مجلة الرسالة/العدد 890/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 890/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 07 - 1950



كل عام وانتم بخير

مجموعة قصص للأستاذ محمود تيمور بك

بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب

عجيب أن أجد بين يدي - في غير تعمد - مجموعتين من القصص المصري في وقت واحد. . فاعكف عليهما في جلسات قصار على أجد فيهما متعة للنفس ولذة للقلب وسلوه للروح ومفزعاً من الحر ن، فلا أرم حتى آتي على ما فيهما، هاتان المجموعتان هما (كل عام وانتم بخير) للأستاذ محمود تيمور، (والأعماق) للأستاذ عبد الرحمن الخميسي. ولقد قرأت المجموعة الأولى فألفيت فيها الحادثة القوية مترابطة في قوة، متماسكة في دقة، مسلسلة في سهولة؛ وقرأت فيها التحليل النفسي الدقيق والرأي الفلسفي العميق. أما المجموعة الثانية، فلقد أحسست وأنا أتصفحها أن ذاكرتي ترتد - رويداً رويداً - إلى أيام الطفولة العزيزة، إلى السيدة العجوز التي كانت ترعانا وتقوم على شؤؤننا وتثرثر لنا - كل أمسية - بأحاديث شائقة طريفة تزوقها بالمغالاة وتطليها بالمبالغة تبهر بها السمع وتخدع العقل، فتنشر حوالينا أخيلة رفافة، ملائكية حينا وشيطانية حيناً، تبتغي أن تقذف بنا في متاهات ليست من الحياة فنسبح في عوالم لذيذة آناً ومفزعة آناً. وهكذا تستطيع السيدة العجوز أن تدفعنا إلى الهدوء في رفق، وان تسلط علينا رؤى تقذف بنا في لين إلى سبات عميق. وشعرت، وأنا أقرا (الأعماق) أنها بعض حكايات السيدة العجوز فيها المغالاة والمبالغة والتناقض فحسب.

ولست الآن بسبيل أن أقارن بين مجموعتين من الأقاصيص، فليس إلى المقارنة من سبيل، لبعد الشقة واختلاف المبدأ وتناقض الهدف. وفرق ما بين تعبير قوي رصين وآخر مهلهل يتداعى. ولكن المصادفة المحضة التي جمعت الكتابين في يدي في وقت واحد أما مجموعة الأستاذ تيمور فتنضم على قصص عشر، اتسمت جميعا بطابع التحليل النفسي والاستقصاء العقلي. وأن الكاتب ليعرض لنوازع النفس وخلجات الضمير فيصورها في صورة رائعة جميلة. هذا المذهب مذهب تحليل المشاعر النفسية والدفعات القلبية ينبت في ثنايا كل قصة فيحول بينها وبين السراد المجرد، وهو في ذلك كالمصور البارع يوزع اللون في نواحي الصورة في دقة ليضفي معاني الحياة والحركة

وليس أدل على ذلك مما جاء في قصة (كل عام وانتم بخير) حين تحدث المؤلف عن رجل ذرف على الأربعين من سني حياته، عاش عازبا يعكف على جمع الثروة ويأبى أن يبددها في التافه أو أن يبذرها في مالا غناء فيه، فيحدث نفسه قائلا (هي ثروة أسهر فيها جفني فسقيتها جهدي وتعهدتها بحيلتي. . . أأترك هذه الثروة نهبة لأولئك الحقدة والحساد من أقاربي الطامعين؟) ثم يصوره رحيم يفزع عن الزواج وما في ذهنه إلا الحرص على المادة) إلا أن عقلي ينهاني عن أن أرضى بهذا الزواج الذي يهدد ثروتي ويشفي بها إلى الخطر. . وهل الزواج إلا نفقات إثر نفقات، تستنزف الأموال وتهدد الثروات؟)

غير أنه يرى نفسه وحيداً منبوذا فيبدوا أمام القارئ في عزوبته رجلا ضائعاً مضطرب النفس يعيش في تيه من خواطره. ولا عجب إن كان العذب - في هذه القصة كما هو في الحياة تماماً - قلقاً لا ينعم بالهدوء ولا يسكن إلى الراحة. وأنى له أن يفعل وإن روحه لتفتقد القرار والأمان فهي تهفو إلى شئ، عمي عليه وتنزع إلى أمر أغلق علية فيطير - بعد لأي - إلى الزوجة.

وفي قصة (صراع في الظلام) نرى الضمير الحي يغفو حيناً حين تستهويه شيطانة من الأنس هي زوجة الأب الشابة فتنشر شباكها حوالي ابن زوجها الشاب فما يقر لها قرار ولا تطيب لها نفس إلا حين يقع في غرامها فيهوي إلى قاع الخطيئة والدنس. ثم يستيقظ الضمير بعد فترة فيغص الرجل بالزلة فينطلق يريد أن يكفر عن حماقته وغفلته بطريقة شيطانية مرذولة، يؤمن بان لا معدي له عنها، فيحرق الدار التي شب فيها وترعرع دار أبيه وهو يردد في صوت كأنه هذيان محموم (لا تقربوا الباب. دعوا الدار تأكلها النار). لقد حاول الفتى جهده أن يفر من الخطيئة لأن ضميره كان قد هيمن وطال أمده) فيفزع إلى الغدير ناظرا ً في صفحة تحت ضوء الكواكب فيتجلى له وجهه أمامه تكسوه اللحية المهندمة، فيلمس أطرافها بأنامله، ثم يريد أن يقتلع تلك اللحية من جذورها لا يبقى ولا يذر) ثم يحس الرجل العار في ما اقترف من جريمة وضيعة، فتستحيل حاله وينطوي على نفسه) وقد أتخذ لنفسه حياة طابعها عزلة الناس، فهو يتجنب مرآهم ما وسعه أن يتجنب، حتى ليحاول هو يسلك طريقه أن يتنكب مواجهة اقرب ذويه، وقد عات سحنته صلابة وجهامة، حلت محل ما كان قبلا من وداعة وتطلق. فاما عيناه فكانتا ترميان بنظرات تتلظى فيهما الشهوة والشر، بعد أن كانت هاتان العينان تترسل منهما نظرات الطهر والصفاء. إلى أي طريق في حياته هو مسوق؟ ترى أيه نهاية ترتقبه لتختم حياتة تلك؟)

وهذه صورة من الصورالحية النابضة التي تتالق في اصناف القصص. . وصورة رجل وقع تحت صفعات الضمير الحي فما استطاع أن يفر، ولا أستطاع أن ينسى

أما قصة (مجنون) فتتجدث في صراحة وإخلاص إلى الشاب الذي يبهره ألق المراة وبريقها، فلا يجد حرجاً في أن يتزوج من فتاة خالطها واغرم بها وبادلته هي الهوى بهوى وغراماً بغرام، فقصى إلى جانبها ساعات ذاق فيها لذة الهوى المحض وسعادة الحب الخالص، لا ريب في أن تاريخها سيتيقظ في دم الشاب بعد حين فيبذر فيه غراس الشك والريبة، فيؤذيه ويؤلمه

هذا طبيب تزوج من زوجة أحد مرضاه بعد أن مات تزوج منها بعد أن تغفلا الزوج حينا من الدهر فاختلسا معاً منه وقت الهناة والسرور. . . ثم فارت نزوات عقله فتكنفة الشك واخترمنه الريبة وتغلغلت فيه الحيرة، فأخذ يتحدث عن خطرات قلبه يقول: شرعت أتجسس عليها. على الزوجة: وما كان في طرقي ألا افعل، فقد دفعتني إلى ذلك دوافع نفسية ليس عنها محيص. . . وربما عاجلتني نوبة هياج، واندفعت في ارجاء العيادة أتصفح الناس واتصفح الأشياء، وما زال أدقق في البحث والتفتيش تحت المتكات ووراء الابواب، مدعياً اني فقدت شيئاً وإني أنشده، وتتراءى له أخيلة مزعجة فيقول (ويلي! ان زوجتي مصرة على أن تعيد الرواية كاملة الفصول)

وهكذا تتصفح هذه المجموعة كلها فترى صفحات خفاقة بالحياة نابضة بالمشاعر.

ولست أوافق المؤلف على أن ينشر على عيني القاري مقدمات فلسفية طويلة يوطئ بها لحوادث القصة مما ينفر الذهن. وان ذلك لنراه واضخا ً في قصص (مجنونة) و (في غفره الأقدار) و (هذه الحضارة) واشهد أن مثل هذه الآراء قد انبثت في خلال القصص الأخرى فلم تكد العقل ولم ننفر الذهن.

وبعد فإن مكانة الأستاذ محمود تيمور في القصة مكانة مرموقة وحسبه ما قاله الدكتور طه حسين بك عنه يوم أن قال (لم تكن القصص لتأخذ فحسب، وإنما كنت تحب القصص لتأخذ ثم تقلد ثم تلتمس شخصيتك، ثم تظفر بها، ثم تنتج فتملأ الشرق والغرب ادبا وحكمة وفقها لشؤؤن الحياة كأروع ما يكون الأدب والحكمة والفقه في شؤؤن الحياة.

كامل محمود حبيب