مجلة الرسالة/العدد 888/من الأدب الغربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 888/من الأدب الغربي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1950



نداء الطبيعة

للأستاذ إبراهيم سكيك

ارتفع مستوى الحياة وكثرت نتيجة لذلك مطالبها وغدت الكماليات ضروريات لا غنى عنها، فبات الحصول عليها عبئاً ثقيلاً على كاهلرب الأسرة. وكان من أثر ذلك أن صار المرء يرى نفسه مرغماً على مضاعفة العمل وزيادة الجهود، فيكدح ويجد حتى يتمكن من السير في ركاب الحياة ومتابعة قافلة الزمن وتيار العصر.

وليس هذا الوضع بحديث أو مستهجن في هذه الأيام، إذ ظهرت بوادره عندما بدأ الانقلاب الصناعي في أوربا في القرن الثامن عشر، ذلك الانقلاب الذي غير الأوضاع وأدخل استعمال الآلات بدل الأيدي في المصانع والمواصلات فكان من جراء ذلك أن تقدمت الحضارة وتعددت مطالب الحياة.

وظهر على أثر ذلك شعراء عاطفيون تبصروا فيما حولهم فألفوا مواطنيهم منهمكين في العمل مكبين على الدرس والتحصيل، ورأوا في الوقت ذاته مناظر الطبيعة الجميلة ومشاهد الكون البديع فآلمهم إهمال قومهم لتلك المناظر وانشغال مواطنيهم عن تلك المشاهد، فأطلقوا العنان لألسنتهم وانبروا يحثون القوم على التمتع بالحياة والتلذذ بالطبيعة، وكان إمامهم في ذلك الشاعر الموهوب وليم وردز ورث (1770 - 1850) ومن قصائده في ذلك تلك التي يقول فيها:

صاح دع كتبك وأنهض قبل أن ينثني ظهرك،

قم وأرح بصرك ومتع عينيك. لم كل هذا الكد والنصب؟

لقد نشرت الشمس على هامات الجبال فيضاً من النور الوهاج

الذي يضفي عند المساء صبغة ذهبية على الحقول والمروج

أما الكتب فهي نضال بليد لا نهاية له. تعال هنا وأصغ إلى عندليب الغابة وشنف أذنيك بموسيقاه العذبة التي تحمل في ثناياها من الحكمة ما لا تحمله الكتب في طياتها.

أصغالآنوأنصت إلى غناء الكروان فهو أيضاً مرشد عظيم الشأن.

تعال وتغلغل في صميم الأمور، وليكن لك من الطبيعة خير مع ففيها الكثير من الثروة الطبيعية معدة بحيث تستسيغها عقولنا وأفئدتنا

تلك هي الكمية الوافرة التي نستنشقها بأنفاسنا ونحن في خير وعافية

يكفيك إذا ما حصلته من العلوم والفنون وأغلق هذه الأوراق القاحلة،

وتعال معي حاملا قلبك الخفاق ليرقب ويتلقى مؤثرات الطبيعة

ثم أنظر إلى قصيدة قصيرة للشاعر ديفس الإنكليزي (1770 - 1940) وفيها يتساءل عن قيمة الحياة إذا خلت من جمال الطبيعة فيقول:

أي قيمة لهذه الحياة إذا أترعت بالعمل دون أن تبقي لنا وقتاً نقف فيه ونحلق في جمال

الكون. نقف تحت شجرة وارفة الظل ونحملق فيها كما تفعل الأغنام والأبقار. نتطلع حولنا ونحن نخترق الغابة حتى نرى السنجاب وهو يخفي حبات الجوز تحت العشب؛ ونرى في ضوء النهار مياه الغدران مرصعه بالنجوم كما تكون السماء في الليل. وننظر إلى روعة الجمال الإنساني لنظفر منه بنظرة خاطفة، ونرقب السيقان تتحرك في رقص رشيق والفم وهو ينفرج عن ابتسامة عذبة بدأت بها العينان.

فان كانت حياتنا حافلة الأعمال بحيث لا تمكننا من أن نقف وننظر ونتأمل فبئس الحياة.

ثم أنظر أيها القارئ إلى ما يقوله اللورد تنيسن (1809 - 1892) في قصيدة غنائية يدعو فيها إلى نبذ متاعب الحياة فيقول:

هنا موسيقى عذبة، ألحانها أرق من وقع الورد المتناثر عندما يسقطه النسيم على الأرض

الخضراء، وألطف من وقع قطرات الندى عندما تتساقط على مياه الغدير.

هنا ترى البرك العميقة المنعشة تزحف على جنباتها شجيرات اللبلاب، وترى الأزهار ذات الورق العريض تبكي فتنهمر دموعي في الغدير، بينما تتدلى أزهار الخشخاش على الحافة الصخرية كأنهما في سبات عميق.

لماذا أثقلنا كاهلنا بعبء ثقيل واستنفذنا طاقتنا بتحمل الكرب الشديد؟

بينما أرى كل الكائنات الأخرى نفضت عن نفسها عوامل الهم والإعياء وباتت مستريحة

البال. نعم كل الكائنات في راحة أبدية فلماذا نكد وحدنا نحن، نكد ونولد حولنا جواً من الكآبة والعويل الدائم، فيظل الأسى يلقي بنا من شجن لآخر دون أن نطوي أجحتنا ونكف عن تجوالنا في عالم الأحزان، ودون أن ننقع جفوننا في بلسم النوم المقدس، ودون أن نصغي إلى الترتيل الروحاني في أعماق نفوسنا وهو يقول: ليس هناك سرور إلا في الهدوء والاستقرار) فلماذا نكد وحدنا ونحن تاج في غرة الزمان؟

وهذا الشاعر الروائي ماريو (1564 - 1593) يخاطب حبيبة له على لسان راع يغري فتاته بالمجيء لتعيش بجواره ويتمتعا معاً بالطبيعة وما فيها من مباهج فيقول:

تعالي نعش معاً في حب وغرام، فهنا نتمتع بما تعرضه لنا التلال والوديان والحقول

والجبال من مباهج ومفاتن.

هنا نجلس على الصخور ونرقب عن كثب الرعاة وهم يرعون قطعانهم إلى جانب

الأنهار التي ينسجم خرير مائها مع تغريد الطيور

هنا اعمل لك فراشاً من الورد وآلافا من باقات الزهر ذات الروائح العطرية وقلنسوة من

الأزهار وعباءة مزدانة بأوراق الريحان وجلباباً من أجود أنواع الصوف الذي نأخذه من خيرة أغنامنا. وخفاً مخطط الألوان يقي قدميك الجميلتين برد الشتاء ومشابكه من الذهب الخالص وزناراً من القش مزداناً ببراعم الأزهار له مشبك من المرجان وأزرار من الكهرمان فتعالي إلي نعش معاً في حب وغرام.

ولنقتبس الآن أبياتاً من قصيدة رائعة كتبها الشاعر الذائع الصيت اللورد بايرون (1788 - 1824) بعنوان ما أحيلي وفيها يقول:

لشد ما تبتهج نفسك عندما تسمع غناء الملاح وصوت مجدافه وهو يمخر في جندوله

عباب البحر الأدرياتي، ذلك الصوت الرقيق الذي تزداد عذوبته كلما أبتعد عن الأنظار، ولشد ما يثلج صدرك عندما نصغي إلى الريح وهي تعصف في الليل زاحفة من شجرة إلى أخرى، وعندما تلقي ببصرك إلى قوس قزح وطرف منه في أفق المحيط وآخر في عنان السماء!

وليس ثمة أسر من نهوضك مبكراً على أغاريد القنبر، ومن نومك على أنغام خرير المياه واستيقاظك على أزيز النحل وصياح الصبية! وما أبهج فرارنا من مرح المدينة الصاخب إلى هناء الريف الهادئ!

ثم إليك نبذة من قصيدة شاعر الشباب كيتس (1795 - 1821) وهو يناجي بلبلا يغرد فيقول: ليت لي جرعة من خمر معتقة يحمل نكهة الربيع، ليت لي كأساً مترعة بل طافحة بخمر

الجنوب الحاد، أجرعها عل نغمات الأناشيد البروفنسالية والرقصات الرشيقة فأغادر العالم وأتلاشى منه لأطير معك وسط الغابة

نعم أريد أن أطير لأنسى بين أوراق الشجر تعب الدنيا وإزعاجها وأمراضها، تلك الدنيا التي لا يرى المرء فيها إلا أخاه يئن ويضجر، ويرى الرجال وهم شباب تذوي نضارتهم وتجف أجسادهم ويقضون نحبهم، ولا يمكن للمرء أن يفكر فيها وينعم النظر دون أن يعتريه الكدر والهم ثم اليأس والقنوط. فأبتعد أيها الطير إذا وسأطير معك من هذا العالم على أجنحة القصيدة)

وأخيراً أقتطف أبياتاً رائعة للشاعر اندرو مارفل (1621 - 1678) من قصيدة له بعنوان خواطر في بستان وفيها يقول:

لشد ما يبهر الإنسان ويملؤه غروراً فوزه بعد جهود مضنية بإكليل من الغار أو غصن من

الجريد! وإذ ذاك يرى جهوده تتوج من فرع شجرة واحدة كأنها بظلها القصير تؤنبه على جهوده التي ضاعت سدى، بينما أرى الرجل الذي يلجأ إلى بستان يجد جميع الأشجار والأزهار تتهادى وتتكاتف لتعطيه ظلا وارفا

أيها الهدوء الجميل! لقد وجدتك هنا أخيراً كما وجدت معك أختك الطهارة، وطالما كنت

مخطئاً حين بحثت عنكما بين جموع الناس العاملين لأنكما أبيتما أن تعرسا في غير هذا المكان بين الأشجار والأزهار

وأني لأعيش حياة هنيئة في هذا البستان: لأن التفاح الناضج يتساقط على رأسي، وعناقيد العنب اللذيذة تهصر رحيقها الخمري على فمي لتستقبله شفتاي بنشوة زائدة، وحبات الخوخ والأجاص اليانع تصل إلى يدي دون عناء، وأراني أتعثر بالبطيخ وتعرقلني الأزهار أثناء سيري حتى أهوى على العشب النضير

إبراهيم سكيك

معلم أول اللغة الإنكليزية بمدرسة الإمام الشافعي الثانوية غزة