مجلة الرسالة/العدد 895/التعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 895/التعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 08 - 1950



للأستاذ أنور المعداوي

مع الشاعرة السورية هجران شوقي:

يا كاتب الأداء النفسي

تحية خالصة ومودة دائمة:

ما أحب أن أعلق على تعقيباتك الأخيرة في العدد (890) من الرسالة حول (ثلاثة شعراء في الميزان)، فلكل رأيه ومذهبه، والأدب جمال، والجمال مقياسه الذوق، والناس يتفاوتون فيه، ولكن الذي لفتني في كلمتك الممتعة أن تشك في شخصيتي الأنثوية، وأن يخيل إليك أن أسمي أن هو إلا قناع يختفي وراءه وجه أديب من الأدباء السوريين! ما هذا الاستنتاج الغريب؟ والأغرب منه أن تكتب إليك فتاة تعلن رأيها في كثير من الصدق والشجاعة، وتمهر كلمتها باسمها الصريح فتظنها فتى وتحسبها أديباً من الأدباء، فما أعجب ما يطالعنا به الدهر، وما اشد ما يلقي الإنسان من أخيه الإنسان، ولكن الزمن وحده يحل العقدة ويكشف الطوية، ولله ما أصدق القائل: (الله أكبر حل العقدة الزمن)!

ولقد عزمت أن أزور القاهرة حلال انعقاد المؤتمر الثقافي الثاني في الإسكندرية في أعقاب أغسطس، وسنلتقي في إدارة مجلة الرسالة في ظل أمير النثر الأديب العظيم الأستاذ أحمد حسن الزيات وسأثير مناقشة القصائد الثلاث في حمى سيد الأدب، وسيحكم بيننا، وستعتذر أن كنت قاسياً في نقدك، وأن كان حكمك عليَّ عجيباً غريباً، حين أبادلك رأيا برأي، وحين ترى إلى فتاة تحسن النقاش وتملك مقاد الكلام، وتعيش في جو خالص من الحقيقة والحير والجمال، وتطمع أن تحببه إلى الآحرين، وما تدري لعل هذه الرسائل المتبادلة بيننا تذخر لنا لقاء قريبا في كتاب مشترك نطلع به على الناس. أما أنا فلقد حرصت على أن أراك حرصك على أن تراني، وأعجبني منك أنك وفي زمن مات فيه الوفاء أو كاد، ولقد تجلى لي وفائك في هذه الفصول الرائعة التي عقدتها متحدثا عن شاعر الصدق والجمال والحب: عل محمود طه.

مع هذه الرسالة قصيدتي (القمر) وهي لون جديد من ألوان مزج الغزل بالطبيعة، أحب أن تنشر في الرسالة دليلا على أدب الفتاة السورية الحديثة، وطمعا في محو ما ساورك من شك وما خالجك من ريب.

ولك تحيتي مشفوعة بإعجاب، وإلى الغد القريب.

(دمشق - سورية)

هجران شوقي

أشكر للشاعرة الفاضلة أدب الخطاب ولطف العتاب. وأبادر فأرد هذا التعقيب المتأخر إلى تغيبي عن القاهرة طيلة شهر كامل، وإلى أنني لم أتلق هذه الرسالة إلا منذ أيام ثلاثة، وكذلك الرسالة التالية في هذه التعقيبات وهي من أديب لبناني صديق.

بعد هذا أقول للآنسة إنني إذا كنت قد لقيتها بشيء من القسوة أو أشياء من العنف، فمرجع ذلك إلى ما وقع في الظن من أنها أديب من الأدباء السوريين يخاطبني من وراء قناع. . . وعذري في هذا الظن أنني لم اقرأ للآنسة شيئاً أستطيع على هديه أن أطمئن إلى شخصيتها الأنثوية؛ أعني أن اسمها لم تقع عليه عيناي في صحيفة من الصحف أو مجلة من المجلات، على كثرة ما أعرف عن طريق هذه وتلك من أسماء الأدباء والأديبات. . . من هنا خطر لي أن الذي يتحدث إليَّ فتى لا فتاة، لأنني لم اصدق أن هناك أديبة تكتب بمثل هذا الأسلوب الذي يتميز بالنضج والأصالة، ثم لا تعرفها الصحف الأدبية ولا يصل صرير قلمها إلى منافذ الأسماع! لتعذرني الآنسة إذن حين أشرح لها حقيقة هذا الظن الذي أثارته رسالتها الأولى ومحت ظلاله رسالتها الثانية وعدت من بعده كما يعود الخيال من رحلة طويلة ينفض بعدها يديه من خداع الأوهام ويلقي عصاه!

وإذا كنت قد قسوت فمرد القسوة إلى شيء آخر غير ما ذكرت؛ شيء أرجو ألا يغيب عن فطنة الأديبة الشاعرة وما أظنها إلا معترفة به وراجعة إليه، وأعني به هذا الهجوم الذي حملته إلى في نقدها سطور وكلمات. . . وكيف لا يكون هجوما ذلك الذي يتنكر لذوقي حين أحكم ولرأي حين أفصل ولموازيني حين تقام؟! إنني أشير إلى ما ورد في رسالتها من حملة ظالمة على الشاعر الذي أعجبت به ووقفت إليَّ جانبه، حتى لقد خيل إلى أن الدافع النفسي لهذا الهجوم لم يكن غير تلك العصبية الإقليمية التي لا تزال تشغل بعض الخواطر وتستقر في بعض النفوس، وتحاول أن تنتصف لبيئة بعينها دون غيرها من البيئات ووطن بعينه دون غيره من الأوطان. . . مهما يكن من شيء فإنني لا أحب أن يكون هذا الظن حقيقة؛ حقيقة محورها أن الأديبة (السورية) هجران شوقي يغضبها أن يكون الفائز الأول في المباراة الشعرية شاعراً لبنانياً هو يوسف حداد، وأن يكون الفائز الثاني في هذه المباراة شاعراً سورياً هو أنور العطار!!

أما عن عزم الآنسة الفاضلة على زيارة العاصمة الأولى والثانية في مصر، فإننا لنرحب بها زائرة عزيزة وضيفة كريمة، تلقى في هذه الأرض الطيبة أهلا غير الأهل ووطنا غير الوطن. . . وتستطيع الآنسة إذا ما صح منها العزم أن ترى الأستاذ الزيات في المؤتمر الثقافي بالإسكندرية وأن تراني في دار الرسالة بالقاهرة، وإنه ليسعدني أن أرى هؤلاء الذين يعيشون في جو خالص من الحقيقة والخير والجمال. . . وإذا كانت تريد أن تثير مناقشة القصائد الثلاث محتكمة في هذا النقاش إلى الأستاذ الزيات، فإنني أود أن أؤكد لها أن الموضوع في رأيي لم يعد يحتمل جدلا أو مناقشة بعد هذا الذي قالت وقلت. وبعد أن خاطبتني في رسالتها الأولى بهذه الكلمات: (ما أريد منك إلا أن تعقب على هذه المباراة وأن تنشر القصيدتين الفائزتين في الرسالة، وأن نرهف إليك أفكارنا لنسمع منك فصل الخطاب)!. . . لقد استجبت لرغبتك وعقبت يا آنسة، ورأيي الذي أبديته هو حكمي ولن بتغير، مع احترامي لرأي الزيات الصديق وتقديري لأدبه وقلمه!

أما عن الكتاب المشترك الذي تريدين أن نطلع به على الناس فأنا في انتظار مقدمك إلى دار الرسالة لنعقد مؤتمراً ثقافياً آخر نبحث فيه شئون الأدب والأدباء ومشكلة الكتب وأزمة القراء. . . وإلى عدد قادم من الرسالة حيث يكون لقصيدتك في صفحاته مكان.

بقي أن اشكر لك كريم تقديرك لتكل الفصول التي كتبتها عن شاعر صديق. . . إن الوفاء يا آنستي هو أجمل ما في الحياة!

دفاع عن مجلة الأديب:

قرأت في العدد (889) من الرسالة ما كتبته تعليقا عن رسالة كارنيك جورج عن مجلة (الأديب) التي لم تشر إليها نزولا على حكم الذوق وواجب الزمالة. وأنا هنا لا أريد أن أدافع عن (الأديب) ولكني أرغب في سرد بعض الحقائق التي قد تعينك على تكوين فكرة صحيحه عن هذه المجلة. فأنا وثيق الاتصال بصاحبها، وقد عتبت عليه يوما بعض ما قد يخطر على بال القارئ العادي، فوجدت أن عتابي في غير محله، وأن علينا أن نقدر فعلا هذه المجلة وجهاد صاحبها في إصدارها!

إن كلمة كارنيك هذه مملوءة بالمغالطات؛ فليس صحيحا أن جميع أنصار المجلة تنشر لهم المقالات، وحسبك يا صديقي أن تطلع على أسماء الأنصار لتجد أن كثيراُ منهم لم يكتبوا يوما في (الأديب)، وقد أراني صاحب (الأديب) عدة رسائل يعتذر فيها عن نشر بعض المقالات التي يرسلها الأنصار، فيكون نصيبه من ذلك أن يقطع هؤلاء عنه اشتراكهم فلا يبالي! وقال لي الأستاذ ألبير أن ما ذكره كارنيك عن ذلك القارئ العراقي الذي شكره صاحب (الأديب) على إرسال الاشتراك إلخ. . . كذب وافتراء. . . ومثل ذلك قوله أن المجلة لا تنشر لكثير من أدباء العراق لأنهم لا يرفقون قيمة الاشتراك، فالحقيقة أنه ليست هناك مجلة عربية تفسح صدرها لكتاب العراق مثل (الأديب)! وقلة الذوق تبدو في كلمة هذا الكاتب العراقي بأبشع صورها حين يقول: (إن الرجل قد عزم على أن يهجر بلاده ومجلته ولا يأخذ معه إلا ما جمع من مال)!

أنا أعرف الناس بحالة هذا الرجل المادية وما يقاسيه من ضيق، وأعرف أنه قرر مراراً أن يغلق مجلته ولكن إلحاح الكثيرين من أصدقائه - وأنا منهم - كان يصرفه عن تحقيق هذا العزم، وهو لم يطلب اشتراك الأنصار إلا بناء على اقتراح هؤلاء الأصدقاء، وليس في هذا ما يضير على كل حال، وحرام أن تنقطع عن الصدور مجلة أدبية كالأديب يجد فيها جميع أدباء سوريا ولبنان والعراق وفلسطين والمهجر متنفساً لأفكارهم وعواطفهم. . . وليس صحيحاً أن المجلة تساوم وتربح، فإن ما يعود على صاحبها من مال لا يكفي أوده وأود أسرته؛ وليست (الأديب) على أي حال بأغنى من مجلة (المختار) التي اضطرت إلى الانقطاع عن الصدور بالرغم من أن رءوس أموال عظيمة ترفدها في أميركا!

بقيت هناك حقيقة يجب أن تذكر، وهي أن هذه الافتراءات التي كتبها كارنيك جورج مردها على مصلحة شخصية. . . فقد أرسل هذا الكاتب إلى (الأديب) عدة مقالات وقصص كانت تهمل. . وكأنه أراد أن (يرشو) صاحب (الأديب) لينشر له مقالاته فأعلمه أنه مرسل إليه مائتي نسخة هدية توزع على الأصحاب من مجموعة قصصية أصدرها بعنوان (دموع عذراء) على ما أذكر. . . وحين تلقى صاحب المجلة عشرين نسخة من هذا الكتاب (وهو كتاب قصصي سخيف على ما تبين لي لأنه أرسل إلي) كتب له يشكره ويرجوه أن يقف إرسال الباقي حتى يتم توزيع هذه النسخ العشرين التي لم يجرؤ على أن يهديها للأدباء من أصحابه، لأنها ضعيفة جداً من الناحية القصصية. . . وكان من الطبيعي أن يغضب هذا الكاتب العراقي ويرسل إليك هذه الكلمة الحافلة بالاتهامات والافتراءات!

ولقد كنت أود يا أخي أنور ألا تنشر رسالة الكاتب العراقي قل أن تتحقق من صدق ما جاء فيها بنفسك، بالرغم من أن تعليقك كان معتدلاً نزولاً على حكم الذوق وواجب الزمالة. . . أقصد أنه كان من المفضل أن تقوم بالتحقيق قبل نشر الاتهام. ولك خالص التحية من أخيك

بيروت - لبنان

(. . .)

أشرت في الكلمة السابقة من (التعقيبات) إلى أن هذه الرسالة من أديب لبناني صديق. . . وإن ما بيني وبينه من أسباب الود وأواصر الصداقة وطول المصاحبة، ليدفعني إلى أن أثق بروايته حول ما ذكره عن مجلة (الأديب) اللبنانية، وما يلقاه صاحبها من سبيل إصدارها من عبء العيش وإرهاق الحياة!

وأشهد لقد كنت حريصاً على إظهار الحق سواء أكان هذا الحق في جانب الاتهام أم في جانب الدفاع. ولهذا نشرت كلمة الأديب العراقي الفاضل لأتيح له أن يقول ما يشاء، ثم عقبت عليها بكلمة أقتطف منها هذه الفقرات: (ولا نريد أن نصدق هذا الذي يقصه علينا الأديب الفاضل. لأنه لو صحت هذه الوقائع التي ينسبها إلى هذه المجلة، لترتب على ذلك أن يفقد القراء ثقتهم في رسالة الصحافة الأدبية. . . إننا نريد للصحافة الأدبية أن تسمو برسالتها فوق مستوى الظنون والشبهات، قلا يتهم المشرفون عليها بما ينقص من قدرهم وقدر الأدب وقدر الكرامة العقلية. نقول هذا ولا نريد أن نصدق هذا الذي بلغنا عن زميلة نحرص كل الحرص على أن يظل مشعلها مضيئاً بنور الفن ونور الإيمان. . . ونمسك القلم عن التعرض لاسم الزميلة وأسماء المشرفين عليها إلى حين؛ نمسك القلم حتى نطمئن إلى حقيقة هذا الاتهام من جهة، ويطمئن الذين تسمهم كلمات الأديب العراقي إلى أننا نحرص على مكانتهم من جهة أخرى)! من هذه الفقرات يتبين للقراء مدى احترامي لحرية الرأي التي هيأتها للكاتب العراقي الفاضل، ومدى مراعاتي لواجب الزمالة الصحفية التي أملت على أن أهمل الإشارة الصريحة إلى اسم (الأديب) صاحب الأديب، ومدى حرصي على سماع كلمة دفاع من الجانب الآخر توضح حقيقة هذا الاتهام. . . واليوم وقد جاءتني هذه الكلمة، فإنه لا يسعني إلا أن أنشرها كاملة كما نشرت الكلمة الأخرى كاملة، متجاوزاً عما في الكلمتين من عنف الأداء وقسوته، ما دام رائدي أن يقارن القراء بينهما ليكشفوا عن جوهر الحقيقة؛ في ضوء الحرية القلمية التي أومن أنها من حق كل أديب!

أما عن قول الصديق العزيز بأنه كان من الأفضل أن أقوم بالتحقيق قبل نشر الاتهام فلا أوافقه عليه، لأنني لا أحب أن أعترض طريق رأي صاحبه أن يبلغ أسماع الناس. . . إن لكل إنسان الحق في أن يتهم وإن لكل متهم مثل هذا الحق في أن يدفع عن نفسه ما رمي به، ولن تظهر الحقيقة إلا إذا استمع الناس لشتى الآراء من هنا وهناك!

شاعرة مصرة تودع الحياة:

أشهد أن حياتها كانت أقباساً من وهج اللوعة، وفنوناً من عبقرية الألم، وخريفاً لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس. . . واشهد أنني قد حاولت جهدي أن أجدد في روحها ضياء الأمل، وأن أحبب إلى نفسها جمال الحياة. . . ولكنها آثرت أن تمضي هكذا مسرعة، تحث الخطى إلى عالم ليس فيه غير الظلام. . . والسكون. . . والعدم!

واليوم وقد رحلت هذه الإنسانة عن دنيا الناس إلى غير معاد، يتعثر القلم في يدي وأنا اكتب عنها هذه الكلمات. . . ليس ذلك لأن القدر قد ظلمها في حياتها كل الظلم، وقسا عليها في مرضها كل القسوة، وأذبل في موتها زهرة العمر قبل أن يتضوع منها عطر الشباب. . . ولكن لأنها قد طلبت إلى أكثر من مرة أن أكتب عنها كلمة رثاء!!

من هنا يتعثر القلم في يدي. . . وسيتعثر في الأسبوع القادم حين أتحدث عنها كظاهرة حزينة من ظواهر الوجود، أو كدمعة حائرة لم تجففها يد الزمن. . . إنها الشاعرة (ن. ط. ع) التي رحلت بحزنها عن دنيا الناس، ونأت بشعرها عن صفحات الرسالة!!

أنور المعداوي