انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 888/صوم رمضان بين العلم والأدب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 888/صوم رمضان بين العلم والأدب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1950



للأستاذ ضياء الدخيلي

- 3 -

ومن الزهاد من عاف اللذائذ لإسعاد الناس كما فعل الأمام علي (ع) لم يشأ أن يمتع نفسه باللذات لأنه رأى أنه فعل ذلك توسع الولاة ومن بيدهم أمر الأمة الإسلامية في البذخ والنعيم حتى يرهقوا الرعية كما فعل من بعده الأمويون والعباسيون واتباعهم - فزهد ليسعد الناس، بل أنه اخذ ولاته بالزهد وترك الانقياد لأطايب الأطعمة كما فعل في استنكاره على واليه على البصرة عندما سمع بإقباله على الولائم الشهية فحذره من سوء المصرع بكتاب وانذره.

ومن الزهاد من عاف الملذات تديناً ناسياً إن الشرائع شرعت لإسعاد الناس فمن أتبعها رضي الله عنه لأنه عمل لإسعاد عباده وأن الله لم يجعل تعذيب النفوس سبيلا لرضاه. . .

وكان الكلييون من فلاسفة اليونان يعلمون الناس إن الآلهة منزهة عن الاحتياج، فخيركم من تخلف بأخلاق الآلهة فقلل من حاجاته جهد الطاقة وقنع بالقليل وتحمل الآلام واستهان بها واحتقر الغنى وزهد في اللذائذ. ومن أشهر رجال هذا المذهب (ديو جانيس الكلبي) مات سنة 323 ق. م وقد كان يعلم أصحابه أن يتركوا التكلف الذي اقتضاه اصطلاح الناس وأوضاعهم، وكان يلبس الخشن من الثياب ويأكل رديء الطعام وينام على الأرضويرى مع باقي الفلاسفة الكلبيين أن السعادة في الفرار من اللذة وتقليلها جهد الطاقة وهذا إفراط تأباه الشريعة الإسلامية. العملية التي سايرت المدنية والعلم وطبقت في مختلف بقاع الأرض فنجحت من صحراء الحجاز ونجد اليمامة إلى فردوس الأندلس وجنوبي إيطاليا وصقلية وغربي فرنسا وجنوبيها، إلى جنان مصر والعراق وسوريا وإيران وتركيا، إلى ما وراء النهر والهند والتبت وزنجبار وغربي أفريقيا واليمن - فلاءمت البدو والحضر في أوربا وآسيا وأفريقيا وأمريكا (إن شاء الله)

ولا تنس إن مقابل أولئك الفلاسفة المتزمتين الذين قاطعوا الملذات وتحرجوا من معاقرتها - يوجد فلاسفة آخرون أفرطوا في ما ذهبوا إليه كما أفرط خصومهم، فهؤلاء يرون إطلاق المرء لنفسه العنان وأن يمكنها من كل ملذات الحياة، يرون أن الإنسان في هذه الحياة إ خلق ليتنعم ولم يمنح العقل إلا ليبحث له عن وسائل النعيم وطرقه، فهو لذلك يعب اللذائذ عبا ويكرع من مجرها بإفراط، وينهمك في معاقرها ما استطاع. وهذا ضار بالفرد هادم للمجموع، فلو أبحنا لكل إنسان أن يتلذذ كما يشاء وألفينا حبل الفرد على غاريه يعبث كما توحي له أهواؤه ما انتظم شأن مجتمع ولتعارضت شهوات الأفراد وكانت الفوضى المطلقة. وان جمعية أفرادها ليسوا إعفاء أعني أنهم لا تحكمهم إلا أهواؤهم وشهواتهم الحسية - لتحمل معها بذور الانحلال والانحطاط. وهي آيلة إلى الدمار والتمزق لا محالة - وفضيلة العفة تتطلب من الإنسان القصد في اللذائذ، فإن هو افرط فأنهمك في شهواته أو فرط فأماتها وبالغ في الزهد فقد حاد عن سواء السبيل وابتعد عن نهج الإسلام الشريعة السمحة التي ترى خير طريق في الحياة أن نبيل المرء نفسه ملذاتها الطيبة ويعطيها مشتهياتها ما لم تخرج عن حدود الأخلاق فذلك أدعى إلى نشاطها وأقرب إلى طبيعتها، إنما يجب أن لا تتجاوز الحدود المشروعة ففي داخلها من الملذات ما هو أضمن للسعادة الفردية ولسلامة المجموع ونبراس ذلك الآيات الكريمة

(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة (كلوا واشربوا ولا تسرفوا)

(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طبيات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه)

(يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين)

قال الطبرسي من القرن السادس الهجري في (مجمع البيان في تفسير القرآن) ثم خاطب سبحانه المؤمنين وذكر نعمه الظاهرة عليهم وإحسانه إليهم فقال يا أيها الذين آمنوا كلوا - ظاهره الأمر والمراد به الإباحة لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد وقيل أنه أمر في وجهين أحدهما يأكل الحلال والآخر بالأكل وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس. قال القاضي وهذا مما يعرض في بعض الأوقات وقوله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي مما تستلذونه وتستطيبونه من الرزق.

وأقول أن من ينتبه إلى ما قيد به الصوفية أنفسهم وحرموا عليها ما أباحه الشرع الشريف من أطايب الطعام والشراب استصوب حمل (كلوا) على الأمر الإيجابي لهؤلاء الذين ضلوا عن سواء السبيل وتتكبوا نهج الطريق وكأنهم تأثروا بما نقل إلى اللغة العربية من إنكار الوثنيين من اليونان كالكلبيين أو من أديان الأمم غير المسلمة كالبراهمة من الهنود ثم حوروا تلك الفلسفات وفق تعاليم الإسلام وحوروا الإسلام فقها فنشأت ضلالات الصوفية وأباطيلهم وضاع جمال الإسلام شريعة العمران العملية. ومن وجهة ثانية لقد نهى الإسلام أن نندفع وراء الملذات اندفاعاً أعمى فقد تقودنا إلى المهالك. ونبراس ذلك الآيات الكريمة (ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى) (افرأيت من اتخذ إله هواه)

قال الطريحي في مجمع البحرين أي ما تميل إليه نفسه والهوى مصدر هويه إذا أحبه واشتهاه ثم سمي به الهوى أي الشيء المشتهي محموداً أو مذموماً. ثم غلب على غير المحمود وقيل فلان أتبع هواه إذا أريد ذمه سمي بذلك لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية أي جهنم قال تعالى (وأما من خفت موازينه فأمه هاوية) قيل هاوية من أسماء جهنم وكأنها النار العميقة يهوى أهل النار فيها مهوى بعيداً أي فمأواه النار. (وان كثيراً ليضلون بأهوائهم) أي باتباع أهوائهم وقال تعالى (أو كالذي استهوته الشياطين في الأرض)

فهذه الآيات صريحة في التحذير من الانجراف بتيار الأهواء والشهوات وأتباع خطوات شيطان العاطفة الحمقاء حيث تهوي بالإنسان إلى مصرع السوء ويلقى في النهاية جهنم عذاب الخطيئة وسوء مغبة الأجرام وعاقبته. وكما قدمنا إن الجرائم مبعثها الانصياع لرغبة الأهواء والشهوات الجامحة التي حذرنا الإسلام من موبقاتها وأنب الكارعين من أقذار حمأنها ولقد حاول الإسلام أن يدربنا بالصوم على عصيان الهوى وطاعة العقل، وكأن الإسلام حاول أن يكبح بالصوم جماح النفس ويصدمها ويعاكس أهواءها فهو بدلا من أن يساير فلسفة هؤلاء المعذبين أنفسهم ويتبعها على طول الخط - خصص فترة من الزمن لحرمان النفس من أهوائها وتصبيرها على المكاره وخشونة العيش، وعلم المرء كيف يقاومها ويجر لجامها وينهرها ويصرخ في وجهها، فكأنه تمشي مع مبدأ الأستاذ (جيمس) القائل بأنه يجب أن نحافظ على قوة مقاومة المصائب إذا حان حينها - بل الحق إن هذا المفكر الغربي هو الذي أقتبس فلسفته من الإسلام أخذها من حكمة الصوم؛ فأوريا مدينة للإسلام في يقظتها ورشدها وهدايتها ومنه أخذت النور والحضارة، وفلاسفتها تلاميذ على فلاسفة الإسلام كابن رشد والفارابي وأبن سينا ونصير أبن الطوسي وغيرهم.

وكيفما كان الأمر فإن الإسلام الذي حاول بالصوم تعليم أتباعه ضبط النفس لم يقصد بذلك القضاء على الرغبات والشهوات كما ظن الضالون من الصوفية فقد صرخ الإسلام بمتبعه (ولا تنس نصيبك من الدنيا) وإنما أراد وحاول تهذيبها واعتدالها وجعلها خاضعة لحكم العقل، ففي القضاء على الشهوات قضاء على الشخص وعلى النوع الإنساني وفي اعتدالها سعادتهما معاً.

وعلى كل حال إننا بالصوم نتعلم احتمال مكاره الحياة ومشاقها وجوعها وعطشها وحرمانها، ولم يقصد بهذه العبادة أن نضل ونفرط في تعذيب النفس بالجوع بل دعا الإسلام أن نكون أمة وسطا؛ ففي الوقت الذي أباح لنا التمتع بنعم الله وطيبات الرزق أراد أيضاً أن نواسي الفقراء والمعوزين واليتامى والمنبوذين في جوعهم وآلامهم ليشعر الأغنياء بما يلاقي البؤساء من مضض الحياة المرة وقسوة أحكامها الصارمة أحياناً على الفقراء والأرامل. وقد كان الإمام علي (ع) يكرر طلب ذلك من المسلمين في خطبه في جامع الكوفة ويستشهد بقول الشاعر

وحسبك داء أن تنام ببطنة ... وحولك أكباد تحن إلى القد

والقد هو سير يقد من جلد غير مدبوغ وهذا كناية عن فرط جوعهم حتى أنهم ليشتهون ويحنون إلى أكل الجلد اليابس. لقد حاول الإسلام أن يجيع الأغنياء ليذكرهم بجياع الفقراء واليتامى المعوزين حتى يواسوهم، وبذلك يزرعون في قلوبهم حبهم والميل إليهم فلا تبقى هذه النفرة بين الطبقات وتنفي وتنعدم أسباب الثورات الشيوعية كما حدثت ثورة القرامطة مؤلفة من الزنوج الذين كان يرهقهم أسيادهم، وقد حض السلام على إطعام الفقراء قال. الطبرسي في تفسير الآية الكريمة (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) خير الله المطيقين للصوم من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا، وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بإطعام مسكين لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ بقوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه. هذا مضافا إلى ما أمر به الإسلام من الصدقات.

لقد حاول الإسلام أن يعيش الناس أخوانا، ودعانا إلى أن نتجرع نكد العيش اختباراً حكماً نافذاً على الجميع من دون تفريق إلا بالمرض والضعف، وأن نذوق بؤس الحياة بالصوم اختباراً حتى لا يصرعنا إذا حملناه كرها؛ ولكنه اشترط لصحة الصوم أن لايؤذي صاحبه لمرض فيه ولا يهدم بنيته بآثاره، فنهى أن يتجرع كأس الصوم المرضى والمسافرون الذين تكفيهم غربتهم في أتعابهم وترويض أنفسهم على مشاق الحياة وجشوبة العيش وخشونته ونبراس ذلك الآية الكريمة:

(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان؛ فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر. يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ولابد أن تستجلي رأي الطب الحديث في الصوم. . . لقد أجرى العلماء تجارب عديدة على الحيوانات لمعرفة تأثير الصوم فيها. وقد ذكرت تلك التجارب في كتب الفسلجة والكيمياء الحيوية المطولة. ويتلخص رأي الطب الحديث في أنه يرى الصوم واسطة لإراحة الجهاز الهضمي وإذابة الشحوم الزائدة في البدن، إذ أن الجسم يستهلكها عند انقطاع الزاد الخارجي - في توليد الطاقة الحرارية، وإذن فإن الجسم يستريح من الشحم الزائد ويكتسب البدن رشاقة الغزال الأهيف وخفة حركاته. وكذلك فإن جسم الصائم يسطو على ما اختزن من السكريات فيستهلكها. والجوع يرهف الحواس؛ ألا ترى أن الوحوش تضري إذا جاعت وتستيقظ قواها الحيوية للافتراس وخوض معارك الحياة؟ والأمم تنهض للفتح والغلبة ونهب خيرات غيرها إذا شحت أرزاقها فجاعت. ونرى قبائل البدو في الصحراء الغربية تشن غاراتها غازية من تتوفر في يدها الأنعام إذا أجدبت البادية. ولقد قامت القبائل العربية بأكبر غزو عندما جمع شملها تحت لواء الدعوة الإسلامية - فدكت إمبراطورتي فارس وروما وبسطت جيوشها على القسم المعمور من الأرض في فترة وجيزة، وعبرت من أفريقيا البحر إلى أوربا فاستولت على أسبانيا وتوغلت في فرنسا وحكمت نصف إيطاليا الجنوبي واستولت على ممرات جبال الألب وشنت غاراتها على أواسط أوربا في سويسرا - هذا في الميدان الغربي - أما في الشرق فقد ضربت حدود الصين وأخضع العرب أهم أمم آسيا وبسطوا نفوذهم على القسم المعمور المتمدن منها ومن شمالي أفريقيا. ولو دققنا النظر لوجدنا أن العامل البيولوجي الذي حفز العرب وأنهضهم إلى الغزو هو شح بلادهم وجدبها. وقد هداهم الإسلام بشريعته القويمة إلى الطريق المستقيم وأنقذهم من الفوضى والضلالة ووحدهم ودفع بهم إلى ينابيع الثروة في أخصب بقاع الأرض ليتخلصوا من جدب الصحراء وجوعها وعطشها. وهذا هو ما قالته السيدة الزهراء (ع) للعرب من أنصار ومهاجرين عندما خطبت يوم السقيفة في المدينة بعد وفاة أبيها الرسول (ص) فكان فضل الجوع على الإنسان جليلا فهو الذي يفتح العبقريات الراقدة - والحاجة كما قيل أم الاختراع - هذا من الوجهة الأدبية أما من الناحية الفسلجية الطبية فإن هليبرئون يقول في كتابه في الفسلجة في بحث الجوع إن الجسم يحرق في صومه المواد السكرية المخزونة فيه ويستهلك بتقتير النشأ الحيواني ولا ينال النقص القسم المخزون منه في العضلة القلبية وباقي العضلات، ولكن الشحم والدهن يحترقان بصورة واسعة ويمسيان أخيراً المنبع الوحيد للطاقة الحرارية، وأن الذي يحترق من المواد الدهنية من بدن الصائم هو الجزء المخزون في المستدوعات وفي محلات اختزانه لوقت الحاجة وذلك كما في الثرب وتحت الجلد وبين طيات الأمعاء تلك المواضع التي أعتاد البدن أن يحفظ فيها القسم الفائض عن حاجته من الأغذية ويعده لليوم الأسود؛ فليس الجسم بمحرق أثناء الصوم الدهون الداخلة في تركيب كيان الحجيرات الجسمية والمكونة لمادة البروتويلازم. أهذا ما يذكر في كتب الفسلجة وفي كتب الطب ذكروا الصوم كعلاج للسمانة المفرطة كما ذكره (سافيل) في كتابه في الطب التشخيصي وذكر (تايلار) في كتابه في مزاولة الطب إن المصابين بالسمانة الزائدة يصومون في فترات تمتد عدة أيام وقد سمح لهم بالخضر فقط مع الفواكه الطرية الجديدة مع قليل من السمك. وطبعاً أن هذا في حالة امتداد الصوم لعدة أيام فهو أشد من الصوم الإسلامي الذي ينتهي أمده في نهاية اثنتي عشر ساعة فقط فلذلك سمحوا له بقليل من الأغذية. وذكر الصوم كعلاج للسمانة في كتاب (برابس) في ممارسة الطب الذي ألفه جماعه من كبار الأطباء وقد جاء فيه: لمعالجة السمانة الطفيفة يحدد تناول النشويات والدهنيات مع القيام الزائد بالرياضة الجسمية وهذا هو أساس العلاج المنسوب إلى (بانتينك) وهذا هو رجل إنكليزي عاش (1707 - 1878م) وابتكر طريقته في معالجة السمانة، ويعتمد علاجه على استخدام الصوم عن الأغذية بنظام خاص. ويستمر المؤلف فيصف للسمانة المفرطة صوماً أشد. ولسنا بمقام التفصيل وإنما أردنا تقرير أن الطب أعتمد على الصوم إجمالا في معالجة السمانة.

للكلام صلة

ضياء الدخيلي