مجلة الرسالة/العدد 890/طرائف من العصر المملوكي
مجلة الرسالة/العدد 890/طرائف من العصر المملوكي
سكردان السلطان
أو العدد سبعة
للأستاذ محمود رزق سليم
حيا الله مصر وبنياها، فقد كانت - ولا تزال - البلد الحنون العاطف المضياف! كم فاء إليها من لاجئ مجاهد وسكن إليها من غريب خائف مطارد، ضاق يه صدر بلاده، ونبا به المقام في وطنه، فوسعت له رحابها، وأمرعت له من جنابها، ولقيته لقاء الأم الروم ومدت له من حبال المودة، ما آنس قلبه وأقر لبه، وأستل من بين جنبيه الخوف، وأنزل فيه السكينة فنعم فيها بكرم العيش وبلهنية البال، في غير من منها ولا استكثار غير راجية لقاء هذا إلا المودة والبر، في غير عقوق أو مروق.
وقد عاونت الأحداث المعاصرة للعصر المملوكي على أن تصبح مصر - وكانت البلد الأمن الأمين، على ما بها - المهجر الموموق والمثابة المحبوبة لأبناء المسلمين والعرب في مشرق الأرض ومغربها فامتلأت فجاجها بالغرباء الراحلين إليها الساعين إلى أمانها الملتمسين الطمأنينة فيها، المرتجين رغدها ورخائها وسخائها.
ويضيق صدر هذا المقال لو رحنا نحصي عدد هؤلاء الغرباء وننوه بشتى مشاركتهم لهذا البلد في أدبه وعلمه مبينين كيف تأثروا بهما، وأثروا فيهما ولعل لنا إلى ذلك عودة في القريب.
وأحد هؤلاء الغرباء، شهاب الدين أبن أبي حجلة المغربي وأسمه أحمد بن يحيى التلمساني. ولد عام 725هـ بتلمسان بالمغرب. ورحل إلى الشرق فحج، واستوطن دمشق زمنا، ثم تجول إلى القاهرة، فأتخذها دارا، وظل حتى توفي عام 776هـ.
والفترة التي عاش فيها ابن أبي حجلة كانت فترة من الزمان مخصبة منجية، حفلت بعلية من الفضلاء، وحلبة سباقة من الأدباء، فترة عاش فيها الجمال بن نباته، والصفي الحلي، والصلاح الصفدي، والزين بن الوردي، وأبو بكر بن اللبانة، والنور الأسعردي، ثم البرهان القيراطي والعز الموصلي، وغيرهم من أهل الأدب والشعر وهي أدسم الفترات حكم الناصر بن قلاوون وقد امتدت حتى عهد ابنه الناصر حسن.
وقد كان أبن أبي حجلة أديبا بارعا وشاعرا مبدعا ومؤلفا وجامعا. فلا غرابة أن ذكت نفسه ونشط بيانه وسط هذا الحشد العظيم من الأدباء؛ ولا غرابة أن جمعت بينه وبين الكثير منهم وشائج العلم والأدب؛ وهي أحنى وشيجة نجمع بين القلوب وتلائم بين النفوس.
وقد قيل إن ابن أبي حجلة كان يهوى إلى الحنفية ويقول أنه حنفي، ويدلف إلى الشافعية ويقول أنه شافعي، كما كان يسامر أهل الحديث، ويسير في مواكب الصوفية حتى أنه ولى إحدى مشيخاتهم. ولعل ذلك من قلق الفن، وهو يغري بالتنقل، أو من ظرف الأديب وحسن تأتيه، ولبق الشاعر وطوع قوافيه
وقد كان ابن أبي حجلة شاعر تياها بالشعر، يرفع صناعته فوق كل صناعة وله في ذلك أدلة وبراهين ويزهي بما ينظم ويفخر. سالكا في أساليبه مسالك المبدعيين من أهل عصره مؤتما في ذلك بابن نباته شاعر جيله، ذواقة نقادا. حتى لقد نعى على الصلاح الصفدي بعض شعره فقال مؤديا:
أن ابن ايبك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح
نسب المعاني في النسيم لنفسه ... جهلا فراح كلامه في الريح
وهو يشير بذلك إلى أبيات للصفدي قالها في النسيم آخذا معناها من أبيات لمحي الدين بن عبد الظاهر.
هذا مع أن أبي حجلة نفسه لم يخل شعره من السرقات شانه في ذلك شان كثير من شعراء جيله. إذ كانت السرقة الشعرية متمكنة من نفوسهم. ولعل ذلك كان بدافع من الدعاية أو برغبة في التوسع في التضمين. .
ومهما يكن من شئ، فلابن أبي حجلة أكثر من ديوان شعري. وكثير من شعره في مدح النبي عليه السلام وقد عارض بهذا المديح قصائد ابن الفارض الشاعر الصوفي المعروف المشهور وقد كان أبن أبي حجلة كثير النقد له والنعي عليه
لم يقتصر ابن أبي حجلة على الشعر يعارض به أو يمدح ويقدح أو غير ذلك بل أقبل على الرسائل والمقامات والمقالات يدبجها، وعلى المؤلفات يروضها ويعالجها، حتى استقام له من ذلك جملة بارعة ويبدو أنه كان فطنا كيسا، ولبقا مؤنسا، عنده من بضائع الإيناس ألف صنف وصنف. ولهذا استطاع أن يحكم صلته ببعض الأمراء ويسبق إلى رحابهم ويمدحهم بقصائده ويصف مروءتهم وشجاعتهم وحروبهم. وممن مدحه منهم الأمير سعد الدين بشير الجمدار، والأتابكي كمجك والمفر السيفي يلبغا الناصري مملوك السلطان حسن، الأثير عنده وقد قال أبن أبي حجلة من قصيدة يمدح بها المملوك المذكور يصف بها شجاعته في حروب أعدائه:
أمير جيش غدت في كل نازلة ... لقومه في رؤوس القوم نزلات
ساقت عزائمه سحب الجيوش لهم ... وبريقها سيفه والرعد كوسات
لخيله وأعاديه إذا برزوا ... في موقف الحرب كرات وفرات
خليل إذا قرنت آذانها وظهرت ... لنصر راكبها منها قرانات
كم صح من يلبغا جبر لقاصده ... لكن لجيش الأعادي منه كسرات
وقد حظي ابن أبي حجلة - في هذا الزمان المستعجم - لدن سلطان عصره الناصر حسن حفيد قلاوون وقد كان ابن أبي حجلة أكثر من كتاب. ومن بين ما ألفه له كتابه المشهور (ديوان الصبابة) وأشار إلى ذلك بقوله في سباق قصيدة مدح بها.
ولي فيه من غر التصانيف خمسة ... وهذا الذي طوق الحمامة عاشره
وقد كنى بالشطر الثاني من البيت عن كتابه (ديوان الصبابة) إذا أن الباب العاشر منه هو باب طوق الحمامة. وهذا الكتاب في أخبار العشاق ومصارعهم وما جرى لهم من أحاديث وأشعار. وقد أحدث هذا الكتاب ضجة في بلاد الأندلس وألف لسان الدين بن الخطيب كتابا على غراره جعله في الحب الإلهي وقد سلك فيه مسالك الصوفية فزلق في بعض عياراته بما حوسب عليه حسابا عسيرا.
ويمتاز ابن أبي حجلة بحسن ابتكاره لموضوعات مؤلفاته وطرائقها، وابتكار الموضوعات، فن دقيق من فنون التأليف تتغاير فيه الخواطر، وله خطره وأثره، إذ هو الموجه للمؤلف من بعد، والموحي إليه بتشتيت أفكاره، ومختلف تصوراته، ومسالك عباراته
انظر إلى ابن أبي حجلة، وقد فطن إلى العدد (سبعة). . . فوضع فيه سفرا قيما أهداه إلى السلطان حسن وسماه (سكردان السلطان). . فكان من جملة ما ألف له.
وسكردان معناه (وعاء السكر) والكتاب - حقا - لذيذ ممتع. وموضوعة - كما نوهنا - هو العدد سبعة. ويحار المرء - قبل قراءته - فيما سيكتبه هذا الرجل في سفره عن هذا العدد. حتى إذا قراءه أتسع أمامه الأفق، ورأى في العدد سبعة معاني وخوصيصات، ندت عن ذكائه، وغابت عن خاطره. وإذا بالعدد سبعة أمام ناظريه يجمع من حوله، شتى من معلومات كان يظنها متنافرة فألف بينها. ومتباعدة فلائم بين شملها، بكياسة وظرف، وسياسة ولطف. وهذه هي عبقرية التأليف.
والمؤلف بين هذا الحشد الحافل من المعاني والأفكار والحوادث التاريخية والأدبية، والنوادر. ونحوها، له أسلوبه الخاص، يضفي عليه من ذات نفسه، ويسبغ فوقه من منهجه، فيبدوا فيه الحديث جديدا والغريب متأهلا، والفج ناضجا، والناعس العابس، يقظا بساما.
والكتاب - قبل هذا - مصري في صميمه. فقد عنى المؤلف بإبراز حياة العدد سبعة في الديار المصرية، مبينا ما لهذه الحياة من مناسبات وملابسات وصلات بها، مدللا على أن لهذا العدد نصيبا من الوجود ضخما، بهذه الديار، وبينه وبينها رابطة وثيقة العراء. وإذا كانت الأعداد قد تفرقت في الأمصار، واتخذ كل عدد منها لنفسه دارا، فإن العدد سبعة قد أختار مصر دارا له.
وقد دلل المؤلف على ذلك كله بحوادث لا تدع مجالا للشك في صدق ما لاحظه على العدد سبعة ووجوده بمصر. والحوادث التي ساقها، مع صدقها، كثيرة. وهذا يدل على ثقوب نظره وجليل ملاحظته.
وسواء أكان وجود العدد سبعة بالديار المصرية، وبروزه في حوادثها ومناسباتها، عارضا أم كان غير عارض، فقد استطاع المؤلف - بكتابه هذا - أن يركز في الأذهان المعنى الذي ذهب إليه، وهو أن العدد سبعة يحيا بالبلاد المصرية حياة موفقة سعيدة، أكثر مما يحيا في غيرها من البلاد، وانه إلى ذلك أشرف الأعداد.
وقد دلل المؤلف على صحة نظريته بأدلة لا تحصى، وهي ما بين حوادث تاريخية قديمة أخرى معاصرة، ونوادر أدبية، وغير ذلك. وقد نوهنا بان هذه المعلومات قد لا يجتمع إحداها بالأخرى - لأول وهلة - جامعة. ولكن المؤلف بلباقته، وجد بينها أصره قوية، وهي العدد سبعة. . .
واليك مثلا. فأية علاقة بين الحاكم بأمر الله الفاطمي، ويوسف الصديق عليه السلام، سوى أن كلا منهما من عظماء الرجال الذين مروا بمصر في تاريخها الطويل الحافل؟ ولكن أبن أبي حجلة لقي علاقة بينهما أخرى. . وهو العدد سبعة، فإنه ذو صلة بالرجلين وثيقة. . .
فالحاكم بأمر الله، لبس الصوف سبع سنين، وأوقد الشمع ليلا ونهارا سبع سنين، ومنع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلا ونهاراً، سبع سنين وسبعة اشهر. وكان يقرا نسبه على المنبر كل سبعة أيام، وانه قتل وهو يلبس سبع جباة مزررة علية. . .
أما يوسف عليه السلام، فقد رأى الرؤيا وهو ابن سبع سنين، وعاش في بيت الذي اشتراه من مصر سبع سنين، ولبث في السجن سبع سنين. وقد رأى ملك مصر في أيام رؤياه المشهورة وفيها سبع بقرات، وسبع سنابل. ثم جاءت من بعدها سبع سنين زرعت دأبا، واختزنت غلتها بإشارة يوسف. ثم جاءت من بعدها سبع سنين عجاف المجدبة وهكذا. . .
وبهذه المناسبة نذكر أن أبي حجلة، انتهز فرصة حديثه عن يوسف الصديق، وعرض لتفسير سورة يوسف، فشرحها برمتها تقريبا، وفسر الكثير من غامض آيها، على وجوهها العدة، معتمدا آنا على أقوال المعشرين، وأنا على نفسه ورايه، مستطردا في سباق ذلك إلى أقوال طريقة وآراء جديرة بالنظر وهكذا استطاع ابن أبي حجلة أن يتخذ من العدد سبعة تكأة قوية يستند إليها في عرض جملة نافعة من فوائد جعبته، ولا سيما ما كان منها في الأدب والتاريخ. والحق أن كتابه معرض حافل لجملة من صفحات مصر التاريخية، قديمها ومعاصرها. وكثير من هذه المعاصرة، كان هو أول من لاحظه بثاقب بصره ودقيق استقرائه.
ومن ذلك - مثلا - ما لا حظه عن الملك الناصر حسن، سلطان عصره. فقد قال أنه وافق أباه الملك الناصر محمد بن قلاوون في سبعة أمور، هي: اللقب، وترك السلطنة، والعودة إليها، والجلوس على العرش في المرة الأولى يوم 14 في الشهر، والجلوس في المرة الثانية يوم2 شوال، وانه وزر له متعمم ورب سيف وانه حكم مدة بغير وزير أو نائب سلطنة.
هذا ويحسن بنا أن ننوه في إيجاز، بمشملات الكتاب فقد رتبه على مقدمة وسبعة أبواب ونتيجة، وان تنقسم النتيجة أيضاً إلى سبعة أبواب أخرى.
وفي المقدمة: اجمل ذكر عدة حوادث مما وقع بالديار المصرية من متسمات العدد سبعة.
وتحدث في الباب الأول عن: خاصية العدد سبعة وشرفه ومزيته على غيره من الأعداد.
وفي الباب الثاني: عن العلاقة بين السلطان والعدد سبعة. وفي الثالث: عن إقليم مصر الذي عاش فيه العدد سبعة، ذاكر نبذة حسنة من أخبار هذا الإقليم، وحوادث القاهرة وأبناء النيل وما أتصل بذلك: وفي الرابع: عن السلطان حسن وانه سابع من جلس على سرير الملك، من أخوته مع نبذة يسيرة في أخبار من تقدمه من الملوك الترك بمصر. وفي الخامس: تحدث عن الملك الناصر حسن وعن أخوته وأبيه وعميه وجده وفي السادس: نوه بجملة حوادث عجيبة مما وقع لهؤلاء السلاطين، لم يسبقه إلى تأثرها أحد. وفي السابع فسر شيئا مما أجمله في خطبه الكتاب وفي الباب الخامس، متحدثا كذلك عن الآثار النبوية. وهو باب ملئ بالنكت الأدبية.
أما النتيجة فهو أوسع مدى مما تقدم، وأرحب صدرا، وابسط حديثا، وفيها تدليلات وتوضيحات وتفصيرت لما أبهم وأجمل في المقدمة. وهي تشمل على سبعة أبواب كذلك، فالباب الأول: في قصة يوسف، والثاني: قصة في فرعون وموسى. والثالث: بسط فيه الكلام عن ملوك مصر وعجيب حوادثهم ومتفقات حياتهم. والرابع: في سيرة التحاكم بأمر الله الفاطمي. والخامس في ذكر بعض حوادث مصر. والسادس: في ذكر حوادث القاهرة وضحاياها وفي الأهرام وغيرها. والسابع ذكر السبع الزهرات التي اجتمعت بمصر في صعيد واحد، وما قيل فيها من منظوم الكلام ومنثورة، وغير ذلك.
وحرص المؤلف على أن يختم كل باب بخاتمة خاصة به، مناسبة له. فمما سبق، يتبين لنا جهد الرجل فيما ساق من الحديث، وما عبابه إناء مسكرة أو (سكردانه) الذي أهداه إلى سلطانه.
فقد حشد له فيه أنواعا مما لذ وطاب، وغاب بالألباب. وحق له أن يقول عنه في خطبته:
(وسميته سكردان السلطان، لاشتماله على أنواع مختلفة من جد وهزل. وولاية وعزل. ونصيحة ملوك. وآداب وسلوك وسير وعبر، وتغيير دول. وانتحال ممل. وقطع طريق، وجر مجانيق. وأعمال سحرة. وبيان وتبيين ومدح وتأبين. ويقظة ومنام وبر وآثام وقال وقيل. وأهرام ونيل. وغرائب وعجائب. مما تلقفته من أفواه الشيوخ الآجلة. ورويته عن كقرة وقلة، وشاهدته بعين الحقيقة. والتقطته من التواريخ المعتمد عليها، التقاط الزهر من الحديقة. . .)
وبعد، فلعل في هذه الوجازه ما ينوه بابن حجلة المغربي وأدبه، وبكتاب قيم من كتبه.
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
محمود رزق سليم