مجلة الرسالة/العدد 893/عهد
مجلة الرسالة/العدد 893/عهد
لصاحب العزة محمد محمود جلا بك
- 3 -
كان لأستاذي العظيم (الشيخ محمد عبد المطلب) أخذ فريد في تعليمي، فقد يسلخ الساعة والساعتين يتلو عليّ قصائد لمختلف الشعراء وفي شتى الأبواب، ثم لشاعر واحد، لا يترك لي فرصة أستوضح فيها معنى أو أسال تفصيلاً عن الشاعر، وأنا في إصغاء دقيق هو كل ما يطلب مني. وكان يقول في تبرير هذه الطريقة: (إنما أريد أن يعتاد سمعك شعر عصر معين؛ ثم نعود إلى مثل ذلك لشاعر بعينه! فتنشأ لديك ملكة تمييز بحيث ترجع ما تسمع ولأول ما تسمع إلى عصره. فإذا كانت الخطوة التالية وهي الاستماع لشاعر بذاته استطعت كذلك أن تتبين الشاعر من نفسه وطريقته والشائع من فنه).
ولن أشق على القراء فأجتزئ بأمثلة هي اقرب ما يصور روح الصديق الشاعر الشاب. وقد تسرني من مروءتهم المشاركة والتتبع، فأما الأولى ففضل من علمهم؛ وأما الأخرى فوفاء يجزي الله عنه في العاجلة قبل الآخرة. سيرون من خلال القوافي صورة الشاعر، وسيتبينون من القريض أسرار النفس، وسيكون في الاثنتين حين تتضامان تأريخ دقيق للشخصية.
وهنا نفتتح ديوانه بقصيدة في (حكيم المعرة) رحمه الله
عاذلي مكنتك مني نفس ... عقها الدهر واستباها الحياء
قد تجازوت في ملامك حدا ... والدوا قد يكون منه الداء
أي لوم على قرين حجاً يرنو ... لما لا تناله القرناء
ما عليها سوى المعالي أمير ... ولها انفس الكرام إماء
نفس حر لم يثنيها عن ذرا المج ... د صعاب ولم يعقها عناء
عهدت ألفة التوجع لا تخشى ... لخطب يضيق عنه الفضاء
ما تراني أسعى فاجهد نفسي ... ومن الخطب مدلهم عياء
أبدا أقطع الليالي بفكر ... يقطع الهم عزمه والمضاء
وكأن ليلي الطويل أماني ... فما أن يبين منها رجاء طال حتى مللته وأرى أن ... ليس تنجاب هذه الظلماء
وكأن الهلال فيه حبيب ... طال منه دون الحبيب الثواء
فمضى يذرف الدموع فذي ... الأنجم دمع تقله الزرقاء
ودموعي بمقلتي جوار ... ولكم قرح العيون بكاء
هذه توقظ النفوس من ... اليأس وهذي في مثلها البأساء
خفيت حكمة الآله عن الخ ... لق فكل بعلمها أدعياء
كلهم يزعم الحقيقة ما يعلم، ... لله ما يكن الخفاء
فأسألن ساكن المعرة هل ... ضاقت عليه يجمعها الغبراء
أي شيء قضى القضاء عليه ... وهو شيخ يحار فيه القضاء
سعد المرء لا يقر بعيش ... وحياة مصيرها الانقضاء
لا يغرنك ما ترمي في رحال ... من ثراء يضيق عنه الفضاء
قد ينال العلاء فيها أخو ألف ... قر ويزري بأهله الإثراء
إنما المجد هبة من سبات ... هو للمجد والأماتي داء
وأرني قضيت عشراً وتسعاً ... كان حظي في كلهن العناء
أنظر على من وقع نظره ممن خلد التاريخ يسهل عليك تعرف اتجاهه واذكر أنه ينطق بهذا الشعر وينبئ عن اختياره وهو في التاسعة عشرة؟ في السن تتميز بالمرح وتضليل الإفهام بما يحوطها من مفاتن الدنيا منعكسة على مرآة الغرور. ولم يكن مناص أن يأتي حكمه كما يجب أن يكون أثر هذه النظرة للدنيا واتخاذ المثال (سعد المرء لا يقر بعيش)!.
وفي التاسعة عشرة قل ألا يتحدث شاب عن الحب، بين لداته، أو في شعره أن رزق الشاعرية. وها هو (أحمد عبد اللطيف البرطباطي) يقول في (العذال والحب) ولكنك واجد بلا شك مع روح الاستقرار ريح الاعتداد بالنفس، أو بالأحرى ما قرت به عينه من أحكام على من حوله!
أزف البين واستطار الرجاء ... ليت شعري يا قلب كيف النجاء
أيها اللائمون ماذقتم الح ... ب وأنتم بكنهه جهلاء
ما كفى بعدما حملت من الدا ... ء فأرضي بعذلكم وهو داء أتصروني على الهوى أو دعوني ... يرتمي بي القضاء كيف شاء
أزعمتم بأنكم ففصحاء ... أنا منكم وإن زعمتم براء
ثم أنظر إلى هذا الوصف الرابع للحبيبة:
ملؤها الكبر والدلال وفيها ... أسهم ينتمي إليها المضاء
أي ذنب ذنب الدخيل فؤادي ... وعيوني جميعها الغرماء
ملكته مرعى خصيباً هنيئاً ... يرتع الريم فيه كيف يشاء
قد تضر الفتى جوارحه ... السمع والقلب بعضها إيذاء
كم جليل هوى لنظرة عن ... وذكي أبلى قواه الذكاء
إن في بعض ما نحب لهلكا ... والذي خلته رجاء عناء
وأجمل ما في قصيد الشاعر همزياته وهو فيها أطول ما يكون نفساً. ولعل في (الألف والهمزة) سراً يتصل بالطبيعة البشرية، فالنطق بهما - أقرب إلى تنفس الصعداء من هم وداء
ويتفق للشاعر وللكاتب أن يكون وزن معين وقافية بذاتها أدنى إلى ذوقه الموسيقي؛ وقد يحبب إليه اسم بذاته؛ فلعل أروع شعر المتنبي في ميمياته ودالياته وشوقي بك في همزياته ونونياته، وأكثر الأسماء حظوة عند أناتول فرانس (تيريز)، فهي اسم لقيمة داره؛ وعلم لصاحبة الدرر الأول في ورايته الغراميات الوحيدة (الزنبقة الحمراء).
(للحديث بقية)
محمد محمود جلال