مجلة الرسالة/العدد 89/من صور الحياة في دمشق
مجلة الرسالة/العدد 89/من صور الحياة في دمشق
في صحن الجامع الأموي. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
في أمسية طلقة (من صيف سنة 489هـ) خرج الناس - على عادتهم - إلى صحن المسجد الأموي، فبسطوا فيه البسط، وأسرجوا السرج، حتى (كاد المسجد يقطر ذهباً، ويشتعل لهباً)، وأقبلوا عليه زرافات ووحداناً، يقضون بالصلاة حق الله عليهم، وبالاجتماع والتعاون حق بعضهم على بعض، ويعودون بثواب الله، واطمئنان النفس، وراحة البال
وليس أشهى إلى النفس، ولا أحلى في العين، من صحن الأموي في ليالي الصيف؛ وإن المرء ليطوف ما يطوف، وينشق عبير الأزهار، ويسمع تغريد الأطيار، ويصعد الجبال تتفجر منها العيون، ويدخل الجنان تجري من تحتها الأنهار، ثم يعود إلى الأموي فيراه أجمل من ذلك كله، ويجد في نفسه حين يجلس فيه هزة طرب، ونفحة أنس، لا يجدهما في شيء من ذاك. . .
وكانت عشية ريحة، تنسم نسماناً منعشاً، فامتلأ المسجد بالناس وهم بين متوضئ يخلع رداءه فيلقي به على بلاط المسجد الأبيض الناعم، ويسرع إلى قبة الماء، وهي (في وسط الصحن) وهي صغيرة مثمنة، من رخام عجيب، محكم الإلصاق، قائمة على أربع سوار من الرخام الناصع. وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاسي، يمج الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب (لجين) وقد زينت جوانبها بالمصابيح ومصلٍ يبتغي جماعة فلا يلبث حتى يجدها فيقوم في الصف خاشعاً، يشغله جلال الله الذي يقف بين يديه، عن الدنيا التي خلفها وراء ظهره. . .
وجالس إلى حلقة من هذه الحلقات الكثيرة يستمع إلى محدث أو فقيه أو واعظ، أو ينصت لقارئ، أو يذكر الله مع الذاكرين، أو مستند إلى اسطوانة من الأساطين، أو محتب تحت رواق من الأروقة، يقرأ في مصحف، أو ينظر في كتاب، أو يسبح على أصابعه، أو يتفكر في شأن من الشئون، أو ينتظر الصلاة فينعم بجمال المسجد، ورقة النسيم، ويكون من انتظاره الصلاة كأنه في صلاة. . .
وكان حيال قبة زين العابدين (قبة الساعات) في شرقي المسجد، رجل رث الثياب، ما عليه إلا مزق مردمه، وخلقان بالية. يرنو بعينه إلى الناس تارة، وينظر إلى المسجد أخرى، فيقرأ فيه تاريخاً جليلاً، يقرؤه في هذه القبة الباذخة، قبة النسر، وهي (من أعجب مباني الدنيا، ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر، ذاهبة في الهواء، منيفة على جميع مباني البلد) (وليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظراً منها)
وهذه المنارة العالية التي يسميها الناس (منارة عيسى) لما جاء في الحديث أن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويعجب من سموقها وارتفاعها. وهذه المنارة العربية التي بناها المسلمون، فأجادوا بنيانها، ووضعوا فيها العجائب من براعة الزخرف، ودقة النحت، والضبط والأحكام. والمنارة الشمالية (منارة العروس) وقد ازينت وأوقدت فيها المصابيح، وقام في شرفتها المطلة على الصحن (المؤقت) ليعلن دخول العشاء ودخل المسجد قروي له مسألة. فسأل عن مجلس المفتين حتى دل عليه عند قبة عائشة فجاء فعرض عليهم مسألته، فلم يجد عند واحد منهم جوابها. فذهب يدور على الفقهاء والمحدثين يسألهم، فلم يفز منهم بطائل، فيئس منهم وهم بالخروج من المسجد. . . والفقير ينظر إليه، ويعجب من حاله وحالهم. وعز عليه أن ينصرف آيساً، فأشار إليه. فلما جاءه قال: اعرض علي مسألتك. . .
فضحك القروي، وصاح: انظروا يا قوم إلى هذا المجنون! أنه يجيبني عن مسألتي، وقد أعجزت المفتين والفقهاء وأصحاب الحديث! فأقبل الناس على الصوت، وطفقوا يتكلمون، فقال قائل: دعه فانه مجنون. . وقائل: لا عليك أن تسأله فلعل عنده علماً. . . وقائل: سله واحمل جوابه إلى المفتين، فانظر ما هم قائلون؟
ثم سكتوا، وسكت كل من في المسجد، وانقطعت أصوات القراء والمدرسين والذاكرين، ولم يبق فيهم متكلم، لأنها قد تكلمت فوق رؤوسهم النبوة، وسمعوا: (الله أكبر. .) تدوي في نواحي المسجد، تهبط عليهم من المآذن كأنما هي هابطة من السماء، فيها روعة الوحي، وجلال الدين، وجمال الإيمان. . . فتقوضت المجالس، ورصت الصفوف، وتحاذت المناكب، وقال الإمام: الله أكبر. . . فماتت الدنيا في نفوسهم وامحت منها الشهوات، وطمست فيها الميول؛ لأنه مهما يكن من كبير فـ. . . الله أكبر! ولا إله إلا الله! فلما قضيت الصلاة، عادوا إلى القروي، فقالوا له: اذهب فسل صاحبك. فذهب إليه، فقال: ياهذا، زعمت أنك قادر على الجواب، فهل أنت على قولك؟ قال: أستعين بالله قال: وقد أعجزت المفتين وحيرتهم، أفأنت تستطيع أن تجيب عليها؟
قال: أستعين بالله
قال: هي كذا وكذا. . . قال الجواب كيت وكيت. . .
وابتدر الفقير الباب!
وحف الناس بالقروي، فقالوا: هل أجابك؟ بم أجابك؟ قل لنا بماذا أجابك؟
فقال: وما أنا بقائل لكم حرفا حتى ألقى المفتين، وأسرع وأسرع معه الناس إلى المفتين، وقد عادوا إلى مجلسهم: فقال: أرأيتم ذلك الفقير؟ قالوا: نعم. قال: قد أجابني عن مسألتي فضحكوا من جفائه وجهالته، وقالوا: بم أجابك؟ قال: بكذا وكذا فلما سمعوه أخذ منهم الجد مأخذه، ونظر بعضهم إلى بعض وكلهم مشدوه حائر لا يدري مم يعجب: أمن كثرة علم الرجل مع رثاثة هيئته. أم من رثاثة هيئته مع كثرة علمه، ثم انتهوا، فقالوا: ويحكم، أدركوا الرجل، فان له لشاناً، وما نظنه إلا آية من آيات الله جاءت ترينا حقيقة العلم، وسمو الفقر، وجلال التواضع. . . أدركوا الرجل!
فقالوا: قد خرج
قالوا: أوليس فيكم من يعرفه؟
فقال رجل من القوم: والله ما رأيناه إلا في السميصاتية وقد نزلها منذ أيام، فكان ينظف كنفها ومراحيضها، ويتخذ مجلسه على الباب. حتى أذنوا له بالدخول. وما رأيناه إلا عاكفاً على صلاة أو مشتغلا بتسبيح، ولم يكلم أحداً!
قال المفتون: ويحكم، قوموا بنا إليه. . .
فلما دخلوا عليه، قالوا له: من أنت؟
قال: رجل من الناس
قالوا: قد سمعنا جوابك، وإنا نسألك بالله الذي لا إله إلا هو إلا ما أخبرتنا من أنت
قال: إنا لله وأنا إليه راجعون. . . أما وقد أقسمتم، فأنا أبو حامد الغزالي
فصاحوا: حجة الإسلام! وانكبوا على يديه يقبلونهما، ويسألونه أن يعقد لهم مجلساً في الغد. ثم انصرفوا فلما كان الغد نظروا فإذا. . الشيخ قد فارق دمشق!
دمشق
علي الطنطاوي