيوشهم المواقع الحربية الهامة احتياطا لما عساه يفاجئهم، لأن الأمن لم يكن استتب في البلاد بعد. وأن بعض أمرائها لم يكن راضياً عن دخول البلاد في حوزة الروسيين، ولهذا كانوا ينتهزون الفرص للانتقاص والفتك بحاميات الروس الضعيفة، وكانوا قد ألفوا لذلك جمعية سرية حربية سنة 1818م إلا أن قائد الجيوش الروسية الجديد الجنرال (برمالوف) لم يعبأ بذلك وظل يسير بجيوشه إلى داخل البلاد يفتح ما بقي من حصونها المنيعة، ويحتل إمارة بعد إمارة إلى أن أذعنت له جميع الإمارات والمقاطعات المستقلة، وأدت له الطاعة؛ فخيل إليه أن الأمن قد استتب، فصاد يقلل من عدد الحاميات والجيوش، ولكن سرعان ما أظهرت الحوادث غلطه في حسن ظنه في الأهالي. إذا لم يمض على معاهدة داغستان بضع سنوات حتى هب في أوائل سنة 1240هـ أحد أبطال الجبل الغازي محمد الكمراوي الأواري في قرية (كمرا) في رأس من رؤوس الجبل، وثار على الحكومة الروسية، وعلى الأمراء المحليين الذين استسلموا للروسيين، وطالب أن تكون المعاملات وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية لا للعادات القديمة الباقية من جاهلية أولئك الأقوام، وألف رسالة في وجب نبذ تلك العادات القديمة المخالفة للشرع وسماها (إقامة البرهان على ارتداد عرفاء داغستان) وكان من العلماء المتبحرين في العلوم العربية والشرعية. وهو الذي يلقيه الروسيون (بقاضي ملا)، ثم أخذ يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الدين والوطن ويوحد كلمتهم، فاجتمع لديه في وقت قريب جمع غفير من سكان الجبل، فبدأ في أوائل سنة 1242هـ يزحف بهم إلى القلاع المنعزلة ويحتلها، ويقتل حاميتها، ثم تحول إلى عاصمة البلاد (درنبد) وشرع في حصارها، واستنفر سكان (طبسران)، وأمة (الججن)، فنهضوا كلهم لنجدته وظلوا يحاربون الجيوش الروسية المنظمة حتى استشهد الإمام الغازي محمد الكمراوي في معمعة القتال بقرية (كمرا) في ثامن جمادى الأخر سنة 1248هـ (29 تشرين أول سنة 1832م) بعد حصار طويل. على أن استشهاده لم يضع حداً للثورة، ولا أوهنت عزيمة المقاتلين، فخلفه على قيادة الثورة، ورفع علم الجهاد من بعده الغازي الشهيد حمزة بك الذي قام بأهباء الثورة ونظم حركتها، واستمر يقاتل ويجاهد حتى استشهد بعد ذلك في أواخر سنة 1250هـ يقرب مدينة (خنزاخ) فخلفهما في القيادة إمام آخر أشد منهما مراساً، وأبعد نظراً وأكبر هيبة في نظر الجماهير من المجاهدين والأعداء على السواء، وأقوى على احتمال ويلات الحرب الجبلية وهو الإمام الشيخ (شامل) الذي طبقت شهرته الخافقين لما أبداه من البطولة، وحسن الإدارة، وتنظيم العلم، ثم بوقوفه أمام عدو عظيم جبار مدجج بالأسلحة الحديثة تلك المدة الطويلة من سنة 1250هـ إلى أوائل سنة 1276هـ أذاق خلالها جيوش الروس الأمرين وحملهم من الخسائر في المال والرجال ما يصعب تقديره.
والشيخ شامل مثل الشيخ عبد القادر الجزائري خرج من المشيخة إلى الإمارة، وتناول السيف من طريق القلم - كما يقول المرحوم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان - ولم يكن الشيخ شامل في سعة علم سليفه - الغازي محمد وحمزة بك - ولكنه كان أحسن منهما إدارة للأمور، وبصرة بالحروب، فشمر عن ساق الجهاد، والتف ذلك الشعب الأبي من حوله، فذب عن حوض ملته نحو 25 سنة ظفر فيها بالروس في وقائع عديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، أو جلاهم عن جميع البلاد إلا بعض مواقع ثبتوا فيها في الناحية الجنوبية، وكانت اعظم الدبرات التي والاها عليهم هي في سنتي 1843 - 1844م حيث افتتح جميع الحصون التي كانت لهم في الجبال، وغنم منهم 35 مدفعاً، واعتاداً حربية، ومؤناً وافرة، وأخذ عدداً وافراً من الأسرى فجردت الدولة الروسية بعظمة ملكها وسلطانها جيوشاً جرارة، ونادت هي بالجهاد في الداغستان!. ونظم شعراء الروس القصائد في وصف تلك الحروب.
وما زالت توالي الزحوف حتى تمكنت من البلاد، ولكن بقي الشيخ شامل عشر سنوات أخرى يناوشها القتال في الجهات الغربية من الجبال، ولم يسلم هذا المجاهد العظيم للروس إلا في 6 سبتمبر سنة 1859م (من صفر سنة 1276هـ) فنقل هو ومن معه من عياله ومرافقيه إلى بطرسبوغ، فاستقبله القيصر إسكندر الثاني وأكرم وفادته، ثم نقل إلى كالوغا، ومنها إلى كييف. وبعد أن قضى - خلافاً للعهود التي كانت أعطيت له قبل التسليم من أنهم سيرسلونه إلى خليفة المسلمين في القسطنطينية - في الأسر عشرة أعوام أذن له بالسفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، فسافر هو ومن معه إلى القسطنطينية حيث احتفل به السلطان عبد العزيز خان وأكرم وفادته، ومنها ذهب إلى مكة المكرمة حيث أدى فريضة الحج في 1286هت، ثم ذهب إلى زيارة الرسول ﷺ في المدينة المنورة، وبقي فيها حتى لقي ربه قبيل غروب شمس يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1287هـ (28 مايو سنة 1870م) ودفن بالبقيع عليه رحمة الله ورضوانه في مواجهة قبر العباس عم النبي ﷺ.
وانتهت بذلك الحرب في الجبل تقريباً، ودخلت البلاد في دور جديد من حياتها نستطيع أن نسميه دور التقرب بين الحكومة الغالبة وبين الأهالي، ودور العمل على نشر الحضارة الجديدة بينهم فقد رأت الحكومة بعد ما عاينته مدة الحروب الأخيرة من تعلق سكان الجبل ببلادهم وحريتهم، وشيوخهم وأمرائهم - أن تتقرب من هذه الطبقة صاحبة السلطان الحقيقي في الجبل، فودت إليهم أملاكهم التي كانت حجزتها أيام الحرب، وأرجعت من كانت أبعدتهم عن مراكزهم أو وظائفهم إلى ما كانوا عليه وصارت تعاملهم بالحسنى، ثم إنها تساهلت مع الشعب فتركت له سلاحه، وأعفته من الخدمة العسكرية وأقامت له محاكم شرعية ثم حطت عنه بعض الضرائب وخصصت مبلغاً معلوماً ينفق سنويا على حاجيات البلاد من الخزينة المركزية مراعية في كل ذلك عواطف الشعب وعاداته القديمة، واقتصاديات البلاد، فتمكنت بذلك من إرضاء أكثر السكان، وإخماد روح الثورة إلى حد ما بين سكان البلاد إذا نحن صرفنا النظر عن بعض حوادث الثورة التي كانت تظهر بين الفينة والفينة هنا وهناك في بعض أنحاء تلك البلاد. وأهمها تلك الثورة التي حدثت سنة 1878م عندما كانت الدولة الروسية مشتبكة في حرب مع الدولة العثمانية، ولكن سرعان ما تفرغت الحكومة الروسية لإخماد هذه الثورة بعد تصفية حسابها مع العثمانيين، فاستطاعت أن تقضي عليها بسرعة، وعرضت على سكان الجبل الطاعة التامة مع الإخلاص، أو الجلاء عن البلاد والخروج منها إلى حيث يريدون، ففضل كثير من سكان تلك البلاد الهجرة منها إلى تركيا فأنزلتهم حكومتها في بعض جهات الأناضول، وفي سوريه وفي شرق الأردن وفي العراق حيث لا يزالون يقيمون في تلك الأنحاء مواطنين مخلصين لأوطانهم الجديدة حيث يلقون من أهل البلاد وحكوماتها كل رعاية وعطف واحترام.
وبقي آخرون في بلادهم متمسكين بعرى أحكام دينهم وتقاليدهم واستمرت الحال على ذلك حتى كان الانقلاب الشيوعي الذي قلب القيصرية الروسية سنة 1917م.
هذا عرض موجز للأدوار التي مرت على الإسلام واللغة العربية في الداغستان قبل الثورة الشيوعية سنة 1917م وأرجو أن تتاح لي الفرصة للتحدث عن الإسلام والمسلمين واللغة العربية في الداغستان بعد طغيان الشيوعية الحمراء على تلك الربوع في وقت قريب.
حلوان
برهان الدين الداغستان