مجلة الرسالة/العدد 890/دفاع عن الشعر الجاهلي
مجلة الرسالة/العدد 890/دفاع عن الشعر الجاهلي
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
بقية ما نشر في العدد الماضي
- 2 -
في المقالة ذكرنا آراء النقاد الذين يتعصبون على الشعر الجاهلي، وحددنا موقفنا منهم، وذكرنا بعض خصائص الشعر الجاهلي لترى رأينا فيها أحسنه هي أم معيبة يصح أن يطرح الشعر الجاهلي من اجلها، ونتابع الحديث في الجوانب الأخرى الباقية من خصائص الشعر الجاهلي لنستطيع أن نحكم له أو عليه
لاشك أن أهم طابع للشعر الجاهلي بعد الذي ذكرناه سابقا هو هذا الطابع البدوي الواضح الذي يفجؤك في شيء القصائد الجاهلية، مما هو اثر للبيئة والحياة الجاهلية. ونحن ندعو كما يدعو كل منصف إلى ترك هذا الاتجاه في الأداء والتصوير فقد اصبح لا يلائم منهج الحياة في القرن العشرين، كما أن إبراز هذا الطابع البدوي في شعر الشاغر المعاصر يكون تقليدا سخيفا لا مبرر له، ويحول دون ظهور نزعاته الفنية ومواهبه الخاصة المستقلة في شعره، وهذا ضرر بعيد
ومن آثار هذا الطابع في الشعر الجاهلي شدة تمثيلية للبيئة البدوية، وقد سار بعض الشعراء المحدثين على هذا النهج، فملأ وأشعرهم بصورة الحياة البدوية، من وصف النقاد والشعراء ودعوا إلى التحرر منه فقال مطيع بن إياس:
لأحسن من بيد تحار بها القطا ... ومن جبلي طي ووصفكما سلعا
تلاحظ عيني عاشقين كلاهما ... له مقلة في وجه صاحبها ترعى
وهذه دعوة جديرة بالعناية خليقة بالأيثار، وقد دعا المحددون في الأدب الحديث واكثروا من الدعوة إلى أن يكون الشعر صورة لحياة الشاعر ونفسيته وبيئته وعصره، وإلى أن يخلو من آثار التقليد للقدامى في أغراض الشعر وفنونه وموضوعاته وهذا اتجاه جليل قد سار بالشعر العربي الحديث خطوات واسعة نحو التجديد والجمال والروعة، فالشاعر الذي يكون غير مقلد في معناه أو في لفظه، ويكون صاحب هوية فنية في نفسه وعقله، ويتأثر ببيئت ويؤثر فيها، ويمثلها في جدها وفرحها وحزنها وسلامتها وحربها وألمها وأملها أتم تمثيل
ومن آثار هذا الطابع البدوي في الشعر الجاهلي أيضاً بدء اغلب القصائد الجاهلية بذكر الأطلال، ووصف الديار. وهذا مذهب أغلبية الجاهليين، لا يشذ إلا القليل، كعمرو بن كلثوم في معلقته التي بدأها بذكر الراح، وكتأبط شر في قصيدته اللامية المشهورة:
ن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطل
والتي يسميها بعض المستشرقين نشيد الانتقام ويدافع ابن قتيبة في أوائل كتابه (الشعر والشعراء عن نهج الجاهليين دفاعا حارا، فقد صور نهج العرب في وحدة القصيدة وما كانوا يبدءونها به من ذكر الديار والآثار ووصلهم ذلك بالنسيب والشكوى وألم الوجد وفرط الصبابة ثم ذكر الرحلة إلى الممدوح تخلا إلى مدحه واستجلابا لرضائه وسني ألطافه، وقال: والشاعر المجيد من سلك هذه الاساليب، وعدل بين هذه الأقسام وقد سار الكثير من المخضرمين والإسلاميين على هذا النهج أيضاً فاكثروا من بدء قصائدهم بوصف الأطلال والديار كما اكثر الكثير منهم من بدأها بالغزل، ولم يشذ عن ذلك إلا أبو نواس الذي دعا إلى بدء القصيدة بذكر الراح، قال:
وصف الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
وتبعه ابن المعتز فقال:
أف من وصف منزل ... بعكاظ فحومل
غير الريح وسمه ... بجنوب وشمال
وكان أبو نواس شعوبيا في مذهبه، أليس هو الذي يقول:
تبكي على الماضيين من أسد ... ثكلت أمك قل لي من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس ومن يمن ... ليس الأعاريب عند الله من أحد
ولكن ابن المعتز كان ناقدا يبحث عن الصلة بين الأدب والحياة ويحاول أن يلائم بينهما وينادي بتحضر الشعر وترك العداوة في وتمثيله لحياة الشاعر وآرائه في الحياة وقد ثار أبن رشيق على منهج الجاهلين في القصيد ورأى مع من رأوا لا معنى لذكر الحضري الديار وانه ليس بالمحدث من الحاجة إلى وصف الإبل والقفار لرغبة الناس في عصره عن تلك الصفات وعلمهم بان الشاعر إنما يتكلفها، وان الأولى وصف الخمر والقيان وقد تطفلت الحياة نفسها بصرف الشعراء المعاصرين عن هذا النهج الفني في القصيدة، فليس منهم والحمد لله من يبدأ قصيدته بذكر الإبل والقفار والديار والآثار بل أن ذلك لو فعله أحد الآن لرمي بالجنون ولكن معنى ذلك ألا يصف الشاعر المعاصر معاهد أهله وأحبابه في شعره أبدا، أو ألا يبدأ قصيدة من قصائده بذكر ها، ولكن نقول أن التزم بدء قصائده بذكر معاهد حياته وأحبابه ولم يتخل عن هذا المنهج، لم نحاسبه على ذلك، إلا إذا قيدها من حريته الفنية أو حبس مواهبه وملكاته الأدبية، فإنه يجب بحق ألا يقيد الشاعر نفسه بأي قيد لا تلزمه به لنفسه ومواهبه وملكاته الفنية وحدها، وإلا كان مقلدا لا نصيت له من الشعور بالحياة والإحساس بها والتمتع النفسي العميق بمشاهدها وصور وألوانها.
وهناك في الشعر الجاهلي ظاهرة أخرى نشأت عن الطابع البدوي الموروث وهي كثيرة الغريب والوحشي، ولا شك أن ذلك مذهب العرب القدامى وحدهم الأثر البيئة البدوية الجاهلية الخشنة في عقولهم ونفوسهم. وما أروع ما يقول صفي الدين الحلي الشاعر المتوفى في عام 750هـ:
إنما الحيزبون والدردبيس ... والطخا والنقاخ والعلطبيس
لغة تنقر المسامع منها ... حين تروي وتشمئز النفوس
وقبيح أن يذكر النافر - الوحشي منها ويترك المانوس
اين قولي: هذا كثيب قديم ... ومقالي: عقنقل قدموس
إنما هذه القلوب حديد ... ولذيذ الألفاظ مغناطيس
وليس هناك أحد يدعو إلى استعمال هذه الألفاظ، أو يرف قلبه حين سماعها، فهي ألفاظ تاريخية يجب أن نفهمها فحسب.
بقيت بعد ذلك الصور البيان الأدبي نفسه. أصوغ أسلوب على الصور القديمة التي يمثلها الشعر الجاهلي، أم نستمد صوره من ألوان حياتنا وبيئتنا وثقافتنا وحدها. ولنضرب مثالا واحدا لذلك: لاشك أن الجمل كان عماد الحياة في العصر الجاهلي، وفي أساليب البيان صور كثيرة أستمدن منه، فقد قالت العرب ألقى الحبل على الغارب، واقتاد غارب المجد وسنانه، ووطئه بمنسمه وضرسه بأنيابه، والقي عليه جرأنه، وناء وأناخ بزمام الأمر.
وقد حاول النقاد والبلاغيين في العصور القديمة أن يدعوا إلى توليد صور البيان وتنميتها من مشاهد الحياة والبيئة التي تتجدد دائما.
فهل نأخذ صور البيان القديمة في أساليبنا لترضى العرب القدامى، أو نولد فيها لترضى عبد القاهر الجرجاني وسواهما؟
لست أدعو إلى الأول ولا احبه، وإن كنت لا أرى في الرأي الثاني ضيرا أو ضررا؛ وأوثر أن الأديب إلى الصور التي يولدها صوراً جديدة، يستمدها من حياتنا وبيئتنا وألوان الحضارة التي نعيش فيها، والاختراعات التي تجد دائما بيننا والتي نبعد اللغة عنها ونحاول ألا نستمد منها صورنا الأدبية
وبعد فهذه هي سمات الشعر الجاهلي ش، ووصف الصلة الفنية بينها وبين حياتنا الفنية الحاضرة، وما يصح أن نقلده فيه وما لا يصح.
ونحن لا ندعو إلى تقليد البلاغة القديمة، ولا إلى الشعراء الجاهليين تقليدا بعيدا عن مناهج الفن والشخصية والموهبة الأدبية فإن ذلك التقليد يبعدنا عن أداء رسالتنا الأدبية على اكمل وجوهها، وإنما نقول: افهموا هذه البلاغة فهما جيدا، وربوا ذوقكم الأدبي بالإدمان على قراءتها وقراءة ما سواها من البلاغات، لتصلوا إلى مرحلة الشخصية الذاتية في الأدب والشعر، ولتكمل مواهبكم وتستقل بالإبداع والتجديد في الفن والشعر والأدب والحياة.
محمد عبد المنعم خفاجي
المدرس في كلية اللغة العربية