مجلة الرسالة/العدد 894/كشاجم
مجلة الرسالة/العدد 894/كشاجم
للأستاذ عبد الجواد الطيب
ما كان لنا - ونحن نؤمن بالإقليمية وأثرها في الأدب - أن نتحدث عن شاعر مثل كشاجم الفلسطيني المنيت والنشأة على أنه شاعر مصري، يكتب فيه بحث في الأدب المصري، لولا أن الرجل كان قد وفد إلى مصر فيمن وقد إليها من الشعراء كالمتنبي وأبي تمام وكثير عزة، وغيرهم من الشعراء الذين حدث بينهم وبين البيئة المصرية من التفاعل ما جعلها تتأثر بهم ويتأثرون بها.
وإذا كان شاعر كالمتنبي مثلاً أقام في مصر فترة من الزمن ثم رحل هنها متبرماً بها ساخطاً عليها، فإن شاعراً ككشاجم لم يتبرم بها هذا التبرم، ولم يرحل عنها إلا ليعود إليها، وقد شفه الوجد وأضناه الشوق:
قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني ... والآن عدت وعادت مصر لي دارا
فهو إذن لم يلم بمصر إلماماً، وإنما أقام بها وقتاً جعلها حرية بأن تكون داراً له، ثم كاد يرحل عنها حتى عاد إليها صباً مشوقاً يتخذها مستقراً ومقاماً.
فنحن حين نتحدث عن كشاجم كشاعر مصري لا نفعل هذا لمجرد أن إقليم الشاعر كان تابعاً لمصر حياة كشاجم، فهو إذن مصري بالتبعية السياسية.
ليس هذا طبعاً هو الذي نعنيه، فإنه وإن كانت هذه التبعية قد يكون لها أثرها في الحياة الأدبية إلى حد ما، إلا أن أثر البيئة الجغرافية بحدودها ومعالمها أعظم من هذا خطراً، وأبعد مدى، ولهذا حين أتى كشاجم مصر واتخذها مستقراً له، وتأثر بطبيعتها، وظروفها المادية والمعنوية. . . يمكن اعتباره من هذه الناحية شاعراً مصرياً، أو على الأقل فيه جانب مصري جدير بالدارسة.
لقد يكون سر اختياري لكشاجم بالذات دون غيره كالمتنبي وأبي تمام. . . هو أن كشاجم لم يثر اهتمام الدارسين، ولم يحظ بما حظي به غيره من عناية الباحثين من القدماء والمحدثين، فالمتنبي مثلا كان موضع عراك، وأخذ ورد، ودوي هائل، ظل صداه بل ظل امتداده إلى الآن، فهو قد حظي بعناية القدماء كثيرا، والمحدثين أكثر. أما كشاجم فهو شاعر مغمور أو كالمغمور، فلا يجد المتتبع له إلا نتفاً مبعثرة هنا وهناك، ومع هذا فكلها حديث مقتضب، معاد: من أنه رملي فلسطيني، ولد فإذا هو طباخ في بلاط سيف الدولة، وإذا هو أيضاً شاعر ظريف، (كافه) من كاتب و (وشينه) من شاعر و (وألفه) من أديب. . . إلى آخر هذه الأحكام العامة التي تلقي جزافاً دون تحقيق أو تمحيص. فأما نشأته وثقافته، وأما أدبه وآثاره الأدبية. . . فليس كل هذا في نظرهم جديراً بالدراسة والعناية. . .!!
لهذا يجد الباحث لذة - وإن كان يجد عناء أيضاً - في أن يحاول أن يجلي صفحة من صفحات الأدب مطموسة المعالم أو هي كالمطموسة.
- 1 -
كشاجم: هو محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك (وشاهك أم السندي لا أبوه، وكنيته أبو الفتح، أو أبو الحسين، وقيل بل أبو النصر، ولا يعنينا هذا الاختلاف في قليل ولا كثير.
وقد اتفقت جميع المراجع في اسمه واسم أبيه، وتكاد تتفق على اسم جده إذا ما صرفنا النظر عما أورده السوطي في حسن المحاضرة مع أنه: (محمود بن الحسين بن السدي بن شاهك) ولعل هذا تحريف لا يلتفت إليه بجانب ما أثبتته الكثرة من المصادر الأخرى، ولاسيما بعدما أورده السمعاني في كتاب الإنسان من قوله: (وأما السندي بن شاهك فهو كشاجم الشاعر، يقال له السندي لأنه من ولد السندي بن شاهك الذي كان على الحبس أيام الرشيد ببغداد). وقد يبدو في الظاهر أن هذا الاختلاف شكلي مثل الذي قلنا في الكنية، ولكن الواقع أن تحقيق النسب له أهميته من حيث معرفة السلالة التي انحدر منها الشاعر، مما قد يكون له تأثيره بشكل ما على ميوله واتجاهاته، وبالتالي على ما ينتجه من أثر فني، فالسندي بن هاشك هذا هو إذن جد كشاجم، وهو الذي ذكر الجهشياري أنه كان يلي الجسرين ببغداد في عهد الرشيد وقد ذكر أبن ميسر أنه كان هندي الأصل وكان صاحب الحرس.
هذا ما يتعلق باسمه وكنيته ونسبه وأصله.
أما اللقب الذي اشتهر به فهو (كشاجم) وقد قالوا فيه وفي تحليله: (إن الكاف من كاتب، والشين من شاعر والألف من أديب والجيم من جواد والميم من منجم) وقد يكون لنا وقفة عند هذا اللقب وتحليله بهذه الصورة عند الحديث عن ثقافة الرجل في العدد القادم.
- 2 -
ولد كشاجم بالرملة في فلسطين، وتاريخ ميلاده في غاية الغموض، إذا لم يحدده مرجع واحد من المراجع التي بأيدينا، كما أن طفولته ونشأته كذلك غامضة إلى حد كبير، ولا نعلم شيئاً ذا بال عن أسرة الشاعر، وهي بيئته الأولى التي ترعرع فيها، والتي أرضعته وغذته حتى تكون خلقاً سوياً جمع، ولاشك، في طوايا نفسه كثيراً آثار هذه البيئة الخاصة التي نشأ فيها أول ما نشأ، وهذه معلومات لا يستهان بها، وقد كانت حرية أن تسهل علينا مهمة الدرس والتحقيق، ولكن مما يؤسف له حقاً أن الرجل لم يجد عناية من كثير من المؤرخين، وأصحاب التراجم، ومن ترجم له منهم جاءت ترجمته مقتضبة كل الاقتضاب، ولا تلقي على حياة الشاعر إلا أضواء باهتة، لا تصور النواحي الهامة من حياته، وليس من شأنها أن تساعد على تصويرها تصويراً دقيقاً، ومع هذا فالباحث لا يسعه إلا أن يحاول الانتفاع بهذه الأشعة ثم يحاول بعد هذا أن يسد ذلك النقص بشيء من الأناة والصبر، وتعمق النصوص واستبطانها.
- 3 -
وإذا كان مترجموه قد أهملوا سنة ميلاده، فقد اضطربوا في سنة وفاته بين: سنة 360، سنة 350، سنة 330هـ، ولعل أضعف هذه الآراء هو الرأي الأخير، لما ذكره من تعرضوا لترجمته من أنه كان طباخاُ لسيف الدولة الذي لم يظهر على مسرح السياسة قبل هذا التاريخ، أما الرأيان الأولان فقد يصعب الترجيح بينهما وهما على كل حال متقاربان إلى حد ما، ولكن قد وردت في ديوان كشاجم إشارة عابرة فيها تعريض بكافور الإخشيدي حين يهجو غلاماً له أسمه كافور:
حكيت سميك في برده ... وأخطأك اللون والرائحة
فإذا صح أن هذا التعريض حصل في إثناء ولاية كافور (55 - 57هـ) فقد يكون في هذا الاحتمال ما يستأنس به في ترجيح الرأي، وهو أن وفاة كشاجم كانت سنة 360هـ. هذا عن وفاته، أما مولده فقد سبق أن قلنا أن أحداً من المراجع لم يلق ضوءاً عليه، وهذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاهتمام بتاريخ الميلاد - كانت شائعة في هذه العصور القديمة، التي لم تظهر فيها العناية بالمواليد والوفيات على أساس ثابت، كما هو الشأن عند الدول المتحضرة الآن. ثم أن التاريخ - فيما يبدو - كان أرستقراطياً لا يحفل كثيراً بغير الملوك والأمراء؛ فإذا ولد هذا الطفل أو ذاك من عامة الشعب لا يعيره أدنى التفاتة، ولكن إذا قدر لهذا الطفل أن يكون في مستقبل أيامه وزيراً خطيراً، أو عالماً كبيراً أو أديباً مشهوراً. . . فهنا يقف التاريخ في أرستقراطيته الساذجة، ويعير هذا الرجل شيئاً من عنايته؛ من هنا يجد الباحثون صعوبة ومشقة في تحقيق تراجم كثير من الأدباء والعلماء ودراسة آثارهم الأدبية والعلمية، فهم يجدون دائماًِ حلقة أو حلقات مفقودة، كم يودون لو عثروا عليها فتنير أمامهم الطريق.
وهكذا نجد التراجم قد سلكت عن مولد هذا الشاعر وطفولته ونشأته، وبيئته الأولى وفجأة يقفز إلى الوجود طباخاً في قصر سيف الدولة، أو شاعراً من وراء والده أي الهيجاء. وحتى هذا الذي ذكروه بحاجة إلى الوقوف عنده، فنحن نستطيع أن نفهم أن كشاجم حين يكون طباخاً لسيف الدولة ولا يأتي ذكره في شعره ربما يكون ذلك معقولاً، أما أن يكون شاعراً لأبي الهيجاء بينما لم يزد ذكر لأبي الهيجاء هذا ولو في قصيدة واحدة من شعر شاعره فهذا هو الذي لا نستطيع أن نسيغه!!
ومع هذا فالباحث لا يصح أن يقف مكتوفاً أمام هذه الصعاب، وإنما يجب أن يعمل عقله في النصوص التي بين يديه عساه أن يخرج منها بشيء مما ذكروه مشوهاً، أو أغفلوا ذكره إغفالاً.
فهذا ديوان الشاعر يحدثنا أنه مدح علي بن سليمان الأخفش النحوي، ويصفه بأنه أستاذه، وأنه قد تخرج عليه، ويحدثنا ياقوت في معجمه أن هذا الأخفش مات في شعبان سنة 315هـ والعني هذا أن كشاجم كان قد جاوز مرحلة الطفولة، ثم مرحلة الأولى - على الأقل - قبل هذا التاريخ، وإلى جانب هذا تراه يرثي محمد بن عبد الملك الهاشمي المتوفى سنة 312هـ، وهذا معناه كما قلنا أن كشاجم لم يكن في سن الطفولة الأولى إذ ذاك وأنه كان على الأقل في الحلقة الثانية من عمره، وهذا كله يقوى عندنا الظن بأن مولده كان في أواخر القرن الثالث الهجري، وإذا كان قد رجح في نظرنا ذاك الرأي القائل بان وفاته كانت 360هـ فمعنى هذا أن حياة كشاجم أربت على الستين، وهذا ما يؤيده ذكره للشيب والضعف في مواضع كثيرة من ديوانه.
عبد الجواد الطيب