مجلة الرسالة/العدد 893/أنا. . . والبحر!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 893/أنا. . . والبحر!

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 08 - 1950



(مهداه إلى الأستاذ راجي الراعي)

للأستاذ صبحي إبراهيم صالح

(أيها البحر! أبها الملك الجبار، المحفوف بالأسرار!

إنني الساعة في ثبجك، أدنى ما أكون إلى عرشك، بعد أن تجرعت في عبابك ماءك الأجاج، ولقيت في سبيلك الأهوال من جنودك الأمواج. . .

لقد بلغتك بشق النفس لتقربني نجياً، فهل أنت طاردي أم ستكون بي حفياً؟

تبسم (ملك السواحل) ضاحكاً من قولي، وكأنما أدركته الشفقة عليّ، فأوحى إلى جنوده الأمواج: (أن انطلقوا جميعاً إلى الشاطئ القريب، ودعوني وحدي مع الفضولي الغريب. . .)

حتى إذا شرعت أمواجه تنحسر التفت إلى وقال: (تكلم ولا تخف إنك من الآمنين)

فتنفست ملء رئتي بعد أن احتبست من طول السباحة أنفاسي، وأنشأت أقول للبحر الأثبج معجباً بحلمه، فرحاً بما لقيت من كرمه:

- أتدري ملك السواحل أن أبرز سجاياك سعة صدرك، وشدة صبرك؟

- أجل. . . وبسعة صدري وشدة صبري استطعت أن أحتفظ بعرشي حين ثلت العروش، وأن أصون تاجي يوم حطمت التيجان.

- لقد رأيت عرشك أيها البحر في ثبجك. وما لاح لعيني تاج على لججك. . .

- وكيف يلوح الآن في الأصيل تاج لا يزين رأسي إلا قبيل الغروب؟ أن تاجي هالة حمراء من نور الشمس حين تروم المغيب في الأفق البعيد.

- أنظرني إذن إلى وقت غيابها، لعلي أرى هالتها تكلل رأسك الجميل.

عنجر البحر شفتيه، كأن طلبي الأخير لم يرق لديه، ثم قال:

- أنظرك؟. . . كلا. . . حسبك ما يأخذك الآن من سحرها، وما تحسه من اتقادها ووهرها فإني أغار عليها من نظرة الإنسان، ومن ملاطفة الهواء ومن نجوى السماء. . .

- لله درك من عاشق ولهان، ولله در لنلوك حين يعشون!

- نعم. . . عاشق أنا ومدنف؛ وإني لأصف معشوقتي بما لا يبلغ وصفه الشعراء. فعلى جبينها الوضاح نور يتألق، وفي عينيها الزرقاوين شرارة تلتهب، وبين شفتيها الحمراوين خمرة تفور. أما خدها الأسيل فزنبقة من الحلد، وأما شعرها الطويل فموج من ذهب، وأما خصرها النحيل فأرهفته يد الخالق الفنان.

- يا ليت شعراءنا يسمعون وصفك الخيالي ليعلموا أن أشعار الملوك ملوك الأشعار. وأنها تنطلق من أعماق القلب هازئة بالقوافي والأوزان.

- إن شعراءكم أيها الناس مغرورون، وكثير منهم كاذبون. يكتفون بتقطيع البحور ووزنها، ثم يصرون ما لا تدركه بصائرهم ويتخيلون مالا حقيقة له في أنفسهم، ويخدعونكم بزخرف ألفاظهم فتقعون له ساجدين.

- ولكن أعذب الشعر أكذبه أيها الملك الشاعر.

- وإن للكذب فنوناً وأساليب، أيها الفضولي الغريب، فلقد تتخيل ما تشاء من الأخيلة الكواذب وأنت - مع ذلك - صادق الشعور صدقاً فنياً لا خلقياً. وإن لك أن تكذب ما حلا لك على أن تتلو وحي قلبك، حين تفنن في كذبك.

- سأقول هذا لشعرائنا المعاصرين؛ ولكن. . . من لقنك هذا أيها البحر العظيم؟

- ملهمتي. . . أجل. . . الشمس التي تفيض على النور، فتجعلني مرهف الحس والشعور.

- الشمس - دائماً الشمس - ألست تبصر سواها في الوجود؟

- ومالي لا أغمض عيني عن سواها وهي ربة النور

- أنظر إلى السماء. . . إنها - هي الأخرى - فاتنة حسناء حين يصفو أديمها، ويتهلل وجهها، فتسر الناظرين.

- السماء؟! أكرهها

- لماذا أيها البحر؟

- لأن سحابها الثقال تحاول أن تحجب عب الشمس كلما تكاثفت، ولأن نجومها التياهة ودت لو تعوض لألاء شمسي كلما طلعت، ولأن قمرها المغرور ينكر الجميل ويحسب أنه ناسخ بنوره ضياء شمسي كلما سطع.

- أنت إذن تكره الظلام؟

- ومن لا يكرهه في الوجود؟ أن الظلام معلم النفاق الأول - وكيف ذلك؟

- إنه ستار صفيق، وحجاب ثقيل. أن المجرم ليتوارى في جنح الظلام فلا تدركه الأبصار؛ وإن ذا الوجهين لرابحة تجارته إذا عسكر الليل البهيم.

- بيد أن الحقائق لا تخفى طويلاً.

- لأن النور هو الذي يزيل خفاءها، ولو بقيت في الظلام أظل الناس جهلاء لا ينعمون بحقيقة، بلهاً لا يطلعون على سر.

- أرجو أيها البحر أن يكون في قلبك من الصراحة كفاء حبك لها وثنائك عليها.

- إن لي منها مقداراً عظيماً. الست تراني جارحاً والصراحة جارحة؟ أو لست تراني عاريا والصراحة عارية!

- أنت؟ أنت أيها الملك عار؟ وأين أبهة الملك وزينة السلطان؟ أأنت أيها الجالس على عرشك عار وإن الخدم بين يديك يلبسونك ما تشاء، وينتقون لك من الأزياء والألوان ما تريد، فهي تارة زرق صافية بلون السماء في اليوم الصائف، وهي تارة عكرة شواحب كلون السحاب حين يهدودر المطر، وهي أحياناً بيض نواصع من اثر الجليد في صنابر الشتاء؟. . .

- ها ها. . . أهذه أزياء وألوان، في نظرك أيها الإنسان؟ إنني - بالرغم منها جميعاً - عار لا يسترني لباس. إنها تعلن صراحتي وتفضح ما بنفسي، فكلما بدت مياهي زرقاً صافيات كنت ناعم البال رخي القلب، وكلما بدت عكرة شواحب كنت شتيت الخواطر قلق النفس، وكلما بدت بيضاً نواصع كنت جامد المشاعر خامد الإحساس. وما أستطيع - وفي حالة من هذه الحالات - أن أكتم تأثري وانفعالي، وتلك - لعمري - مزايا الصريح.

- ما أبرعك في الدفاع عن نفسك! ولكن. . . قل لي أيها الملك العاشق الشاعر الخطيب: متى ترضى ومتى تغضب؟

- أرضى إذا رضي أصحابي، وأغضب حين يغضبون.

- وما أوفاك!. . . ومن أصحابك؟

- كل صريح لا يداور، مخلص لا ينافق.

- ومن أعداؤك؟ - ألد أعدائي الأنواء والرياح، فإنها تخرج أثقالي، وتقطع اوصالي، وتجعل بعضي يموج في بعض.

- والحرب؟

- ويل لي من الحرب؟ أنها تساعد الأنواء والرياح نكايتي واستفزازي، ولا سيما حروبكم الأخيرة التي مزقت أيها الناس لفائف قلبي وقطعت أمعائي، وعلمتني أن أكون كالغراب، آكل لحوم الأموات الخنزة وأواريها في أحشائي

- ولكنك أيها البحر الجروز تأكل لحوم الأموات حتى في غير الحروب.

- هذا كذب وزور.

- كيف وأنت في السلم تلتهم في جوفك الأب فتخلف أبناءه يتامى، وتبتلع في بطنك الحبيب فتفصله عن حبيبته، وتدفن في أحشائك الوحيد فتثكل بفقده أمه؟ إنك قاس أيها البحر مهما أظهرت اللين فاجتذبت القلوب، شرس ولو مثلت الوداعة فأجدت التمثيل.

- ماذا تقول؟

- أقول إنك تتظاهر بكراهية النفاق وأنت غريق فيه كواعظ ينهى على الخلق الذميم وهو يأتيه، وأقول انك تلبس مسوح الرهبان، ينقض على فريستك انقضاض التعبان.

- لقد أكثرت القول يا هذا وأنا صبور.

- وأقول إنك كساسة الغرب تصافح بيد من حرير. وأنت تبيت الغدر، وتمكر أشد المكر. . . أما كان خليقاً بك أن ترحم الملاحين الذين يمخرون عبابك، والرحالين الذين يضربون في مائك، والمسافرين الذين ينزلون ضيوفاً عليك، والسابحين الذين يغوصون في قاعك؟ أما كان جديراً بك أن تأخذ بأيديهم إلى الشاطئ بدلاً من أن تغيبهم في أعماقك، أو تهشمهم على صخورك، أو تلقي جثثهم عند أقدام جزرك، أو تحبسهم في مضيق خلجانك أو تجعل بقاياهم طعاماً لحيتانك؟!

- أيها الفضولي المتفلسف! إنك تجهل حقائق الأمور. ما ينبغي لي أن أغرق أحداً وما أستطيع. أن أعدائي الرياح والأنواء تأبى إلا أن تزيد في نكايتي واستفزازي فتثور في وجوه أحبابي، وتهوي بهم في مكان سحيق.

- ربما اقتنعت بكلامك لو وقفتني على سر هذه الطعوم التي تعدها لنا معشر الناس.

- الطعوم؟ أية طعوم تعني؟

- أعني طعومك. . . أعني اللحوم الطرية التي تجول في صدرك، بل الحلي الجميلة التي تتدلى على نحرك. . . أعني الأسماك التي ترغب في اصطيادها، واللآلئ التي تولع باقتنائها. . . أو ما تكفي هذه وتلك لتكون طعوما لنا معشر الناس؟

- وما ذنبي إذا جئتم تغتصبون حيتاني فأغرقتكم في عبابي، أو أقبلتم تسرقون مرجاني فأوصد عليكم بابي؟ أن طمعكم يوردكم المالك أيها الناس.

- ولكنك أحياناً تعدو علينا من غير أن نأكل حيتانك، أو نسلب لؤلؤك أو مرجانك.

- ومتى عدوت عليكم؟

- كلما جن جنونك، وثارت ثورتك، فراحت قيضائك تدمر المدن الوادعة، وتدمدم على الدور الآمنة.

- لي بإقناعكم أن ليس هذا بعدوان مني أيها الناس من لي بإقناعكم أن العدوان لا يقوى عليه إلا ذو مرة وجبروت وأن ليس لي من القوة ما تزعمون؟ إنما فيضاني بكاء المهزوم المتراجع. أن عيوني لا تفيض إلا إلى حين تنتصر عليّ الأنواء العاتية والرياح الغاشمة. وأنتم أيها المساكين ضحايا دمعي المسكوب، فوا رحمتاه للضعيف المغلوب.

- كفى. . . كفى أيها البحر! ما برحت عند ظني بك، فإنك على قوتك تظهر الضعف، وعلى قسوتك تزعم اللين، وعلى نفاقك تدعي الإخلاص، وتريدنا معاشر الناس أن نؤمن بدعاويك وننخدع بزخرف ألفاظك.

ولم يدعني الحر أتم كلامي، فلقد تقبضت صفحة وجهه فقام على عرشه وقعد، ثم أرغى وأزبد، وأنذر وتوعد، ثم حشر جنوده الأمواج، وناداها، فأسرعن عاديات إليه من الشاطئ القريب، وأيقنت أني سعيت إلى حتفي بلظفي، فاستسلمت للأقدار وطفقت أسبح تارة على ظهري وتارة على جنبي، وأخبط طوراً بيدي وطوراً برجلي، وأريد أن أستغيث فلا تنطلق الاستغاثة من حلقي، ثم قبض الله لي الريح عدوة البحر فطردت فلول الأمواج إلى ناحية وأنشأت تدفعني بكلتا يديها إلى ناحية، حتى قاربت الشاطئ خائر القوى لاهث الأنفاس، فتلقاني بعض السابحين وأنقذني ومسرني ثم ابلغني مأمني.

ولما خرجت قدماي من المياه سمعت صوت البحر الأجش يجليل في الفضاء، شامتاً بما نالني من عناء: فإذا هو يقول وإن الأثير يردد صداه (لقد عدت أيها الإنسان إلى الشاطئ كما جئت إلى عرشي في موج كالجبال، وإنه لجدير بمن ظهر على أسرار الملوك أن يلقي الشدائد والأهوال!)

فلما نجوت إلى البر صحت بالبحر بأعلى صوتي:

(أيها الملك الجبار، المحفوف بالأسرار! لقد أصبحت الآن على رمل ساحلك، أبعد ما أكون عن عرشك، بعد أن عببت كرة أخرى ماءك الأجاج. ولقيت الأهوال من جنودك الأمواج!

كلا. . . لن أحاول أن تقربني نجياً؛ ولن أسألك أن تكون بي حفياً!. . .)

(طرابلس الشام)

صبحي إبراهيم صالح