مجلة الرسالة/العدد 89/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 89/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1935



ترجمة نفسية تحليلية

هو ذا تاريخ إنسان. . .!

للأستاذ خليل هنداوي

وقلت للأستاذ النعيمي عقب وصوله إلى لبنان: هل أعددت وراءك غربالاً آخر؟ فأجاب: ذاك غربال انطوى، فتحت به طريقي إلى النور، والآن أراني سائراً إلى المحجة التي فرضتها على الحياة، أو فرضتها عليّ الحياة. . . .

فأعطانا (المراحل) وكتاب (جبران خليل جبران)

(خ. هـ)

- 1 -

وجه جبران خليل جبران

وما إن صدر كتاب (جبران خليل جبران) حتى تناولته الأكف، وتهافت عليه الناس. وما إن تلاه الناس حتى ضجوا به، وتفرقوا في شأنه شيعاً، شان العظيم لا يعرف أحداً معه معتدلاً: فمن ناقم على النعيمي لأنه فضح أسرار صديق كان يجب عليه أن يحفظ حرمته بعد الموت، ومن محبذ لأن الأدب لا يعرف تستراً! والحقيقة لا تعرف مواربة؛ وهكذا ذهب الناس في شأن الكتاب مذاهب مختلفة، وللناس مذاهبهم

أراد البعض أن يدرسه جملة، فخرج من درسه بما لا يرضاه، وشاء البعض أن يذهب في نقده ما يفرضه الناقدون على غيرهم من أساليب جافة، ومقاييس محدودة؛ ومتى كان الأدب - ابن الحياة - بقبل الحدود والقيود؟

الكتاب عظيم بنفسه، متفرد بروحه وبطريقته وبنقده، صارم ما شاءت الصرامة، وعادل ما شاء العدل. ولن نتبين هذه النقطة التي تمازج فيها العدل والصرامة في مواطن كثيرة، إلا إذا اطلعنا على المقياس الذي أعلن عنه نعيمة في مطلع الكتاب، وهو مقياسه الخاص في الأدب والفن والحياة، فإذا فهمنا هذا المقياس فهمنا الكتاب، وإذا أعرضنا عن هذا المقياس ضاع عنا جوهر الكتاب، والغاية التي ألف من أجلها

لا يريد نعيمة أن يعرض في كتابه تاريخاً له تفاصيله وله آفاقه، والبشرية - في اعتقاده - لم تكتب حتى الآن تاريخ إنسان، ولا تاريخ شيء على الإطلاق، وإنما أراد أن يجري في درسة لحياة جبران مع عقيدته الشائعة في نفسه (إن الفن مهما تسامى في نظر صاحبه ونظر الناس ليس من الأهمية على شيء ما لم يترجمه صاحبه والناس إلى قوة تنشط بهم من عقالات المعيشة المحدودة إلى حرية الحياة التي لا تحد - من الإنسان في الله إلى الله في الإنسان - والأدب مهما جمل لا معنى له إلا على قدر ما يكشف معنى الحياة الذي هو أثبت من الأرض وأبقى من السماء)

درس النعيمي جبران بهذا المقياس، ويدرس الأدب كله في جبران، والأدب عنده هو مثل أعلى إذا ربط الإنسان به حياته اللحمية والروحية، وهذا مقياس جاد صارم، لا يجعل من الأدب ملهاة، وإنما ينزله منزلة الحياة. . . وأنت واقع في الكتاب على فصول متنوعة، هي بجملتها حياة جبران، وهي بمجموعها تاريخ ذلك الصراع المادي لتذعن له المادة، وذلك الصراع الروحي المستمر لينقي روحه من أدرانها وشهواتها الأرضية. وفسادهما أن صاحبهما يحاول أن يفوز فيهما في وقت واحد

في الكتاب تاريخ جبران الإنسان، وجبران الفنان، وجبران الشاعر؛ تاريخ هؤلاء الأشخاص المفترقين تحت لواء عقل واحد. يمشي كل منهم في طريق؛ ولا يدري أين سلك رفيقه. وعقل جبران يظن أن نفسه هادئة مطمئنة - ونفسه منشقة على نفسها. جبران الإنسان لا يلتقي وجبران الشاعر الفنان إلا بالخيال؛ والخيال وحده لا يكفي إذا لم يقو على الإرادة، ويجنحها بجناحيه ويطير بها إلى حيث شاء

رسم النعيمي في كتابه لجبران وجوهاً كثيرة: منها وجه جبران الفنان، ووجه جبران الإنسان، ووجه جبران الطافح تمرداً، ووجه جبران الهادئ الذي جمدته السنون وارتسمت في غضونه الحكمة. أما جبران الفنان فأنت واجده في كل أدوار حياته التي أثرت فيه وأثر فيها، مهما كان من تباين بين شعره وفنه فالرجل استطاع أن يكون. . . برغم المصاعب التي اعترضته وبفضل المصادفات التي خلقت ذلك وفرضت ذلك. جبران الشاعر كغيره من الناس تسكره الشهرة وتستهويه لمعانها، وهو بعد جهاد عنيف استطاع أن يبلغ بخياله تلك القمة التي دعاها الناقد قمة (المصطفى) حيث أشرف جبران على الوجود، ونظر إليه بخياله الخالص من تأثير (نيتشه) وغيره، ووقف على معنى (الازدواج) فيه. ولكن جبران الإنسان لم يكن برغم سمو خياله - عاليا سامياً كما تصوره لنا ريشته وبراعته، فهو نسر نشيط كبلته قيود الأرض وشهوات المادة. لم يغنه الفن شيئاً، بل زاد عذابه عذاباً، لأنه كان يكشف لعينيه قباب ذلك الوجود الذهبي ويمنع قدميه الملوثتين من الدخول. . جبران الإنسان تغلي في صدره شهوات ابن المادة، وهو أناني ونصير حب يود أن يكون فيه محبوبه عبداً؛ وهو طالب شهرة لم يستطع فنه أن يحرره من شهرة الناس الذين يكرههم: لا يخرج من - صومعته إلا جبران الفنان، أما جبران الإنسان فهو راسٍ على صدره لا يفر منه إلا إليه. . .

هذا الاختلاف بين شخصين مندمجين في شخص واحد هو موضوع الكتاب

يتساهل النعيمي مع جبران الفنان وحق له أن يتساهل أمام فنه المرن ونزعته الشخصية مهما مازج فنه من عوامل غريبة عن فنه، أما جبران الإنسان فلم يرحم ضعفه ولم يستره بستار الرحمة، لأنه يرى أن رحمته تقوض معتقده الأدبي وتهدم نظرته الفلسفية، وإنما يعتقد أن العبقري الحقيقي لا يجعل من نفسه شخصين مختلفين، ويرى أن الفن الصحيح هو ما نقى النفس من أدرانها وأسوائها، فهل نقى جبرانالفنان جبران الإنسان؟

عمل جبران الفنان على تطهير جبران الإنسان، ورفعه من الهوة إلى القمة. ولكن قدمي جبران الإنسان كانتا من قصب، لا يكاد صاحبهما ينهض عليهما ويمشي قليلاً حتى تتحطما ويلبث مكانه. . . أليس في فرار ميشلين ابنة التراب! من وجه جبران الفنان ابن السماء: أكبر خزي لجبران؟ أليس في تألم الفتاة التي جاءت لتحيي (صاحب النبي) اعتقاداً منها أنه سيكون أسمى من النبي الذي خلقه أكبر هزيمة لجبران الفنان؟ وهكذا ظل جبران في نزاع مع نفسه حتى قضى ولم يقض لبانته

قد يكون في هذا التصريح بعض ما يجرح، ولكن الحقيقة. . . الحقيقة الإنسانية لا تعرف المراعاة، ولو كان جبران فناناً عادياً لما قاسه النعيمي بهذا المقياس الدقيق الذي لا ينطبق إلا على العباقرة المختارين والنوابغ الموهوبين.

ألم يكن (فيخت) يغلب فيه الإنسان الأخلاقي على الإنسان الفيلسوف؟ والإنسان الأخلاقي يغلب عليه الإنسان المجرد؛ وهو كلما تجرد ونزع عنه هذه الأقماط بدا أدنى إلى حقيقة السمو والكمال العاري كأنما كان يرتفع فنه معه متناسباً مع ارتفاع نفسه. وهذا هو المثل الأعلى الذي يطلب النعيمي إلى كل فنان يسمو إليه بعقله وجسده، وفنه؛ لا أن يقسم نفسه أقساماً، يضع كل قسم منه حيث يريد

(ولا يكفي الإنسان أن يبصر النور ليكون مستنيراً بل عليه أن يجعل ذلك النور هاديه الأوحد في حياته، وإن في ذلك وحده سراً لانعتاق الأيدي من جحيم المتناقضات، أما السبيل إلى ذلك ففي نبذ كل ما يحجب عنا النور من شهوات أرضية، ونزعات زمنية وشعور بالفردية التي لا تأتلف وروح الكلية الشاملة) وطبقاً لهذا الاعتقاد يبين النعيمي جانباً من حياة جبران - لا كل جوانبه - التي حالت دونه ودون الانعتاق، أو النكران المؤدي إلى الانعتاق.

وهكذا تطلع في هذا القسم على حياة مستقلة بذاتها عن الإنسانية، ومتصلة بذاتها مع الإنسانية؛ عارية كاسية، وإنما هي الحياة كلها بلحمها ودمها وروحها الذي لا يدرك

- 2 -

جبران الثائر وجبران الهادئ

لا يقف الناقد على درسه على جبران الفنان وجبران الإنسان، وإنما هو يعالج - من ناحية ثانية - المؤثرات التي أثرت في جبران، والعوامل المقدرة وغير المقدرة، والمتصلة - كما يقول الناقد - بمكوك الحائك الأكبر وغير المتصلة. فهو يولد مع جبران ويدرج معه من سياحة إلى سياحة، ومن فشل إلى رجاء ومن رجاء إلى فشل. طوراً ينطق جبران بما نطق، وتارة ينطق عن جبران بما لم ينطق. وفي هذه المنطقة يلتقي النعيمي الناقد بجبران الفنان المجرد، لا النعيمي الحامل المثل الأعلى لجبران الضائع وراء نوازعه الأرضية. ولا يمكننا أن نقف على قيمة جبران الأدبية إلا إذا تعمقنا في أحناء حياته. فجبران - في كتاباته - ذو وجوه متعددة، منها وجه المحب المنهزم، وجه المتمرد الثائر، وجه الهادئ الساكن، ووجه المتصوف السامي، وصاحب هذه الوجوه رجل واحد هو جبران. والنعيمي يستعرض هذه الوجوه وجهاً وجهاً دارساً عوالمها محللاً ألوانها (يتبع)

خليل هنداوي