مجلة الرسالة/العدد 890/القصص
مجلة الرسالة/العدد 890/القصص
من الأدب الإنساني الإنكليزي
والدان
بقلم الأديب محمد يحيى إبراهيم الرويدي
كان الوجوم مخيماً على البيت الكبير وكل ما فيه ينطق الأسى وقد أبعث من إحدى الغرف نشيج خافت.
وكانت أضواء القاعة الباهلية تلقي بصيصاً على نفر قليل من الناس نزلت دموع بعضهم على الوجنات وأخذ بعضهم يتمتم بعبارات تفيض باليأس والقنوط فقد حركت فيهم المصيبة كامن الشجن كما تفعل دقات أجراس الموت الحزينة في النفوس الحساسية. وفي إحدى طوابق البيت كان الكون كأبلغ ما يكون فلا حس ولا حركة كبحر انقلبت مياهه ألواحاً من الجليد.
وهناك في غرفة صغيرة اضطجعت على فراشها تلفظ ببطء أنفاسها الأخيرة، طفلة رائعة الملاحة، أبيض وجهها حتى أضحى أشد نصوعا من الكفن الذي كان في انتظارها، ليغيبها في لفائف، وبقرب الفراش انحنى والدها يغمران بقبلاتهما وجهها الجميل، وفي الجهة الأخرى من السرير وقف الطبيب صامتا ً واجماُ بعد أن أشد بلاغة من الدموع، وبجانبه وقف القس ممسكا بإنجيله يتلو فقرات منه بصوت خفيف.
واخيراُ لفظت الطفلة أنفاسها واصبح ذلك الجسد الذي كان ينبض بالحياة كقطعة جامدة من الرخام، وليس فيه دلائل الحيوية الماضية سوى تلك البسمة البريئة التي لم يقو الموت على انتزاعها من الشفتين الرقيقتين. أطبق القس كتابه أحنى رأسه المكلل بشعره الرمادي ووقف يرقب خاشعاً ما تتخطه يد الموت على الجهة الصغيرة.
أما الوالدان فقد شخصت إبصارهما في ذهول، فقبل دقائق قليلة كان أملهما معلقاً في ارتعاشه الشفتين واضطراب الصدر الصغير. أما الآن فقد انهدم كل شيء، ماتت! نعم ماتت وتركت عالما يضج بالحركة والحياة، كانت تفيض سلاماً والتي عاد القس إلى تلاوتها بصوته الهادي العميق لم تكن قادرة على أن تهب عاود قلبيهما سلاماً وتعزية فانكفأ الاثنان على وجهيهما وراحا في إغمائه، دون أن تمتد إليهما يد تحاول وفعهما؛ إذ أن الأصدقاء انسحبوا من الدار وتركوا الوالدان إلى رحمة الرب الرحيم، ولبث الوالدان هكذا ساعة وبعض الساعة وازدادت وطأة الصمت على البيت الكبير بعد أن مضى كل إلى شانه، وجلس الخدم يذرفون دموعهم في صمت، إلا تلك الممرضة التي دفعها شعور خفي إلى دفع باب غرفة المتوفاة لترى منظراُ عقد لسانها وأدهش عقلها. . الأم على فراش الطفلة وقد أحاطت بمناها الجسد الصغير الهامد وألقت برأسها على الوسادة ونامت هي الأخرى، ولكن. . إلى الأبد!
أما الوالد فلم يكن في الغرفة، إذ أنطلق هارباً تاركاً البيت إلى حيث أخذ يسير تحركة لا شعورية وق
الجم الحزن لسانه وجعل دموعه تتجمد في مآقيها، وانزل على ذاكرته ستاراً من النسيان. كان يمشي مسيراً لا مخيراً كان هنالك قوة خفية تدفعه نحو جبانة القرية
وهناك وقف جامداً كالصخر والمكان حوله تبعث على الرهبة: الكنيسة القديمة الملتفة بأرديتها الموحشة بالغيوم وأشعة القمر تحاول أن تسترق فرجة تطل منها على الكون العظيم، وبجانبه تأثرت النصب والقبور. . هنا مدينة الأموات، وهناك دنيا الأحياء وهو حائر بينهما، حائر ضائع محطم!
وألقى الرجل نظرة ذاهلة على القبور المتناثرة، ثم سار وجلس على قبر أخضر من الطحالب التي عليه ممتصة عناصر الأجيال، ونظر إلى السماء طويلا، ثم شعر بالدموع تسيل على وجنتيه في خطين غريرين وبدأت سحب النسيان تنجاب عن ذاكرته رويداً رويداً وانتقلت به الذكرى المريرة القاسية إلى (أميلي) وحيدته المسجاة. . . وهناك في المقبرة الصامتة الموحشة أنبعث صوت ثائر يخاطب الأشباح.
وارتفعت قبضته تهدد: لم فعلت ذلك يارب؟ ولم تدعوك رحيماً ما دمت تسترد ما تهب ولا تخلف لنا سوى اللوعة؟ ابنتي لتترنم على معاول الهدم؟ أتزرع لتنعم بالحصاد وحدك؟ أترضى لذلك الجسد الغض بالتواء تحت أحد هذه الأشجار الثقيلة؟ آه يا لقسوتك آيتها السماء. . وازداد الأسى بالرجل واخذ يصيح ويزأر كالوحش الجريح.
وفي تلك اللحظة تحرك في المقبرة شبح أسود، اخذ يسير بخطى خفيفة فالتفت الرجل ليرى فبالته، فآخذه الفزع وكف عن صراخه ووقف على قدميه منصتاً ونفذت أشعة القمر في تلك اللحظة وألقت شعاعاً باهتاً على القادم الغريب، فأجفل الرجل إذا لم يكن القادم سوى القس. . . القس الذي صلى على فتاته الصلاة الأخيرة. .
ووجم الأب ونظر بغرابة إلى القس الذي عقد يديه إلى صدره، وبشفتين مرتجفتين وصوت رجراج أخذ يقول: كفاك تجديفاً يا رجل! فالله كفيل بان يهب نفسك الثائرة القلقة أمناً وسلاماً فهو إذ يضرب بيمينه محكم ما، تمتد يسراه فتسمح ما ينز من عليها وتدفئها تحت قبر من هذه القبور.
ووضع القس يده في يد الرجل قائلاً. أركع وأتل معي ما تحفظ من صلوات. . وركع الرجل الذي يتناسى ربه في غمرة الأحزان والرجل الذي يزداد التصاقاً به كلما هبت في وجهه أعاصير الحياة؛ الثاني يردد صلاته، والأول يبلل بدموعه صفحة القبر الشاحب.
وارتفع صوت القس فجاه قائلاً: صل، أنت الآخر من اجلي، فإنا الآخر قد فقدت عزيزاً. كنت أتلو في مسامع ابنتك صلاتها الأخيرة بينما كانت ابنتي تموت في بطأ. . . وحيدة؛ كنت مضطرا إلى تركها ما دام واجبي يدعوني، ولم أشأ أن احرم فتاتك هذه التغريد، فحرمتني الأقدار وحيدتي (لوسي)، لوسي التي كنت أستيقظ على صوت ضحكاتها الرنانة، وأخشع وهي تتلو لي فصولا من كتابها المقدس الصغير، وابتسم وهي تروي على مسامعي أقاصيصها الساذجة، كنت أودها تعيش وتطبق بيديها عيني بعد وفاتي، فشاءت الأقدار أن أتولى أنا هذه المهمة التي قمت بها لأمها من قبلها.
ونظر الرجل إلى القس معزياً ولم يجد ما يقوله فسالت الدموع، أبلغ من كل كلام؛ ولكنه شعر للظى يحف في أعماقه، وبالأسى يتسرب شيئاً فشيء من نفسه بعد أن شاهد أمامه زوجته المتوفاة وبجانبه ملاكه الصغيرة؛ ثم رفع بصره إلى السماء، فشعر بالتعزية تنبثق منها. ونهض القس من ركوعه وقطع بصوته الأجش حبل أفكار الرجل قائلاً: غداً ستخرج جنازة واحدة تجمع ثلاثة، فإذا كنت تملك بقية من دموع فاذرفها الآن. . . هنا على هذا الأديم؛ أما أنا. . . فلا أملك سوى استسلامي والآن وداعاً. . .
وافترق الوجلان. . . . ابتلعتهما الظلمة وسار كل في طريقه. . . الرجل إلى بيته الصامت الحزين، والقس إلى كوخه المنعزل في أحضان الوادي الهاجع.
القدس
محمد يحيى إبراهيم الرويدي